قد يغفل الناس في مرحلة شبابهم عن الواقع المر الذي سيلاحقهم عند وصولهم إلى سن ال60، وما يصاحب هذه الفترة من فراغ اجتماعي واقتصادي، وفي حال إدراك البعض لهذه المرحلة فهي غالبًا لن تكون بالنسبة لهم سوى كابوس مزعج، خاصةً لمن يعيشون في المجتمعات العربية التي بالكاد تلبي مطالب الشباب حتى تلتفت إلى احتياجات المتقاعدين.
كم مليون شخص عمره فوق الـ60 في المجتمعات العربية؟
بما أنه من الصعب الحصول على إحصائيات دقيقة حول أعداد المتقاعدين في الوطن العربي، رصدنا في هذا التقرير الصادر من الأمم المتحدة للعام الماضي الفئة العمرية التي يزيد عمرها عن 60 سنة، فوجدنا بصفة عامة أن مجموع السكان في هذه الفئة سيزيد من 962 مليون إلى 2.1 مليار شخص حول العالم بحلول عام 2050، أما في الدول العربية فهم أكثر من 28 مليون نسمة يستمرون في التزايد بشكل متسارع، وتحديدًا في بلدان مثل الجزائر والكويت والبحرين وليبيا وعمان وقطر.
وبالنسبة إلى إحصائيات لعام 2014، فإن لبنان وتونس والأردن والمغرب والسعودية من أكثر الدول العربية التي ستشهد زيادة في معدلات الشيخوخة في عام 2030، وبناءً على ذلك تزيد الهواجس الاقتصادية لدى هؤلاء الأشخاص وتثقل المسؤولية على حكومات هذه البلدان.
إذ تقودنا هذه الإحصائيات إلى أسئلة واسعة حول أوضاع هذه الفئة من الناحية الاجتماعية والاقتصادية والنفسية وكيف تلبي الحكومات احتياجات هذه المرحلة وتمنحهم بيئة داعمة وصحية دون الوقوع في فخ الأفكار النمطية والمواقف المتحيزة التي تفترض بأن المتقاعد هو شخص مسن ومتكل على الآخرين، فتستثنيه من أي تطورات فكرية أو تكنولوجية؛ ما يعيق اندماجه لاحقًا مع التحركات العصرية ويشعر بالانعزال.
أنظمة التقاعد في الوطن العربي
لا خلاف على مقولة “ليس كل متقاعد مسنًا، كما أنه ليس كل مسن مريضًا” فهناك أشخاص يقررون الاستغناء عن وظيفتهم رغبة في تجربة مرحلة جديدة أو هربًا من ضغوط العمل، وفي الجهة الأخرى هناك أشخاص يُرغمون على التقاعد طواعيةً لأنظمة العمل أو تماشيًا مع قدراتهم الصحية التي فقدت قوتها بعد سنواتٍ من الإنتاج والعطاء. في كلا الحالتين، لا بد أن تملك كل جهة خطة مستقبلية لهذه المرحلة الحتمية، من الناحية المادية والاجتماعية والصحية أيضًا، والتي غالبًا ما يبدأ الاستعداد لها في مرحلة منتصف الشباب.
ينبع هذا القلق النفسي عادةً في الدول التي تفتقر حكوماتها إلى أي خطط قد تساعد المتقاعد على المحافظة على مستواه المعيشي بعد استكمال مهمته، وهذا ما سبب زيادة في معدلات الفقر بين المتقاعدين؛ ما جعل الأمان المادي أحد أكبر التحديات الرئيسية في المنطقة العربية خاصةً.
أقرت مصادر رسمية بأن 10% فقط من الأشخاص الذين تبلغ أعمارهم 60 سنة فما فوق يحصلون على معاش تقاعدي في المنطقة العربية
لتفادي هذه المشكلات، أنشأت الأنظمة العربية صناديق تقاعد وبرامج ضمان تساعد المتقاعد على سلك هذه المرحلة بأقل قدرٍ من الأزمات، لكن منذ تاريخ إقرارها -في السبعينيات تقريبًا- لم تشهد هذه الصناديق أي تغييرات أو إصلاحات تلائم التطورات الاقتصادية والاجتماعية، وهذا بالرغم من وجود حاجة ملحة لضم فئات جديدة إلى هذا النظام.
