ترجمة وتحرير: نون بوست
قال المراسل الأمريكي، تشارلز سي مان، في كتابه “الساحر والنبي” (2018)، إن “الساسة يعتقدون أن فكرة الغاز عديم اللون وعديم الرائحة وغير السام، الذي يشكل 1 بالمائة من الغلاف الجوي، والذي ينذر بحدوث كارثة، لم تأتي من عدم. ومن الملاحظ أن هذا الغاز سيتحول إلى مصدر تهديد للحضارة الإنسانية خلال العقود المقبلة. من جهتهم، يرى الساسة أن هذه الفكرة دموية وعنيفة، مما يدفعهم إلى التخلي عنها”.
عندما ألقى باحث الناسا، جيمز إي هانسن، كلمة أمام مجلس الشيوخ الأمريكي بواشنطن بتاريخ 23 حزيران/ يونيو 1988، كان كل السياسيين الحاضرين يتصببون عرقا. في ذلك الوقت، بدا وكأن السيناتور الديمقراطي، تيم ويرث، الذي دعا إلى عقد الجلسة، اختار أشد الأيام حرارة بشكل متعمد. ووفقا للكتاب الصحفي سي مان، أقدم السيناتور كذلك على إغلاق مكيفات الهواء.
في ذلك الجو الحار، صدم هانسن السياسيين الحاضرين بتصريح مفاجئ قال فيه إنه “يمكن الإقرار بنسبة 99 بالمائة بأن درجة حرارة الغلاف الجوي سترتفع. وتعتبر سنة 1988 السنة الأشد حرارة في التاريخ. وفي الوقت الراهن، يعمل ثاني أكسيد الكربون على تغيير مناخنا”. من وجهة نظر راهنة، كان نموذج هانسن الذي عرضه آنذاك غير دقيق، ولكنه في الوقت نفسه كان قريبا لواقعنا اليوم بشكل مثير للدهشة. في الأثناء، لا يزال المناهضون للتغير المناخي يحاولون تشويه سمعة هانسن عبر تزييف توقعاته.
أصبحت مشكلة التغير المناخي من بين المواضيع التي تشغل الطبقة السياسية
فجأة، ظهر “هذا الاحتباس الحراري”
منذ عقود، اهتم الباحثون بسبب ارتفاع درجة الحرارة على مستوى الغلاف الجوي والدور الذي يمكن أن يلعبه ثاني أكسيد الكربون في ذلك. أما بالنسبة للوعي العام، فقد طفت مسألة التغير المناخي على السطح منذ الكلمة، التي ألقاها هانسن أمام مجلس الشيوخ الأمريكي. وبعد يوم من هذا الخطاب، قدمت صحيفتا “واشنطن بوست” “ونيويورك تايمز” توضيحا بشأن الاحتباس الحراري.
قبل ذلك بفترة وجيزة، ظهرت تصورات متضاربة بشأن المستقبل. فخلال السبعينات، تكهنت فئة صغيرة من العلماء بظهور عصر جليدي جديد نتيجة تلوث الهواء. وفي سنة 1974، نشرت صحيفة “تايم” تقريرا حذرت من خلاله من “تمدد القطب الشمالي”. في المقابل، يعتبر مكذبو ظاهرة التغير المناخي، التي تحظى باهتمام إعلامي كبير، إلى حد اليوم بمثابة حجة تثبت أن تكهنات العلماء غير جديرة بالثقة بشكل قطعي.
كل شيء مجرد نزوة تعود لعدد قليل من المتعصبين
ترتبط الطريقة، التي لا يزال يتحدث بها الكثير من الأشخاص عن ظاهرة التغير المناخي باعتبارها من صنع الإنسان، بما حدث بعد خطاب هانسن أمام مجلس الشيوخ الأمريكي. والجدير بالذكر أنه يمكن الاطلاع على تفاصيل بدايات الحركة البيئية في كتاب “الساحر والنبي” لمؤلفه تشارلز سي مان. خلال السنوات، التي تلت رسائل هانسن التحذيرية، أصبحت مشكلة التغير المناخي من بين المواضيع التي تشغل الطبقة السياسية. في ذلك الوقت، كانت التحذيرات من ارتفاع درجات الحرارة صادرة من الأطراف اليسارية. في المقابل، اعتبرت أطراف أخرى هذه التحذيرات بمثابة نزوة نابعة من قبل أنصار حماية البيئة المجانين، الذين يعتبرون الطبيعة أكثر أهمية من البشر.
