قد يكون خطر على بالك يومًا أنْ تتساءل عن الأسباب التي تجعلك تفضّل ما تفضّله وتأنف ما تأنفه. أعني، أنتَ تفضّل نوعًا معيّنًا من الموسيقى أو طريقة اللباس وتنجذب لها، تمامًا كما تكره أخرى وتأنف منها، فكيف اكتسبتَ ذوقك هذا؟ أو ربما فكرتَ في كيفية اختلاف ذوقك الحاليّ عن ذوقك قبل عدة سنوات على سبيل المثال.
ربما كان كلٌ من “الحداثة” و”الأُلفة” من ضمن أبسط الأجوبة وأوضحها، فنحنُ نغيّر ذوقنا تبعًا لما يتم استحداثه وما نجده أمامنا من تغييرات تمامًا كما نكتسبه بناءً على الألفة والتعويد، لكنّ الموضوع ليس بتلك البساطة أبدًا، فلطالما كان الذوق الفنيّ محط نقاشٍ واسعٍ وعريضٍ في المدارس الفلسفية والعلوم الاجتماعية والنفسية والاقتصادية المختلفة.
علم الجَماليات والأذواق
اهتمّ الفلاسفة، كأفلاطون وهيوم وكانط، منذ زمنٍ طويل بالجَمال والذوق الجَماليّ كأحد المواضيع الأساسية في الفلسفة والعلوم الإنسانية. ومع بدايات القرن السابع عشر أصبحت المسألة موضع إشكال في سياقها الاجتماعي، فقام المعجم الفلسفي بإدراج مصطلح “Aesthetics” المأخوذ عن اليونانية والذي يعني حرفيًّا “علم الجَمال” أو “علم التذوّق الفني” والذي يُعنى بدراسة الجمال والتذوق، سواء في شكلٍ كوميديّ أو تراجيديّ أو متسامي.
“Aesthetics” أو “علم الجَمال” أو “علم التذوّق الفني” يُعنى بدراسة الجمال والتذوق، سواء في شكلٍ كوميديّ أو تراجيديّ أو متسامي.
وعلى الرغم من أنه قد يكون من المستحيل بمكان إيجاد تعريفٍ واحدٍ يستطيع الإلمام بكلٍ من مصطلحيْ “الجَمال” و”الذوق الفنّي”، إلا أنّ ثمّة تعريفات قد نستطيع العودة إليها لفهمهما بصورة أوضح. فعلى سبيل المثال، عرّف هربرت ريد الجمال بأنه وَحدة العلاقات الشكلية بين الأشياء التي تدركها حواسّنا. أما هيجل فكان يرى الجمال بأته ذلك الجنّيّ الأنيس الذي نصادفه في كلّ مكان. وقد عرّفه جون ديوي بأنه فعل الإدراك والتذوّق للعلم الفنيّ.
فمصطلح “Aesthetics” أساسًا يشير حرفيًّا إلى الإدراك الحسي والفهم أو المعرفة الحسية. أما في القرن الثامن عشر فقد غيّر الفيلسوف الألمانيّ “ألكسندر جوتليب بومجارتن” معنى المصطلح إلى إشباع الحواس أو الإحساس بالبهجة، نظرًا لأنّ أيّ عملٍ فنيٍّ ينبغي عليه الوصول إلى درجةٍ متسامية من إشباع الحواسّ بالبهجة المصاحبة له. وبذلك، نستطيع القول أنّ علم الجَمال يعدّ قديمًا وحديثًا في آنٍ واحد، إذ انبثق حديثًا بعد تأمّل فلسفيٍّ طويل قديم فيما وراء الجَمال والذوق والفنون والمواضيع المتعلّقة بها.
يدرس علم الاجتماع الجَماليّ العلاقة الوثيقة والمعقّدة بين الاستهلاك والذّوق الجَماليّ للأفراد
الاقتصاد وطبقات المجتمع كمحرّكين أساسين للأذواق
اعتنى علم الاجتماع بالجَمال كموضوع يمكن تفسيره من خلال السياق الثقافي والاجتماعيّ للأفراد والجماعات فيما يُطلق عليه بمصطلح “علم الاجتماع الجَمالي”. ولعلّ أهمّ ما ركّز عليه علم الاجتماع هو العلاقة الوثيقة والمعقّدة بين الاستهلاك والذّوق الجَماليّ للأفراد. فتفضيل أنواع معينة من الملابس والمأكولات والمُنتجات والسلع الأخرى تؤثر بشكلٍ مباشر على خيارات المستهلك في السوق الاقتصاديّ، كما أنّ السوق يؤثّر بدوره على ذوق المستهلكين وتفضيلاتهم الجَمالية. وبكلماتٍ أخرى يمكننا القول أنّ الذوق الجَمالي يخلق الطلب الذي بدوره يخلق أو يؤدي إلى العَرض.
