برز في جبال الأطلس بالمغرب خلال القرن الثاني عشر ميلادي فقيه أمازيغي ادّعى أنه المهدي المنتظر، يحمل اسم محمد بن تومرت، أخذ على عاتقه مهمة إصلاح المجتمع ونشر عقيدة التوحيد بعد أن تفشى الفساد والضلالة فيه.
نجح ابن تومرت في زعزعت حكم المرابطين وسمّى جماعته “الموحدين” نسبة إلى العقيدة التي يحملها، وفي عهد الخليفة عبد المؤمن بن علي أسقط الموحدون دولة المرابطين، وأخضعوا المغرب واستولوا على عاصمة الحكم مراكش، التي أصبحت فيما بعد عاصمة الموحدين.
وحّد عبد المؤمن بن علي لأول مرة بلاد المغرب تحت راية واحدة، ووصل حكم الموحدين في عهده إلى جزء كبير من أراضي الأندلس المسلمة، وفي عهد خليفته أبو يعقوب يوسف (1163-1184) أُرغمت إشبيلية على الاستسلام وكان ذلك في العام 1172، ثم تلا ذلك امتداد حكم الموحدين إلى بقية الأندلس.
اشتهر ثاني خلفاء الدولة الموحدية بحبّه الكبير للجهاد، وكان دائم الغزو والتجهيز له، واعتنى بالجيوش وقواها، حتى أنه قد ألّف رسالة مشهورة في فضل الجهاد في سبيل الله ومكانته والحض عليه، وصارت هذه الرسالة تطبع وتدرّس حتى وقت قريب، كما أنه جمع بين المعرفة بعلوم الدين والاهتمام بالفلسفة وعلومها، وهو ما سنتطرق إليه في هذا التقرير ضمن ملف “نهضة الموحدين”.
تنشئة دينية
يوم 15 رجب 533هـ الموافق لـ 17 فبراير/ شباط 1139مـ، شهدت مدينة تينمل بالأطلس الكبير الغربي ولادة خليفة الموحدين الثاني أبو يعقوب يوسف بن عبد المؤمن، وقد اجتهد والده وأمه صفية بنت أبي عمران في تربيته تمهيدًا لتسلُّمه مقاليد الحكم.
حفظ الأمير أبو يعقوب يوسف بن عبد المؤمن القرآن الكريم وتدبّر معانيه صغيرًا، وحرص على مجالسة العلماء والشيوخ والتفقه في الدين الإسلامي الحنيف، وكان تابعًا للمدرسة الظاهرية مثله مثل باقي أغلب سلالة الحكم في الدولة الموحدية.
تنادي هذه المدرسة بالعودة إلى الأصول متمسكة بالقرآن والسنّة كمصدرَين وحيدَين للتشريع، وما عداهما من الأمور تعتبَر ظنية كالرأي والقياس واستحسان ومصالح مرسلة وسد الذرائع، وتسعى المدرسة الظاهرية إلى تقرير مراد الله من العباد في اتّباع البراهين المثبتة من كتاب الله وسنّة نبيه وإجماع الصحابة.
فضلًا عن حفظ القرآن، حفظ أبو يعقوب يوسف صحيح البخاري بسنده الخاص به، وقبل ذلك تعلم اللغة العربية كتابة ونطقًا، فكان فصيحًا بليغًا صاحب حجّة وبرهان، ما جعل والده يقرّبه إليه وإلى مجلس الحكم حتى ينمي شخصيته القيادية أكثر.
كما حرص خليفة الموحدين عبد المؤمن على تعليم ابنه يوسف أسوة بإخوته فنون الفروسية، وقرن بهم أكمَلَ رجال الحرب والمعارف، فنشأوا على ظهور الخيل بين أبطال الفرسان.
خلافة الموحدين
بداية مايو/ أيار 1163 اشتدّ المرض بخليفة المسلمين عبد المؤمن بن علي، وبقيَ طريح الفراش لأيام وليالٍ عديدة بمدينة سلا المغربية، إلى أن وافته المنية يوم 16 من الشهر نفسه، وكان حينها عازمًا على غزو الأندلس وضمّ ما بقيَ منها إلى حكم الموحدين.
خلف عبد المؤمن في الحكم ابنه محمد وكان قد ولّاه ولاية العهد قبل موته، إلا أن محمد لم يكن يصلح للحكم وفق ما ورد في عدد من المراجع التاريخية لأسباب عديدة، أبرزها طيشه وعدم تضلعه بتعاليم الدين الإسلامي الحنيف وارتكابه عديد المعاصي كشرب الخمر.
