تمتلئ الضفة الغربية المحتلة بالحواجز الإسرائيلية، و ما أكثر المرّات التي وقف فيها الفلسطينيون لساعاتٍ على حاجزٍ ما لأنّ مزاج الجنديّ كان معكّراً يومها.
ما إن يقف الفلسطينيّ على الحاجز، حتى يبدأ بكيل الشتائم واللعنات على الجنديّ الذي يحتجزه، و تكون تلك اللعنات أكثر وأشد قسوة حين يعرف الفلسطينيّ أن من يحتجزه عربيّ فلسطينيّ مثله.. حين يعرف أنّه درزيّ.
منذ سنوات كثيرة، لا يحتفظ العقلّ الجمعيّ الفلسطينيّ إلّا بصورة واحدة عن العرب الدروز: جنديّ اسرائيليّ ببزة عسكرية يعذب الفلسطينيين ويقتلهم ويعتقلهم، ولكنّه يفعل كلّ هذا بلكنةٍ فلسطينية.
لهذا السبب طالما ارتبطت صورة الدرزيّ بشعورٍ بالمرارة الشديدة عند الفلسطينيين، مبعثها ربما أنّ المرء يتألم أكثر حين تأتيه الطعنة من يد شقيقه.
لكن ما يجهله الفلسطينيون أصحاب هذه الصورة أنّ العرب الدروز ضحيّةُ مثلهم لمؤامرات الاستعمار الصهيوني، وأنّ ما مورس على الفلسطينيّ منذ بداية المخطط الصهيوني لم يسلم منه شقيقه الدرزيّ أيضا، مصادر تاريخية عدة شرحت بإسهاب كيف أنّ الصهاينة منذ أواخر القرن التاسع عشر، وهم يخططون لفصل العرب الدروز عن محيطهم الفلسطيني، النائب الدرزي السابق في الكنيست الإسرائيلي سعيد نفّاع في كتابه ” العرب الدروز والحركة الوطنية الفلسطينية حتى ال-48″ يتحدث عن تاريخ نضالي مشرّف للدروز، قدّموا فيه شهداءً خاصة في ثورة عام 1936، وتعرضهم للإجلاء من قراهم ومصادرة أراضيهم – التي ما زالت تصادر حتى اليوم – و محاولة نقلهم ” ترانسفير” نحو الأردن، ويدرج نفّاع في كتابه نصّاً من استراتيحية صهيونية وضعها بن- تسفي الرئيس الثاني للكيان الصهيوني عام 1930 يقول فيها: ” في كلّ عمل بنيوي نبدأه بين العرب، مثل صناديق القروض، تنظيم أحزاب، علاقات صداقة، يجب أن ندخل في الحسبان في بداية النشاط القرى الدرزية. من الممكن أن نجد بينهم أناساً مخلصين و مثقفين يوافقون برغبة على التعاون. يجب أن تنظم زيارات عند كبار الدروز في البلاد و أن نقترح عليهم المساعدة القانونية في الأمور المتعلقة بالضغط الذي يعانون منه بين فترة وفترة،…. ،بعد الخطوات الأولية هذه، يكون مكان للإتيان بعلاقات مع قيادات درزية في حوران في سوريا وفي لبنان”.
ينتهي الاقتباس هنا، لكنّ الاستراتيجية التي وضعها بن- تسفي لم تبق طيّ الورق و انما استمرّ العمل بها حتى اليوم، وكانت أعظم تجليّاتها في سنّ قانون التجنيد الإجباري على الشباب العرب الدروز عام 1956 و اخراجهم من دائرة ” مواطني دولة إسرائيل” المعفيين من الخدمة الإجبارية السارية المفعول قانونا على كل الفلسطينيين في الداخل المحتلّ، بتواطؤ من بعض القيادات الدرزية التي أهملت رأي الغالبية الرافضة واكتفت بقبول بضعة آلاف من التواقيع المؤيدة.