الذوق ليس ملكة فطرية طبيعية عند الإنسان، بل هو نتيجة وسطه الاجتماعي وعملية التذوق تتحدد انطلاقًا من الموقع الذي يحتله الفرد داخل المجتمع
ولعلّ أبرز نظريات علم الاجتماع المتعلقة بالذوق الفني هي نظرية عالم الاجتماع الفرنسي “بيير بورديو“، التي يرى من خلالها أنّ الذوق ليس ملكة فطرية طبيعية عند الإنسان و ليس مُعطىً طبيعيًا في الذات الإنسانية، بل هو نتيجة وسطه الاجتماعي، وأنّ عملية التذوق تتحدد انطلاقًا من الموقع الذي يحتله الفرد داخل المجتمع. ومن خلال تقييم العلاقات بين أنماط الاستهلاك وتوزيع رأس المال الاقتصادي والثقافي، درس بورديو الأذواق الطبقية المتميزة داخل المجتمع الفرنسي في الستينات.
ونظرًا لأنّ المجتمعات هي طبقية بالضرورة، فيرى بورديو أنّ الانتماء الاجتماعي لطبقة معينة هو الذي يحدد ذوق كل فرد على حدة، وبالتالي فالذوق الفني كنشاط ثقافي يبقى بعيدًا عن التحديدات الذاتية ولا يُعتبر الفرد مسؤولًا عنها، بل إنها سلوكيات اجتماعية استلهمها الفرد من محيطه الاجتماعي. كما يشير بورديو في نظريته إلى أنّ العامل الاقتصادي له دور حاسم في تحديد الذوق الفرديّ نظرًا لأنه هو ما يحدّد موقع الفرد داخل السلّم الاجتماعيّ والثقافي.
العامل الاقتصادي له دور حاسم في تحديد الذوق الفرديّ نظرًا لأنه هو ما يحدّد موقع الفرد داخل السلّم الاجتماعيّ والثقافي.
وبذلك يكون بورديو والعديد من نظريات علم الاجتماع الحديثة خالفت الكثير من الآراء الفلسفية القديمة التي ترى في الذوق الفنيّ موضوعًا فطريًّا طبيعيًّا يمتلكه الإنسان ويطوّره من تلقاء نفسه، تمامًا كما كان إيمانويل كانط يرى بأنّ الذوق هو ميولٌ نزيه لا يرتبط بشيءٍ ما خارجيّ.
وإنما، بالنسبة لبورديو، ما نسميه الذوق هو مجرد مجموعة من الارتباطات الرمزية التي نستخدمها لنميّز أنفسنا ونثبت تفرّدها عن أولئك الذين نعتقد أنهم أدنى منّا اجتماعيًا. وعلى الرغم من أنّ قاعدة استهلاك الثقافة قد اتسعت وتمت ديموقراطيتها في السنوات الأخيرة، إلا أنها لا تزال تمثل نشاطًا طبقيًا بطريقةٍ أو بأخرى.
وقريبًا من رأي بورديو، فقد رأى عالم الاجتماع الألماني “جورج سيمل” أنّ الموضة والأزياء والذوق المتعلّق بهما هو أداة للتميز الاجتماعيّ والطبقيّ، وهي ليست معاييرَ جمالية أو نفعية أبدًا. ووفقًا لسيمل، فارتداء الملابس والتحلي بأدوات العصر والصبغة وصيحات الموسم، أو اتخاذ قناعات جديدة وأحكام معيارية مبتكرة وحتى التلفظ ببعض التعابير التي لم تكن معهودة، هي في الوقت نفسه مجاراة للآخرين باتباع التيار، والتميّز عمن تخلفوا عن الركب، إما لأنهم لا يملكون الإمكانات المادية أو بُعد النظر المزعوم للخروج من الزحام. فالموضة تجمع بين الامتثالية الجمعية والتظاهر بالقرار الفردي، بين الخضوع لإملاءات تعسفية والمطالبة بالجدة الفردية.
يقترح علماء الاجتماع أن الناس يكشفون الكثير عن مواقعهم في التسلسلات الهرمية الاجتماعية عن طريق كيفية تكشّف خياراتهم اليومية التي تعكس أذواقهم. فتفضيل بعض السلع الاستهلاكية والأدوات الفنية والمظاهر والأخلاق جميعها تخضع لمعايير المحاكاة الاجتماعية والتقليد، فالناس يرغبون في تمييز أنفسهم عن أولئك مَن هم في طبقاتٍ أدنى في التسلسل الهرمي الاجتماعي، الذين بدورهم سوف يقلّدون ويحاكون من هم في الطبقات العليا رغبةً في التشبّه بهم.
يميل أعضاء الطبقات العليا لإثبات تفوقهم وتميّزهم في أذواقهم، لكنّهم سُرعان ما يجدون الطبقات الوسطى والدُنيا قد قامت بتقليدهم ومحاكاتهم لذلك يبدأون بالبحث عن أذواق جديدة ليستمروا في تميّزهم المنشود.