حكم محمد أيامًا قليلة، ثم اتفق وجهاء الدولة على خلعه، ودار أمر الخلافة بين اثنين من ولد عبد المؤمن هما يوسف وعمر، وكانا من نُبهاء أولاده ونجبائهم وذوي الرأي السديد، فأباها عمر وبايع لأخيه أبي يعقوب وسلّم له الأمر، وكان يبلغ من العمر 22 عامًا.
عارض بعض أبناء عبد المؤمن في البداية تولي أخوهم محمد حكم الموحدين، ففيهم الأكبر سنًّا منه، لكن سرعان ما زالت هذه الاعتراضات وتوجّه خليفة المسلمين الجديد لتقوية دولة الموحدين، وإخماد الثورات التي قامت ضدّ الدولة ومواصلة الجهاد في سبيل الله.
جهاد متواصل
مواصلة لنهج والده عبد المؤمن، اهتم أبو يعقوب يوسف بالجانب العسكري، وكان جيشه حينها مشكّلًا من قبائل أمازيغية (الزناتة، صنهاجة، مصامدة، الكومية..) وعربية (بني هلال، بني سليم..) والأندلسيين والأغزاز (الأتراك الذين دخلوا أفريقيا ابتداء من حملة قراقوش) والروم العلوج والسودان، وأُسندت قيادة الجيش إلى العائلة الحاكمة والشيوخ وأبنائهم.
حتى تقوى الدولة أكثر لا بدَّ من إخماد الفتن، فتوجه الخليفة الموحدي لبسط نفوذ الخلافة على كامل المنطقة، وصادف ذلك ثورة سَبُع بن حيّان، ومززدغ في غُمارة، وهي إحدى القبائل الأمازيغية بشمال المغرب (جبال الريف)، وفرع من المجموعة القَبَلية الكبرى مصمودة.
تحرك الخليفة أبو يعقوب الموحدي إلى جبال غمارة لما كان ظهر بها من الفتنة، ونازعهم في الفتنة جيرانهم من صنهاجة، وأوقع بهم واستأصلهم وقتل قادتهم وانحسرت ثورتهم وتلاشت أصواتهم، وكان ذلك سنة 562هـ.
بعد استتباب الأمر في بلاد المغرب، وجّه الخليفة الموحدي جيوشه لمحاربة النصارى في بلاد الأندلس وباقي الإمارات الإسلامية التي لم تنضم إلى ملك الموحدين، وأمر العلماء أن يجمعوا أحاديث في الجهاد تملى على الجند لحثّهم على الجهاد.
كانت البداية بمواجهة محمد بن سعد بن مردنيش صاحب مُرسية وبلنسية الراغبة في تقوية إمارته وتوسيع حكمه، فقضى جيش الموحدين على بن مردنيش واستولوا على بلاده، وفي طريقهم فتحوا أندوجر ومدنًا كثيرة، ومن ثم أقام الخليفة في إشبيلية سنتين ونصف بعد أن استعاد كل ما خسره المسلمون جنوبي وادي التاجة، ثم رجع إلى سوس المغرب.
وجاء رجوع أبو يعقوب يوسف إلى المغرب بعد أن بلغ إلى مسامعه تجدد الثورات والفتن في البلاد، وأبرزها ثورة مدينة قفصة في أفريقيا ضدّ حكمه، فبلغها سنة 575هـ وحاصرها وتمكّن من القبض على قائد الثورة علي بن الرند وإعادة المدينة إلى حكم الموحدين.
من ثم توجّه الخليفة الموحدي إلى تونس، وهناك هادن صاحب صقلية الأفرنجي، على أن يحمل كل سنة ضريبة على النصارى، وقبل تلك الهدنة بسنوات كانت صقلية تحت حكم المسلمين، وحكمَ العرب المسلمون الجزيرة المتوسطية طوال قرنين وعدة عقود.
ما أن عاد أبو يعقوب يوسف إلى مركز الحكم بمراكش حتى سيّر جيوشه مجددًا نحو الأندلس، وكان ذلك سنة 579هـ، ووفدت القبائل العربية والأمازيغية للمشاركة في الجهاد المقدس، حتى جاوز جيش الموحدين حينها 200 ألف مقاتل وفق بعض المراجع.