يذوب الجليد القطبي بوتيرة ملفتة للانتباه
في ألمانيا وأنحاء أخرى من العالم، تم لحسن الحظ التخلي بشكل كبير عن هذه الفكرة الخاطئة والسخيفة. ولكن، لم يتغير الوضع في الولايات المتحدة الأمريكية، بل ازداد سوءا، حيث لا تزال الأغلبية الساحقة من نواب الكونغرس الجمهوريين تنكر مسؤوليتنا، نحن البشر، عن ارتفاع درجات الحرارة من خلال ما نصدره من انبعاثات. ولعل الأدهى والأمر هو أن البعض ينكرون وجود الاحتباس الحراري من الأساس.
ذوبان 269 مليار طن من الجليد في السنة
في الحقيقة، يذوب الجليد القطبي بوتيرة ملفتة للانتباه. ففي غرينلاند لوحدها، ذاب حوالي 92 مليار طن من الجليد. ووفقا لصحيفة “الإيكونوميست”، سيحدث شيء ما حتما، لكن يبدو أن الوقت متأخر للتدخل والحيلولة دون وقوع كارثة بيئية. بالنسبة للساحة السياسية الأمريكية، التي يسيطر عليها شخصيات مؤثرة في على غرار الإخوة كوخ، بالإضافة إلى شركات النفط الكبرى، عن طريق أموالهم، يعتبر ذوبان الجليد القطبي مشكلا يسترعي انتباه عدد من الجهات في حين لا توليه أطراف محددة أي أهمية.
يكمن الأمر الأكثر خطورة على المدى الطويل في أن التخطيط للمستقبل يعتبر أمرا صعبا للغاية بالنسبة لنا، نحن البشر. وتبدو التداعيات الكارثية لارتفاع درجة الحرارة صعبة التحقق في المستقبل إلى درجة أنه يمكن تجاهلها. في هذا السياق، يمكننا طرح التساؤل التالي، لماذا نضغط على أنفسنا من أجل توفير بيئة ملائمة للجيل القادم وربما الجيل الذي يليه؟
نشر ثقافة الخوف من الآخرين، إنه لأمر أسهل
توجد قضيتان غالبا ما تظهران على أنهما طويلتا الأجل ويمكن استغلالها سياسيا بشكل أكثر سهولة، وهما الهجرة والتنمية السكانية. ومن المثير للاهتمام أن حجم الاهتمام السياسي والإعلامي بهذه القضايا في الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا يفوق الاهتمام بالمشاكل الحقيقية. في الواقع، يعد العمل على إثارة تعاطف الناس من خلال تصوير أجنبي شرير يريد الحصول على عمل وموطن وسلب ثقافة الأمريكيين أمرا أكثر سهولة من تحذيرهم بشأن احتمال غرق جزء كبير من العالم المأهول بالسكان في البحر.
من الواضح أنه يمكن استغلال الخوف من الآخر سياسيا بشكل أكثر سهولة من تخويف الإنسان من العواقب الناتجة عن الغاز عديم اللون والرائحة
في الوقت الراهن، يعيش 500 مليون شخص في أكبر 136 مدينة ساحلية على وجه الأرض. وفي حال ارتفع مستوى سطح البحر ثلاثة أمتار فقط، فسيصبح كل من جنوب هامبورغ وبانكوك وشنغهاي مجرد أرخبيلات. ومن المرجح أن ينجر عن التغير المناخي تداعيات أخرى على غرار الجفاف والتصحر وحرائق الغابات، إلى جانب تقلبات الطقس والعواصف وموجات هجرة كبيرة.
من الواضح أنه يمكن استغلال الخوف من الآخر سياسيا بشكل أكثر سهولة من تخويف الإنسان من العواقب الناتجة عن الغاز عديم اللون والرائحة. نتيجة لذلك، يحاول اليمينيون الشعبويون، الذين يضعون الخوف من الآخر في صدارة اهتماماتهم، تجاهل القضايا، التي تشكل تهديدا جديا على البشرية على غرار ذوبان الجليد القطبي، وهو ما يثبت مرة أخرى أن هؤلاء السياسيين غير جديرين بالثقة.
المصدر: دير شبيغل