ووفقًا لسيمل مجدّدًا، يميل أعضاء الطبقات العليا لإثبات تفوقهم وتميّزهم في أذواقهم، لكنّهم سُرعان ما يجدون الطبقات الوسطى والدُنيا قد قامت بتقليدهم ومحاكاتهم. وباعتبار أنّ السلع والمظاهر والأساليب والأذواق التي تم اتخاذها كعلامات تمييزية عالية المستوى، أصبحت ذات شعبية كبيرة بين الطبقات المختلفة، فإنها تفقد وظيفتها للتمييز. لذا تبدأ الطبقات العليا بالبحث عن ابتكارات وأذواقَ جديدة لتستمرّ في تميّزها المنشود.
نظرية التعويض: ننجذب للذوق الذي يعوّض نواقصنا
يركّز علم النفس في المقام الأول على الآليات النفسية التي تحكم عمل الذوق، ويحاول بدوره الإجابة على العديد من الأسئلة من قبيل لماذا نملك الذوق الذي نملكه كأفراد؟ أو لماذا ننجذب لأشياء وأساليب معينة ونأنف من أخرى ولا نهضمها؟ أو كيف ينظر الناس ويسمعون ويتخيلون ويفكرون ويتعلمون ويتصرفون فيما يتعلق بمواد ومشكلات الفن؟
نحن جميعًا غير متوازنين في الداخل وننجذب إلى تلك الأذواق والأساليب من حولنا التي نعتقد أنها قادرة على تعويضنا عن الأشياء التي نفتقر إليها
مبدئيًا، قد تكون أفضل طريقة لتفسير ذلك هي من خلال نظرية التعويض. نحن جميعًا غير متوازنين في الداخل وننجذب إلى تلك الأذواق والأساليب من حولنا التي نعتقد أنها قادرة على تعويضنا عن الأشياء التي نفتقر إليها. فعلى سبيل المثال، من الممكن أنْ ينجذب الأشخاص الذين يشعرون بفوضى داخلية وازدحام جوّاني إلى الفنّ النقيّ الجالب للسكينة والطمأنينة والمريح للحواسّ الخارجية. وبالمثل، فإن الأشخاص الذين يعانون من إرهاق وتعب الحياة العصرية بقسوتها المفرطة وإيقاعها السريع ورهبتها التكنولوجية، فمن المرجح أن يكونوا أكثر انجذابًا إلى ما هو هادئ وطبيعيّ وريفيّ.
الذوق الجَمالي نتيجةً للتطوّر
ينظر علم النفس التطوّري للذوق الجَماليّ على أنه نتيجةَ التكيّف الذي تنصّ عليه النظرية الداروينية. إذ يرى الفيلسوف الأمريكي “دينيس دوتون” أنّ تجربة الجمال، بشدتها العاطفية ومتعتها، ترجع إلى سنواتٍ من تاريخ البشرية. وكما هو معروفٌ فالتطّور وفقًا لداروين قد عمل من خلال آليتين اثنتين رئيسيّتين: الانتقاء الطبيعي والانتقاء الجنسيّ.
وفي حين أنّ الانتقاء الطبيعي كان يهدف إلى نقل الصفات التي تعطي للكائن الحي قدرة و فرصة أكبر للبقاء و نشر جيناته إلى الأجيال اللاحقة، فإنّ الانتقاء الجنسيّ هدف إلى تطوير ونقل الصفات التي تساعد الكائنات الحية على التزاوج والاستمرار من خلال النجاح الإنجابيّ. فما علاقة ذلك بالذوق إذن؟
ذيل الطاووس الجميل لم يتطوّر للبقاء، وإنّما كوسيلة لاستمرارية التزاوج ولفت انتباه الأنثى، وبالتالي يمكننا أنْ نقول أن تجربة الجمال والتذوّق الفنّي هي إحدى الطرق التي يؤدي بها التطور إلى إثارة الاهتمام أو الإفتتان. الطاووس مثالٌ بسيط وشهير، لكنْ فكّر بالأمر من جميع النواحي، بدءًا من الإنسان حتى المناظر الطبيعية والكونية. أليس طريقنا للتطوّر ووصولنا إلى ما نحن عليه الآن كان في النهاية بهدف الافتتان وإثارة الانتباه، ما يعني أنّنا منذ آلاف السنوات امتلكنا ذوقًا فنيًّا جميلًا وانجذبنا نحوه وعرفنا أهميته لبقائنا واستمرارنا بالمقام الأول.
تجربة الجمال والتذوّق الفنّي هي إحدى الطرق التي يؤدي بها التطور إلى إثارة الاهتمام أو الإفتتان وبالتالي إلى الاستمرار والبقاء
وبذلك، نستطيع القول أنّ علم النفس التطوري لا يرى أنّ الجَمال في عين الرائي وحسب، بل هو جزءٌ أصيل متأصّل في ذهنه ووعيه وبنيويته التطورية التي اكتسبها عن أسلافه منذ آلاف السنين الغابرة. وبالتالي، فإنّ ذوقتنا الفنيّ تجاه أيْ شيء في الحياة، الموسيقى والملابس والتصاميم والطبيعة واللوحات والأدب وغيرها الكثير من التفاصيل، هو مَلَكة نحملها معنا منذ القدم وستستمرُّ مع أحفادنا طالما بقي الجنس البشريّ موجودًا، تمامًا كما يخبرنا علم النفس التطوري.