سيطرت كل من أوروبا والولايات المتحدة على أكثر من نصف إنتاجية الكرة الأرضية في عام 1950، بينما كان نصيب الصين من ذلك كله أقل من 5٪ في ذلك الوقت، وكما قال لنا “آدم سميث”، الأب الروحي للاقتصاد، في كتابه “ثروة الأمم” أنه إذا كفى التاجر احتياجاته واحتياجات أسرته من الإنتاج فسوف يستخدم الربح الفائض لتوظيف مزيد من العاملين وإنتاج المزيد لربح مزيد من الأموال الفائضة عن احتياجاته، فعلت كل من أوروبا والولايات المتحدة الشيء نفسه، لتوظيف كثير من العاملين بأجور زهيدة لإنتاج المزيد والمزيد.
لم يكن لأوروبا تحديدًا تلك الطريقة في التفكير في الخمسينات وما بعدها في القرن الماضي فحسب، بل سيطرتها على أكثر من نصف إنتاجية الكرة الأرضية كانت ناتجة للفكر الرأسمالي الذي تمتعت به القارة الأوروبية قبل قرون طويلة من ذلك، وتحديدًا في حقبة الثورة الصناعية، التي لم تبدأ في أي دولة إسلامية، أو دولة آسيوية، بل بدأت تحديدًا في بريطانيا وانتقلت بشكل فيروسي لكل البلاد المجاورة وخصيصًا في أوروبا الغربية.
لقد كانت في خزائن كثير من الدول الآسيوية وخزائن الدولة العثمانية رأس مال يكثر بكثير عن رأس المال الموجود لدى أوروبا في ذلك الوقت قبل بداية الثورة الصناعية، ولم ينقص أي من الدول غير الأوروبية أي من الإمكانيات المادية للقيام بالثورة ذاتها
أعاد الكثيرون سبب بداية الثورة الصناعية تحديدًا في أوروبا بدلًا من الصين مثلًا أو الدولة العثمانية هو عدم استعداد البلاد الآسيوية والإسلامية إلى الصناعة والعلم، أو عدم قدرتها على بداية ثورة صناعية على عكس الحال في أوروبا، بالإضافة إلى اعتقاد الكثيرين أن الطبيعة المحافظة لتلك المناطق مثل الدولة العثمانية أو الصين منعتها من تحقيق تقدم صناعي سريع إضافة إلى عدم وجود شريحة كبيرة متعلمة في تلك المناطق.
على الرغم من هيمنة تلك الاعتقادات على الكثيرين منذ مرور أكثر من قرنين على الثورة الصناعية التي بدأت في القرن الثامن عشر، إلا أن هيمنته لفترة طويلة من الزمان وعلى شريحة كبيرة من الناس لا يعني أنه صحيح بنسبة كبيرة، على العكس تمامًا لقد كانت في خزائن كثير من الدول الآسيوية وخزائن الدولة العثمانية رأس مال يكثر بكثير عن رأس المال الموجود لدى أوروبا في ذلك الوقت قبل بداية الثورة الصناعية، ولم ينقص أي من الدول غير الأوروبية أي من الإمكانيات المادية للقيام بالثورة ذاتها، لماذا إذًا بدأت الثورة الصناعية في أوروبا بالتحديد؟
الثقافة جزءٌ لا يتجزأ من الثورة الصناعية
كان أغلبية سكان الأرض فقراء حتى عام 1800، وحينما نقول فقراء فنحن نعني أن متوسط العمر لديهم لم يتعدى الـ38، عاش أغلبهم في مجاعات وبحث مستمر عن قوت يومهم الذي كان الحصول عليه من المهمات الصعبة، حتى تغير كل شيء في عام 1800، حينها كان بالإمكان أن يتعدى متوسط الأعمار الأربعين أو الخمسين أحيانًا، وبعد مرور بضعة عقود بدأنا نرى أوروبا تُقيم المصانع ومحطات توليد الطاقة وصولًا إلى القرن التاسع عشر، لقد بدا حينها أن أوروبا بمختلف دولها التي انتشرت فيها مبادئ ومظاهر الثورة الصناعية بشكل فيروسي قادرة على السيطرة على غالبية إنتاجية الكرة الأرضية مع الولايات المتحدة بحلول القرن العشرين.