تعرّض الدروز استكمالا لنهج فصلهم عن محيطهم الى سياسات هدفت الى محو انتمائهم العربيّ و الفلسطينيّ، “من خلال تخصيص محاكم دينية خاصة بهم، وأيضًا من خلال فصل المجالس المحلية والمناهج التدريسية في القرى – التي معظم سكانها من الدروز أو فقط من الدروز- عن تلك التي تخلو من الدروز عام 1976، وأطلقوا عليها قرى درزية مقابل قرى عربية، و وضع منهاج تدريسي درزي مقابل منهاج تدريسي عربي”. ومع الزمن والظروف والمناهج التدريسية نجحت المؤامرة الصهيونية في سلخ بعض العرب الدروز عن أشقائهم، ووضعتهم بين نارين، إمّا العمل في الجيش أو التعرض لعقوبة السجن المفتوح، والتهديد بمعاملتهم معاملة المجانين.
على الرغم من هذا وربما تماشيا مع الروح الثورية السائدة في المنطقة يرفض يومياً عدد متزايد من الشباب العرب الدروز الخضوع للتجنيد الإجباري، عروة سيف أحد الشباب الرافضين للتجنيد الإجباري يقول إنّ ما دفعه لرفض التجنيد هو شعور وطني أساسا يرفض فيه أن يكون يداً تخنق وترتكب الفظائع في شعبه الفلسطينيّ، وشعورٌ بالاضطهاد في الحقوق ” المدنية”، فالصهاينة يحرمون القرى العربية الدرزية من أن تحظى بربع العناية التي تحظى بها التجمعات السكنية الصهيونية، الدروز يصفون وضعهم داخل الكيان الصهيوني بأنهم ” اسرائيليون في الواجبات وعرب فلسطينيون في الحقوق “
ميسان حمدان شابّة فلسطينية درزية جميلة ناشطة في حملة “ارفض شعبك بيحميك” الرافضة للتجنيد الإجباري والتي قامت بعدة نشاطات موسعة مؤخرا للتوعية نحو رفض التجنيد، تحدثت ميسان عن بدائل يحاول الحراك أن يبتكرها، وأهمها توفير منح دراسية لجميع الرافضين، ما اعتبرته “مكسبا كبيرا ومغريا بالنسبة لأي شاب ينتهي من دراسته الثانوية” .
يتزايد يومياً عدد الشبان الدروز الرافضين للتجنيد الإجباريّ، هذا أمرٌ واقع، لكنّ الواقع أيضاً أنّه من قرابة 120 ألف درزي فلسطيني، هناك 83% منهم يخدمون في الجيش الإسرائيلي مقابل 72% من الإسرائيلين الصهاينة يخدمون في ذات الجيش.
ليست فقط عقوبة السجن التي تنتظرهم في حال الرفض هي التي تدفعهم للانخراط في سلك الجندية الصهيوني، انما مغريات عديدة – بعضها وهمية – يقدمها لهم جيش الاحتلال، ميسان تذكر بعضها: ” يحاولون إغراء الشباب من خلال توفير قطعة أرض بعد فترة الخدمة (الأمر الذي لا يحصل فعليًا، فنحن نواجه مشروع ضخم لمصادرة أراضينا وأوامر بهدم البيوت غير المرخصة)، وتأمين دخل شهري لكل جندي، وكلما شغل الشاب مرتبة أعلى في المؤسسة العسكرية، زاد دخله، وهناك إغراءات على المستوى الأكاديمي، حيث يوفرون للشاب فرصة أن يدرس على حساب المؤسسة العسكرية، على أن يعوض خدمته بعد فترة الدراسة”، بعض الشباب الرافضون ومنهم عروة سيف قدّموا انتمائهم وشعورهم الوطني على هذه المغريات، عروة قال أنه لا يرى في الخدمة الإجبارية منفذا ومدخلا لحياته الخاصة، هو يؤمن أنه يستطيع أن يعيش مواطنا حرا كما يشاء دون الحاجة للرواتب المرتفعة التي يقدمونها، مستشهداً : ” هناك المئات من أبناء الطائفه العربية المعروفيه ممن رفضوا الخدمة ومنهم الأطباء والمهندسون والمحامون ورجالُ ديٍن أيضا وعمال وأصحاب حرف مختلفة وهم جميعا ناجحون في حياتهم في جميع جوانبها “.
