تختزل إحصائيات المنظمات الحقوقية والمدنية المحلية والدولية آلاف القصص الإنسانية التي أنتجتها حرب الإبادة الإسرائيلية في قطاع غزة، إذ تطغى الأخبار السياسية والتطورات العسكرية في بعض الأحيان على الجانب الإنساني، وتضيع بينها المشاعر المختلطة التي يعيشها نحو مليوني فلسطيني بشكل يومي وسط المعارك اليومية التي تجعل حياتهم جحيمًا لا يطاق.
هنا نحكي مع أصدقاء فقدوا رفاقهم المقربين بفعل آلة الحرب الإسرائيلية في حرب الإبادة الجماعية المستمرة، فما معنى أن تفقد كتفك الثابت في الحياة الموحشة؟ ما شعورك بعد أن يعلن قلبك التمرد على نبضاته ويسكتها؟ ماذا يعني أن ترى جسد صديقك مسجّى بدمه في المشرحة؟ ماذا عن اللقاء المنتظر؟
صديقة الطفولة شهيدة
إيمان شبير واحدة ممّن طالتها يد الفقد في أعز الأصدقاء، تروي لـ”نون بوست” عن فقيدتها إسلام الزميلي رفيقة الـ 16 عامًا، “في بداية الحرب شعرت إسلام بخوف كبير، وكأنها كانت تستشعر قرب الموت. كانت تفضفض لي عن قلقها وعن الأخبار المؤلمة التي كانت تصلها عن أحبائنا، وصوتها كان يعكس التعب والخوف. كانت تخشى الفقد، وكانت قلقة بشكل خاص على بناتها الصغيرات. لم يكن بإمكانها تحمل فكرة أن يصيبهن مكروه، وكان هذا الخوف يسيطر على كل حديثنا في تلك الفترة”.
في يوم 25 ديسمبر/ كانون الأول تلقت خبر استشهاد صديقتها المقربة، فتقول لـ”نون بوست”: “قبل أن أعلم باستشهادها، شعرت بوخزة بالقلب فطلبت من زوجي أن يتفقد صفحتها عبر فيسبوك، سرعان ما بدت عليه ملامح الصدمة وقال لي: “الله يربط على قلبك”، فهمت حينها أنها استشهدت، صدمت ولاحت ابتسامتها أمامي، وعلمت بعدها أنها لم تكن وحدها، رحل معها كل من بناتها الثلاث وزوجها”.
تتنقل إيمان في محادثاتها مع رفيقتها بقلب مثقل من الغياب، تقول: “حينما انقطع الاتصال عن شمال غزة جنَّ جنوني، فنحن نقطن في حي التفاح سويًا، ولكني لا أتمكن من السير نحوها بسبب الغارات الكثيفة، عشت نوبات قلق عليها”.
تعمّدت “إسرائيل” في أشهر الحرب الأولى عزل قطاع غزة عن بعضه وعن العالم الخارجي بقطعها لشبكة الاتصالات والإنترنت، وقد أفاد الجهاز المركزي للإحصاء ووزارة الاتصالات والاقتصاد الرقمي، في بيان سابق له، أن الاحتلال الاسرائيلي قطع الاتصالات عن قطاع غزة أكثر من 10 مرات منذ بدء العدوان في 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023.
وأكد البيان أن الاحتلال استهدف قطاع الاتصالات بشكل ممنهج، ما أعاق عمل الفرق الصحية وأيضًا الإعلامية، وعزل الناس ومنعهم من القدرة على طلب الاستغاثة.
“والله الواحد تعب مهو قادر يتحمل”، قالتها الشهيدة إسلام لصديقتها قبل أسبوعين من استهدافها بغارة إسرائيلية اخترقت المنزل، فقتلتها رفقة العائلة كلها، ومسحتهم عن السجل المدني، كان في داخلها أمل خافت بأن الحرب ستزول، لكن الموت كان أسرع من أملها.
تخبرنا إيمان أن صديقة الطفولة كانت شخصية استثنائية، حفظت كتاب الله عز وجل، محبة للطبيعة ولطبق المفتول، تكمل: “كانت تنتظر زيارتي لها لمباركة بيتها الجديد الذي انتقلت إليه قبل الحرب. لكن الحرب قطعت أحلامها وآمالها، ورغم كل الظروف الصعبة والقاسية التي واجهتها، لم تنسَ أن ترسل لي تهنئة بمناسبة ميلادي في أكتوبر، وكأنها كانت تحاول بعث الأمل وسط الألم”.