لقد أظهرت الصين مؤشرات تشير إلى تقدم علمي واضح وسابق للتقدم العلمي الحادث في أوروبا، كما تمتع المسلمون بكثير من براءات الاختراع في مختلف المجالات من الكيمياء إلى الهندسة إلى الرياضيات، لم يكن من الصعب على أي من هؤلاء الوصول إلى مصادر جديدة للطاقة وتحويلها إلى أنواع أخرى لاستخدامها في الصناعة، إلا أنهم على الرغم من ذلك لم يقدروا على أن يبدأوا الحراك الصناعي كما حدث في أوروبا، وكما لهؤلاء أسبابهم في عدم احتضانهم لثورة صناعية، كان لأوروبا أسباب لاحتضانها تلك الثورة، اختلفت كثيرًا عن الصورة النمطية التي أحاطت نفسها بها من حيث قدرتها العلمية وتقدمها على بقية الأمم والحضارات.
كان لدى الأوروبيين انعدام ثقة في وحدة دولهم ولهذا خلقوا نموذج تنافسي مبكر ساعد في انتشار مبادئ التنافسية من أجل الإنتاج
شعر الأوروبيون دومًا ومنذ قرون بقلق مستمر بين بعضهم البعض، حيث شعر الإنجليز بالقلق من الإسبان، وشعر الإسبان بالقلق من الفرنسيين وتوخى الفرنسيون الحذر من الألمان، وتوخى جميعهم الحذر من الأتراك والدولة العثمانية، لقد جعل ذلك من أوروبا صاحبة لنموذج اقتصادي مهم يُعرف بـ“النموذج التنافسي” دون وعي منهم، والذي يجعل كل واحد على يقظة تامة من منافسه، وهذا ما يدفعه للسعي جنبًا إلى جنب مع منافسه، لا لأنه يود أن يساعده ولكن بسبب رغبته في ألا يتقدم منافسه عليه. لم يرد الأوروبيون لبعضهم البعض الأفضلية، ولكن سعيهم وراء أن يكونوا أفضل من غيرهم دومًا، بريطانيا تسعى لكي تكون أفضل من فرنسا والأخيرة تسعى أن تكون الأفضل من إسبانيا، كوّن نموذجًا تنافسيًا بشكل لم يتواجد في الأمم الأخرى.
لم يكن الأمر نفسه حينما نلقي نظرة على الدولة العثمانية أو على الثقافة الصينية التي لم تنفصل كثيرًا عن السياسة في ذلك الوقت، لقد تمتع كلا الاثنين بنموذج متحد بشكل نسبي مقارنة بأوروبا، وكانت لهم سلطة مركزية واحدة، لم تكن الولايات المختلفة في حالة تأهب مستمر من الولايات التي تجاورها أو تشاركها نفس السلطة المركزية المتمركزة في الدولة العثمانية، لم يكن مفهوم الوحدة غريبًا على الثقافتين كما كان هو غريبًا على أوروبا، ولم يكن غريبًا على أي دولة أوروبية أن تعد العدة وتتسلح بالأسلحة إذا شعرت بتهديد بسيط من دولة مجاورة.
من الشائع لدى الأوروبيين أن يضربوا بكلام السابقين عرض الحائط، لم يكن لدى الصين أو الدولة العثمانية مثل “نيوتن” أو “غاليليو”، علماء يكذبون كلام السابقين بل ويقولون أن كل من كان يسبقهم كان خاطئًا، وما دامت السلطة والكنيسة بجانبهم فلابد أن يتقبل الجميع كلامهم، إلا أن ذلك لم يكن من الشائع في الثقافة الصينية، ولا في الثقافة الإسلامية، لم يكن ذلك سهل القبول أيضًا في مجتمعات كتلك.
الإمبريالية ومولد الرأسمالية قبل أوانها
اعتاد الأوربيون التصرف والتفكير بطريقة رأسمالية قبل حتى أن تتواجد الرأسمالية بمفهومها الحالي، لقد أقر “آدم سميث”، الأب الروحي للاقتصاد في كتابه “ثروة الأمم” أن التاجر الأوروبي لن يهدأ في تجارته حينما يكفي احتياجاته واحتياجات أسرته ويحقق توقعاته من تلك التجارة، سيقوم بتوظيف المزيد من العمال بالمال الفائض لإنتاج المزيد وتحقيق مزيد من الأرباح، ولكي يحقق كثيرًا منها عليه أن يوظف مزيدًا من العمال بأجور زهيدة ما دام لا يوجد سلطة مركزية تعيد لهؤلاء العمال حقهم ولا تحاسب هذا التاجر على ذلك.