بالنسبة للصهاينة، فإنّ هؤلاء الدروز الذين يلتحقون بكثرة في الجيش الإسرائيلي لا يعتبرون مصدر ثقة، وهذا تدلل عليه حادثة حصلت العام الماضي وانتشرت بقوة في الصحف العبرية، تحت عنوان “إذلال جنود دروز خلال مهمة في مفاعل ديمونا” نشرت “يديعوت أحرونوت” تقريرا يفيد أنه جرى منع ضابط وجنديين من العرب الدروز من دخول مفاعل ديمونا، كانوا قدموا لإجراء تدريبات تتصل بالحراسة. وأضافت الصحيفة أنه طلب من الجنود تسليم بطاقاتهم، وفوجئوا بعد دقائق بمنع ثلاثتهم وهم ضابط وجنديين، من الدخول.
في إحدى المقابلات مع الإذاعة العبرية صرّح نتنياهو رئيس حكومة الاحتلال إن “إخواننا الدروز هم جزء منا، وهم يخدمون في الوحدات القتالية في الجيش، وينبغي لنا أن نتعامل معهم على قدم المساواة “. هذا التصريح الذي يتعارض مع الواقع حيث إن الدروز مصنفون في كتيبة خاصة بهم في الجيش تسمى الكتيبة الدرزية، الأمر الذي يعتبره الدروز المجندون انتقاصا من شعورهم ” الوطني ” وانتمائهم للكيان الصهيوني، ما دفهم للمطالبة بدمج عناصر الطائفة الدرزية في جميع وحدات الجيش “الإسرائيلية” والكف عن وضعهم في وحدات خاصة بهم. أيّوب قرا عضو كنيست عن حزب الليكود في تصريح له قبل ثلاثة أعوام قال: “لقد حان الوقت بأن تعترف “إسرائيل” بتضحيات الدروز في الجيش من أجل “إسرائيل”، وأن الروح المعنوية عالية جدا في الانتماء والالتحاق بوحدات الجيش في السنوات الأخيرة، بل إن النسبة لديهم تفوق اليهود أنفسهم، وعليه نحن نريد أن يندمج هؤلاء وأن يحصلوا على ترقيات رفيعة في الجيش”.
هناك أسباب فعلية تدفع الجنود الدروز للشعور بالغضب، فهم الأكثر التحاقا بالجيش، وهم الذين يضعهم الجيش في ” مقدمة المدفع” فيكونون على رأس المشاة في الاقتحامات وكل العمليات التي قد تحمل نسبة خطورة على حياة الجندي الإسرائلي وبالمقابل هم الأكثر تهميشاً ويتم التنكر لهم ومعاملتهم كمواطنين من الدرجة الثالثة، وكأنّ في هذا رسالة لهم مفادها أنّ المواطنة لا تكون إلّا داخل الوطن، ومع أبناء الوطن، ومن أجل الوطن ولا تكون أبداً مع المستعمر.
لا تقع مسؤولية محاربة التجنيد فقط على كاهل الشباب الدروز، بل ينتظرون من الفلسطينيين جميعاً مساندتهم، عندما أرسل الشاب العربيّ الدرزي العازف عمر سعد رسالة الى رئيس حكومة الاحتلال يعلن فيها عن رفضه للتجنيد تضامن الفلسطينيون من غير الدروز معه بشكل واسع وتداولوا صورته، ميسان تتحدث عن تأثير هذا التضامن: ” بدون شك، قد أثّر تضامن الفلسطينيين مع الرافض عمر سعد على الكثير من الشباب الدروز وبنظرتهم لمفهوم “الفلسطيني”، لقد ازداد عدد الرافضين من الشباب الدروز ولاحظنا ان الانتماء للعروبة وللفلسطينيين يزداد ايضا “
بينما يقدم الصهاينة للعرب الدروز مغريات للالتحاق في الجيش الإسرائيلي، يقدم لهم اخوانهم الفلسطينيون من كافة الطوائف أسباب أقوى لرفض هذه المغريات: الأخوّة في العروبة والشراكة في الوطن والوقوع تحت الاستعمار ذاته و الهدف التحرري الأسمى ذاته.
سلسلة مواضيع مشتركة بين نون بوست و قدس الإخبارية