على سبيل المثال، هناك أنظمة تقاعدية لا تضم العاملين في القطاع الخاص أو أولئك الذين يعملون في قطاع الزراعة، وبصفة عامة بينت بعض التقارير أن هذه البرامج لا تغطي سوى 35% من القوى العاملة، ومصادر أخرى أقرت بأن 10% فقط من الأشخاص الذين تبلغ أعمارهم 60 سنة فما فوق يحصلون على معاش تقاعدي في المنطقة العربية؛ ما يدلل إلى ضعف التغطية المادية وسوء الإدارة.
هل فكرت في التقاعد من قبل؟
ولأن الحكومات العربية تنظر إلى هذه البرامج على أنها رفاهية رفيعة المستوى، يعتمد بعض المتقاعدين كليًا على أبنائهم في مصروفاتهم الشهرية أو يلجؤون إلى إنفاق ما ادخروه خلال سنوات عملهم، وتجنبًا لهذه النهاية يحاول بعض الشباب الابتعاد عن الوظيفة في القطاعات الخاصة وغيرها التي لا تمنح أي معاشات تقاعدية، وبالمقابل، يلجؤون إلى القطاعات الحكومية التي توفر معاش تقاعدي بسيط.
هذا ويعتقد البعض أن إنشاء مشروع تجاري خاص بهم هو أفضل الخيارات الآمنة، فحينها يضمن الشخص استمرارية دخله الشهري بشكل مريح دون الخوف من القوانين الحكومية أو الفقر الاقتصادي، لكن بالطبع هذه الحلول الفردية لا تكون متاحة ومناسبة للجميع.
خيارات متعددة تمكن الشخص من إنقاذ نفسه من الفقر عن الكبر، ومن أهمها تنويع مصادر الدخل سواء عبر العمل في وظيفتين تكون إحداهما وظيفة حرة أو “فري لانس”
وبالنسبة إلى مقترحات الاقتصاديين، فيرى معظمهم أنه من الضروري النظر إلى هذه المرحلة على أنها تجربة حتمية لا عشوائية وعلى هذا الأساس ينبغي على الشخص أن يفكر كيف سيقضي آخر عشرين سنة من حياته دون أن يكون ضحية للفقر والحاجة.
يستعرض الخبراء خيارات متعددة تمكن الشخص من إنقاذ نفسه من الفقر عن الكبر، ومن أهمها تنويع مصادر الدخل سواء عبر العمل في وظيفتين تكون إحداهما وظيفة حرة أو “فري لانس”، والخيار الآخر أن يستثمر في عدة مشاريع تجارية، فبحسب رأيهم أن “الأشخاص يتقاعدون والمشاريع لا تتقاعد وإنما تكبر وتصب أرباحًا مستقبلية”، كما أنها مع الوقت تستقر ولا تحتاج إلى جهد كبير، وإنما تحتاج فقط إلى إشراف.
إفلاس الحكومات العربية يهدد المتقاعدين
تعاني الدول العربية من عدة مشكلات تختلف من منطقة إلى أخرى، على سبيل المثال، اعترفت الحكومة المغربية قبل أعوام بأن الإفلاس يهدد مستقبل التقاعد لديها بحلول عام 2019، وخوفًا من نتائج هذا الإفلاس دارت اجتماعات ولقاءات كثيرة لتقديم اقتراحات إصلاحية.
حيث اعتبرت الحكومة أن التغيرات الديمغرافية الكبيرة التي تعيشها البلاد تؤثر على أنظمة التقاعد، فارتفاع متوسط العمر من 60 عامًا في 1980 إلى أكثر من 75 عامًا في 2050، يعجل من تدهور البنية الديمغرافية لأنظمة التقاعد ويساهم في ارتفاع المساهمين بالدفع لهذه الأنظمة بنسبة 60% مقابل تضاعف المتقاعدين نحو أربع مرات، لذلك اقترحت الحكومة رفع سن التقاعد تدريجيًا إلى 66 بدلًا من 60. وبالفعل أدخلت المغرب هذه التعديلات قبل عامين إلى قانون التقاعد، ما أثار وقفات احتجاجية تندد بهذه القرارات التي تحمل الموظف عواقب الإهمال الحكومي.