لم يتبقَّ لإيمان من إسلام سوى الذكريات التي تخاف أن تخونها فتنسى، كانتا في أيام المدرسة تكتبان نقاشاتهما على الكتب، فتوضح: “احتفظت بكل الكتب والقصاصات الورقية التي زيتنها إيمان بخطها، لكن لم يتبقَّ شيء من الذكريات الملموسة، أضحت رمادًا بفعل استهداف منزلي وتدميره بالكامل، لقد حرق البرميل المتفجر الذي أُلقي على البيت كل الأنس والحب اللذين احتفظت بهما لسنوات طوال”.
ماذا عن أحلام إسلام التي كانت تود تحقيقها قبل الموت؟ تجيب لـ”نون بوست”: “إسلام كانت تحمل في قلبها أحلامًا كبيرة، كانت تعمل كمعلمة لغة عربية، وكان حلمها أن تعيش في منزل كبير، وقد تحقق ذلك قبل الحرب بأشهر قليلة. كانت تخطط لمستقبل جميل في ذلك المنزل، لكن الحرب لم تترك لها الفرصة لتحقيق المزيد”.
“غزة تدمرت يا إيمان، ما عمرنا شوفنا هيك دمار، كتير صعب”. ماتت إسلام بحسرتها على كل الأماكن التي تحب، وتود إيمان لو أن الشهيد يعود إلى الحياة لبضع ثوانٍ، لتعانق رفيقتها وتبكي كثيرًا وتهمس: “فقدك مرير، وصعب تجاوزه”.
“جلده سايح”.. “معرفتش صديقي”
محمود الجمل بحكم عمله كمصور صحافي كان دائمًا يتواجد حيث الشهداء والإصابات، اخترق سمعه اسم حسن عبد العال، ركض نحو الجثث مجهولة الهوية ليراها، ليقول لهم: “لا هاد مستحيل يكون حسن، هاد مش صاحبي، لا أنا بعرف صاحبي كويس”.
كان شكله قد تغير بفعل الصواريخ المتفجرة التي أُلقيت على الشقة السكنية التي يقطن بها، دخل محمود في حالة من الإنكار ليجزم ويقسم أنه ليس حسن، جلس يفحص يديه المصابة بإصابة سابقة، وكتفيه، كان الجسد منصهرًا لا تظهر له ملامح، والوجه لا يدلل على هوية الشخص، لم يجد محمود الإصابات التي يعرف صديقه بها، فقال: “حسنًا.. ليس حسن”.
لم ينفك الجيش الإسرائيلي منذ العدوان على غزة عن استخدام الأسلحة المحرمة دوليًا التي تدخل في تركبياتها مواد خطيرة جدًا، وفي الآونة الأخيرة ارتفع عدد الشهداء المتفحمة جثثهم والمتحولة إلى أشلاء، إذ يتم جمعهم في أكياس بلاستيكية لدفنهم، ويعطى لعائلة الشهيد البالغ كيس بوزن 70 كيلوًا من الأشلاء، والطفل 18 كيلوًا فقط.
وفي هذا السياق، قال مدير الإمداد والتجهيز بالدفاع المدني في غزة، محمد المغير، “إن جيش الاحتلال الإسرائيلي يستخدم صواريخ تؤدي إلى تبخُّر جثامين الشهداء، وتتسبّب في حرق أجساد المصابين، وربما بها مادة الأسيد التي تؤدي لانصهار الأجساد”.
فيقول محمود لـ”نون بوست”: “مش قادر أستوعب ليلة كاملة وأنا مش مصدق، رنيت على أهله الصبح يتعرفوا عليه، وفعلًا طلع هو حسن صاحبي وأخويا، كان قدامي ومعرفتوش.. انقهرت كتير انقهرت”.
في 12 نوفمبر/ تشرين الثاني 2023، ودّع محمود أستاذه الجامعي وصديقه المقرب حسن عبد العال، حمله على الأكتاف ذاهبًا به نحو قبره، وصفه بأنه كان أخًا ملهمًا، وأستاذًا بارعًا، ومصممًا مبهرًا، ويكمل: “أذكر حسن وهو يأتيني إلى البيت ليصحبني على دراجته الهوائية إلى الكلية أنا كطالب وهو كمحاضر فيها، كنا لا نفترق في أي طريق نسلكه، يدعمني كمصور ويشاركني الأفكار وأدعمه كمصمم مبدع”.
تشهد الأماكن التي كان يزورها الصديقان على علاقتهما الوطيدة، شاركهما فيها شقيق محمود الشهيد محمود الجمل والصديق الثاني مصطفى بكير، فها هو مطعم مهران بأكلاته اللذيذة شاهدًا على رحلاتهم الشهرية، وميناء غزة حفظ وجوههم واحدًا واحدًا، رحل مصطفى ومحمد وحسن وبقيَ محمود وحده يعاني ألم الفراق وشوق لا ينتهي.