أرادت الدولة العثمانية الازدهار مع الاستقرار والأمان، وهو ما يتعارض مع الفكر الإمبريالي الذي تمتعت به أوروبا
بدأ الأوروبيون تجارتهم على هذا النحو وإن كانت أعقد بكثير من المثال الموجود هنا، إلا أنه الصورة البسيطة لميلاد الرأسمالية قبل الثورة الصناعية، وهو ما كوّن بيئة مناسبة للغاية لاحتضان الثورة الصناعية بشكل أكبر مما كانت عليه البيئة في الدولة العثمانية أو في البيئة الصينية، التي لم يكن لديها ميول تجاه مبادئ الرأسمالية في العمل والتجارة وإن كانت تسعى هي الأخرى لربح المال.
إذا طبقنا كلام “آدم سميث” مجددًا، سنجد أن التاجر إن اكتفى من الربح في منطقته، سوف ينتقل إلى المناطق المجاورة، وإلى الدول المجاورة. استطاعت الثورة الصناعية الانتقال من بريطانيا إلى كل بلاد أوروبا الغربية بشكل فيروسي وأسرع من انتقالها إلى الشرق الأوسط أو إلى الشرق الأقصى، ليس لعدم قدرتهم على الصناعة، ولا لعدم استعدادهم للعلم كما يروج لعدم بداية الثورة الصناعية في تلك المناطق من جغرافيا الكرة الأرضية، بل لأن الأوروبيين الغربيين تشاركوا في الفكر الإمبريالي نفسه، الرغبة في الحصول على المنفعة الكبرى على حساب مصادر وموارد الغير عن طريق الاستعمارية.
على اليمين صورة للاقتصاد في التاريخ ما بعد الثورة الصناعية يقرن كثير من الاقتراض بنمو سريع في الاقتصاد، على اليسار يقرن قليل من الاقتراض بالبطء في النمو الاقتصادي، الصورة من كتاب Sapiens
خلقت الرأسمالية الأوروبية نظام الاقتراض في العالم، هذا لا يعني أنه لم يتواجد في البلاد الآسيوية أو في الدولة العثمانية، كان موجودًا ولكنه لعب دورًا ثانويًا في نظام الدولة، لم يُبنى الاقتصاد هناك على الاقتراض قط، كما أن تلك المجتمعات لم تهتم بأسعار الفوائد كما كان الحال في الفكر الأوروبي تجاه الاقتراض.
لم يشارك العثمانيون ولا الصينيون الأوروبيين في الفكر الإمبريالي، لم يكن لديهم نية إقراض العالم الخارجي لحسابهم كما فعل الأوروبيون ومعهم الأمريكان من أجل إرهاق الأمم بالفوائد واستغلال مواردهم للحصول على مزيد من الإنتاجية
لم يكن التجار هم النخبة في المجتمعات الآسيوية ولا الشرق أوسطية، كانوا مهمين ولكن لم يكونوا النخبة. أما في المجتمعات الأوروبية فقد كان العكس، لقد تحول التاجر الأوروبي الذي يود توظيف الجميع بأجور زهيدة لخدمته والتوسع خارجًا للاستفادة من موارد الآخرين إلى طبقة النخبة.
لم يشارك العثمانيون ولا الصينيون الأوروبيين في الفكر الإمبريالي، لم يكن لديهم نية إقراض العالم الخارجي لحسابهم كما فعل الأوروبيون ومعهم الأمريكان من أجل إرهاق الأمم بالفوائد واستغلال مواردهم للحصول على مزيد من الإنتاجية ومزيد من الموارد الخام التي لا تمتلكها القارة الأوروبية ومزيدًا من التقنيات التي لم يكن يعرفها الأوروبيون، لقد تحرك الأوروبيون خارج قارتهم لإرضاء فضولهم عما لا يعرفونه ولا يملكونه أكثر من أي شيء آخر.