يوجد في العراق نحو 5.8 مليون عامل في القطاع الخاص محروم من المعاشات التقاعدية
أما في دول الخليج العربي، فخلصت الدراسات أن سخاء الأنظمة الحكومية في رواتب التقاعد قد يمنع من استمراريتها للأجيال المستقبلية ويسبب عجز في المستقبل بسبب سوء التوزيع وإدارة حالات التقاعد المبكر التي تبدأ من سن 45 عامًا.
بالنسبة إلى العراق، ففيها 5.8 مليون عامل في القطاع الخاص محروم من المعاشات التقاعدية، لذلك تسعى الحكومة في السنوات القادمة إلى إنشاء صندوق تقاعد خاص بهم مثل الموظفين الحكوميين.
وبالرغم من هذه الظروف القاتمة، إلا أن بعض الجمعيات والمؤسسات العربية ساهمت في التخفيف عن المتقاعد من الجانب الاجتماعي، فبدلًا من عزله في المقاهي والمنزل، قدمت له برامج ثقافية وترفيهية نوعًا ما، إضافة إلى إشراكها إياه في الأنشطة اليدوية والتطوعية والتدريبية، من أجل الاستفادة من تخصصاتهم وخبراتهم.
دولة مسلمة من بين أفضل 5 أماكن في العالم للتقاعد
أعلنت منظمة “إنترناشيونال ليفينغ” دولة ماليزيا كواحدة من أفضل 5 أماكن في العالم للتقاعد في مؤشرها السنوي للتقاعد العالمي لعام 2018 الذي صدر شهر يناير/كانون الثاني، وذلك بناءً على 12 معياراً مثل تكاليف المعيشة -يستطيع أن يعيش زوجان بشكل مريح على مبلغ 1500 دولار- والرعاية الصحية والأنشطة الترفيهية.
إذ يهدف نظام التقاعد الماليزي أو ما يُسمى بـ”صندوق ادخار الموظفين” إلى تعزيز الأمن المادي للمتقاعدين، وهو مخطط يلزم الأفراد العاملين بدفع 23% من مرتباتهم الشهرية، حيث يدفع الموظف نحو 11% ورب العمل 12%، وغالبًا ما يتم دفع مبالغ بمعدلات أعلى اعتبارًا للتغييرات المستقبلية التي تحدث مثل ارتفاع المستوى المعيشي والتكاليف الطبية.
ماليزيا واحدة من الدول القليلة التي لديها خطط تضمن جذب المتقاعدين الأجانب إليها، بموجب برنامج “ماليزيا بيتي الثاني” وعلى أساسها يمكن للأجانب الحصول على تأشيرة لمدة 10 سنوات
المثير للاهتمام أن ماليزيا واحدة من الدول القليلة التي لديها خطط تضمن جذب المتقاعدين الأجانب إليها، بموجب برنامج “ماليزيا بيتي الثاني” وعلى أساسها يمكن للأجانب الحصول على تأشيرة لمدة 10 سنوات قابلة للتجديد ومتعددة الدخول، لذلك يلاحظ لجوء الكثير من الأمريكيين إليها خاصة لتنوعها الثقافي وإتقان شعبها للغة الإنجليزية.
إلى ذلك، تظهر التجارب الدولية أنه لا يوجد حلول سهلة لإصلاح هذه الأنظمة، كما لا يمكن تطبيقها بنفس الصياغة على جميع الدول لاختلاف النظام السياسي والاقتصادي وتنوع القوى العاملة في كل منطقة، إضافة إلى ارتفاع تكلفتها الإدارية وانشغال بعض الحكومات بأزمات أكثر جدية بحسب اعتقادهم.