اتّجه جيش الموحدين بقيادة الخليفة نفسه نحو مدينة شنترين البرتغالية، التي كانت تعدّ في تلك الفترة أهم قواعد العدوان البرتغالي على الأندلس، ونقطة انطلاق دائمة للإغارة على حدود الأندلس الغربية، وكانت النية متجهة لاستعادة ثغر لشبونة أيضًا.
بلغ الموحدون شنترين منتصف ربيع الأول سنة 580هـ، وهاجموا الأسوار واشتبكوا مع قوة من البرتغاليين ودام القتال لأيام، كادوا أن يفتحوا على إثرها المدينة، إلا أن أمر الخليفة بتغيير مكان الجيوش المحاصرة والانتقال إلى موقع آخر قد أربك الجيش ودفع القادة إلى الانسحاب.
انسحب قادة الجيش دون أن يفهموا خطة الخليفة، فأدرك جيش العدو ما وقع في المعسكر الموحدي، فهجموا على مؤخرة الجيش المنسحب ومعسكر الخليفة، وبسرعة وصلوا إلى خيمة أبو يعقوب يوسف الذي استبسل في الدفاع عمّا بقيَ من الجيش لكنه أُصيب بجراح استشهد على إثرها، وكان ذلك يوم 7 رجب 580هـ.
فُجع المسلمون لموت الخليفة أبو يعقوب يوسف بن عبد المؤمن، وبكاه العامة والخاصة لما عُرف عنه من فقه وثقافة وحبّ للجهاد ورعاية للإسلام، وكانت هذه الهزيمة بمثابة النكسة التي تكبّدها المسلمون، ومن يومها فقدت الجيوش الموحدية هيبتها في بلاد المغرب والأندلس، إلى أن تمّت استعادتها لاحقًا.
عمارة وفكر
لم يُثنِ الجهاد والتصدي للفتن والثورات الخليفة الموحدي يوسف على الاهتمام بالعمارة والفكر، فقد كان الخليفة فقيهًا، يتكلّم في المذاهب، ويقول: “قول فلان صواب”، ودليله من الكتاب والسنّة، وحفظ القرآن الكريم وهو صغير، وركّز كثيرًا على إعلاء شأن المدرسة الظاهرية.
جمع الخليفة بين العلوم الدينية والعلوم الدنياوية، حيث نظر في الطبّ والفلسفة، وجمع كتب الفلاسفة، وطلبها من الأقطار، وكان يصحبه الفيلسوف أَبو بكر محمد بن طفيل، وفي عهده كتب الفيلسوف ابن رشد تعليقاته الشهيرة على أرسطو، كما اختار حفصة بنت الحاج الركونية الغرناطية مدرّسة لبناته في القصر.
إلى جانب الاهتمام بالعلوم، اهتم الخليفة الموحدي بالعمارة أيضًا، حيث قام بتوسيع مراكش وأتمَّ بناء جامع الكتبيين بقلب العاصمة، وأُحيط المسجد ببائعي الكتب والمخطوطات، وشيّد في إشبيلية قصر البحيرة ومنه حكم أمراء الأندلس.
كما شيّد المستشفيات والمدارس، ومدّ الجسور، وأقام الحصون والأبراج والأسوار الدفاعية في العديد من المدن داخل بلاد المغرب والأندلس، وبدأ تشييد مدينة رباط الفتح -العاصمة اليوم- وأكمل بناءها ابنه يعقوب المنصور.
وكدليل على عظمة دولته، أصدر الخليفة يوسف عملات ذهبية من فئة الدينار، وتمّ سكّ هذه العملات في دار سك مدينة تلمسان ورباط الفتح، ويحتوي وجه العملة على قولة “بسم الله الرحمن الرحيم لا إله إلا الله محمد رسول الله المهدي الإمام”، وفي الوجه الخلفي للعملة يظهر في الوسط “القائم بأمر الله آل خليفة أبو محمد عبد المؤمنين بن علي أمير المؤمنين”، ونُقش على الهامش “أمير المؤمنين أبو يعقوب يوسف بن أمير المؤمنين”.
كانت نيّة الخليفة الموحدي أبو يعقوب يوسف بناء المزيد من المدن والاعتناء أكثر بالعلماء وفتح مناطق جديدة وضمّها إلى ملك المسلمين، إلا أن المنية وافته قبل أن يكمل أهدافه، ومات عن غيرِ وصية بالمُلك لأحد من أولاده، لكن رأى قادة الموحدين وأولاد عبد المؤمن تمليك ولده أبو يوسف يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن، وهو ما سنتحدث عنه في تقريرنا التالي من هذا الملف.