لم يسلم محمود من آلة الحرب الإسرائيلية، أُصيب من طائرات “الكواد كابتر”، وقُصف منزل العائلة الذي استشهد شقيقه محمد به وابنة شقيقته في 24 أبريل/ نيسان 2024، يقول لـ”نون بوست”: “قبل استهداف شقيقي محمد بساعتين، كنا جالسين سويًا نستذكر أصدقائنا الشهداء الكثر الذين فقدناهم في الحرب، أخبرني أنه قد حلم بعد الفجر بوجه الصديق مصطفى بكير وشهيد آخر يضحكون له، كان سعيدًا جدًا بالحلم، وبعد أن ضحكنا وبكينا وتذكرنا الرفاق الغائبين غادرني محمد، وفي تمام الساعة الثانية عشر بعد منتصف الليل قتل الجيش الإسرائيلي محمد”.
أنا صديق الشهيد الصحفي محمد جمال
أما مؤمن حجاج، فمنذ استشهاد صديقه الصحافي محمد جمال يعيش حالة من الإنكار للواقع، عرفه منذ 8 سنوات، جمعتهما مقاعد الصحافة في الجامعة، فقال مؤمن: “هذا الشخص الذي لطالما تمنيت أن يكون أخًا وصديقًا”.
التقيا في 4 أكتوبر/ تشرين الأول، فكان اللقاء الأخير قبل أن يحرق الاحتلال الإسرائيلي الأرض والبشر، يقول لـ”نون بوست”: “انتابتني حالة من الصدمة فور معرفتي بخبر استشهاده، حرمت من أقبّل رأسه للمرة الأخيرة، مات وأنا في أوج اشتياقي له، نزح من الشمال نحو الجنوب وبقيت أنا في شمال غزة، فعانى مرارة النزوح والتشرد وقتله الاحتلال مع شقيقه وزوجته وأولادهما وبضع أفراد من العائلة”.
“كان خايف كتير يفقدني، كان يضل يوصيني على حالي لكن هيو هو تركني وراح”، قدر على الغزي أن يعيش كل أنواع الخسارات التي من الممكن أن يعيشها المرء، فقدَ محمد أماكنه التي كانت ملاذًا له هو ومؤمن، وحينما قُصف البيت: “إيش بدي أقول يا مؤمن زينا زي الناس ربنا بعوض المهم الأهل بخير”.
يضيف لـ”نون بوست”: “محمد صاحب قلم رائع، طيب القلب، ضحوك، كل من عرفه أحبه جدًا، كان يلفت الأنظار بكل مكان يذهب إليه بروحه المرحة، كنا نمازح بعضنا بصنع ملصقات مضحكة لصورنا عبر الواتساب”.
يقال “إن المرء على دين خليله”، وهذا يجسده الصديقان، اشتركا في حب البلاد، عز عليهما إبادة كل ذكرى حية لهما في شوارع المدينة، أحبا برشلونة وكانت المباريات ملجأ لهم في لحظاتهم المتعبة. فيبيّن مؤمن: “كان صديقي قدوتي وملهمي الأول، نتشابه في الكثير ونختلف في أخرى، أنا أميل إلى الكآبة وهو شخص مرح ضحوك حتى في حزنه، أتساءل الآن من سيغير لي مزاجي ويجعلني أبتسم رغمًا عن كل شيء”.
في كل لحظة يفجع مؤمن وكأنه علم خبر وفاته للتو، وينهي حديثه: “لو محمد موجود الآن كنت سأشاركه بكل تفصيلة بحياتي، سأقول له إن حياتي من دونك ناقصة.. وسأخبره أني أشتاقه جدًا”.
مؤخرًا ارتفع عدد شهداء الصحافة الفلسطينية منذ بدء حرب الإبادة الجماعية إلى 169 صحفيًا وصحفية، إذ تقول لجنة حماية الصحفيين “إن هذه الحرب الأكثر دموية للصحفيين منذ بدء عمل اللجنة عام 1992”.
“مش مصدقة أنه صحبيتي استشهدت”
“صعبة الفرقة ع اللي مفارق طيف حبابو بالدمعة.. صعبة الفرقة ع اللي غفى روحوا وقلبوا بترابك”، في كل مرة تصادفها هذه الأنشودة يلوح وجه صديقة الطفولة أمامها، أول سلام بينهما وهما تركضان في الشوارع بشعرهما المتطاير، فتعرّفها اسمي نيرمين، فتردّ وأنا إيمان، عرفتا بعضما من صغرهما وتوطدت علاقتهما في الشباب.
تقول نيرمين دغمش عن صديقتها إيمان أبو سعدة التي قتلها الجيش الإسرائيلي في 28 نوفمبر/ تشرين الثاني المنصرم: “لم أستوعب بعد خسارتي لأعز صديقة على قلبي، فور معرفتي باستشهادها لم أصدق، قلت إنها حتمًا مزحة، وإيمان سترد على هاتفها الآن”.
ليلة عصيبة عاشتها نيرمين وهي تحاول الاتصال بصديقتها، تناجي الله أن يكون الخبر كذبًا، وسترد الآن إيمان وتضحك وتقول: “قاعدة على قلبك.. لسا ورانا أحلام هنحققها سوا”، فتكمل لـ”نون بوست”: “شعرت أنني على وشك فقدان عقلي، لم أصدق أن إيمان وعائلتها قد مسحهم الاحتلال من السجل المدني”.
ووفقًا لتحقيق أجرته وكالة “أسوشييتد بريس” الأمريكية، فإن العدوان الجاري على غزة لم يحدث في تاريخ الحروب بأشكاله كلها البرية والجوية والبحرية، إذ أدى إلى قتل عائلات فلسطينية بالكامل، وأحيانًا 4 أجيال من العائلة نفسها.
ونوه التحقيق أن حوالي 60 عائلة فلسطينية قُتل من كل واحدة منها ما لا يقل عن 25 شخصًا في الفترة الواقعة ما بين أكتوبر/ تشرين الأول وديسمبر/ كانون الأول 2023، مؤكدًا أنه لم يبقَ في تلك العائلات أحد لتوثيق الحصيلة النهائية للشهداء.
ماذا عن اللقاء الأخير قبل السابع من أكتوبر؟ تجيب نيرمين لـ”نون بوست”: “كنا سويًا في الجامعة نأخذ دورات تدريبية كل منا بمجالها، هي في التسويق وأنا في الجرافيك ديزاين، التقينا بالاستراحة ثم تواعدنا أن نغادر نحو البيت معًا، انتظرتني طويلًا ثم مشينا في الشوارع تحكي لي عن أحلامها الكبيرة، آمنت أنها ستحققها يومًا ما، لكن دفتر العمر قد طوي عن عمر يناهز الـ 22”.
تعود نيرمين بعجلة الذاكرة نحو عمر الـ 17، حينما كانتا تمارسان شغفهما في التمثيل بالمسرح، 7 ساعات يوميًا كانتا تقضيانها سويًا لأجل إنتاج مسرحية، اكتشفتا خلالها أنهما تشبهان بعضهما في حب الهدوء.
كانت إيمان تحب منتجع “السي سايد” وكافيه “كابريسو”، والاثنان طالتهما يد التدمير الكامل فأصبحا ركامًا، “راحت أعز صحباتي وراحت كل الأماكن اللي كانت تحبها.. ما ضل إشي النا”. جميعهم كان قوله “بعد الحرب” أملهم الوحيد، لكن ستنتهي الحرب يومًا ما دون ركض لمعانقة الأصدقاء، وستظل قصص الحرب ومآسيها عالقة في حناجرهم حتى نهاية الحياة، لأن صديق الحكايات الطويلة قد استشهد.
في وقت سابق، أعلن المكتب الإعلامي الحكومي بغزة أن العدوان الإسرائيلي تسبّب في تدمير 150 ألف وحدة سكنية بالكامل. وتعرضت 200 ألف وحدة سكنية للتدمير الجزئي، و80 ألف وحدة سكنية أصبحت غير صالحة للسكن، والحصيلة في ازدياد بسبب تواصل الحرب الهمجية على غزة.
وبحسب تقرير أصدرته الأمم المتحدة، فإن عملية إعادة بناء المنازل التي دمّرها الجيش الإسرائيلي ستستمر حتى العام 2040 وربما أكثر، إذ تسبّب العدوان الإسرائيلي على غزة في خسائر كبيرة قُدّرت بمليارات الدولارات، فقال مسؤول أممي في وصف الدمار والركام: “إن غزة أضحت مثل سطح القمر”.
ويذكر أن الجيش الإسرائيلي قتل حوالي 40 ألفًا، ووصل عدد المصابين إلى 92 ألفًا و743. وبحسب وزارة الصحة الفلسطينية فإنه يوجد الآلاف تحت الركام، لم يتمكنوا من انتشالهم بسبب عدم توفر المعدّات اللازمة، إضافة إلى المفقودين الذين فُقدت آثارهم ولم يعثروا على جثثهم.