ترجمة وتحرير: نون بوست
في فلسطين الصغيرة، تنتشر رموز الحرب التي تُشن على شعب غزة في كل مكان. إنها موجودة على اللافتات الموضوعة على طول الطريق الرئيسي، على غرار لافتة “فلسطين حرة” العملاقة في جادة هارلم. والأعلام الفلسطينية أيضًا في كل مكان، وكذلك الملصقات التي تدعو إلى وقف إطلاق النار.
تنتشر علامات التضامن بكثرة في المتاجر الكبرى ومحلات الحلاقة حتى أن التميمة الخاصة بمطعم “هولي باكتس” للدجاج والبيتزا ملفوفة بالكوفية. بالنسبة للأشخاص الذين يعيشون في قرية بريدج فيو، المعروفة شعبيًا باسم فلسطين الصغيرة، في الضواحي الجنوبية الغربية لشيكاغو، فإن الحرب في غزة ليست مفهومًا مجردًا. تمثل هذه المنطقة موطنًا لأكبر جالية فلسطينية أمريكية في الولايات المتحدة، وإذا كان هناك جالية في الولايات المتحدة تضررت بشدة من الحرب، فهي في هذا المكان.
إن هذا التضامن الواسع ما هو إلا انعكاس لمشاعر تتأرجح بين الألم والغضب والإحباط من الدعم الأمريكي للحرب الدائرة في غزة. وهنا مشاعر اللامبالاة مذهلة بشأن الانتخابات الرئاسية المقررة في وقت لاحق من هذه السنة.
إن خيبة الأمل تجاه الحزب الديمقراطي هنا واضحة حيث قال العديد من المنظمين والسكان لميدل إيست آي إن الأبواب تغلق بسرعة في وجه نائب الرئيس كامالا هاريس حيث أصبح من الواضح أن المرشحة الرئاسية لا تنوي التعهد بوقف دائم لإطلاق النار، ناهيك عن فرض حظر على الأسلحة على “إسرائيل”.
يصدح المؤتمر الوطني الديمقراطي الجاري حالياً في وسط مدينة شيكاغو في كل قناة تلفزيونية بفخر الانتصار والاحتفال، ولكن في فلسطين الصغيرة، التي تبعد 15 ميلاً فقط عن مقر الحدث، قد تكون هاريس على موعد مع مفاجأة من نوع ما في شهر تشرين الثاني/نوفمبر.
وليس من الصعب فهم السبب. فعلى مدار الأشهر العشرة ونصف الشهر الماضية، شاهد السكان حكومتهم وهي ترسل المليارات من المساعدات العسكرية وتقدم الدعم الدبلوماسي والخطابي غير المشروط لـ”إسرائيل” بينما كان جيشها يسوّي أحياءً ومستشفيات ومدارس ومخيمات لاجئين بالأرض.
قالت فداء العايدي، وهي محامية تعيش في أحد أحياء فلسطين الصغيرة، إن عمتها قُتلت في تشرين الثاني/نوفمبر عندما سقطت قنبلة تزن 2000 رطل على مبنى قريب في غزة. وذكرت العايدي أن رأس عمتها قُطعت في الانفجار وكان لا بد من انتشال أشلائها من أماكن مختلفة لدفنها. لكن هذا ليس كل ما عانته عائلتها.
أضافت العايدي أن 40 فردًا من عائلتها الممتدة قُتلوا في أحد الهجمات، وفي هجوم آخر قُتل 19 فردًا من جزء آخر من العائلة. وفي تشرين الثاني/نوفمبر، اختطفت القوات الإسرائيلية ابن عمها أثناء فراره من شمال غزة إلى جنوبها، ولا يزال مكان وجوده غير معروف حتى الآن.
وذكرت أن ابن عم آخر لها أصيب بطلق ناري في ساقه وأصبح معاقاً منذ ذلك الحين. وكان هناك آخرون أيضًا مصابون بمرض السكري أو مصابون بالسرطان يكافحون من أجل تأمين الدواء أو الرعاية.
وقالت العايدي: “أحمّل إدارة بايدن وكل ديمقراطي لم يدعُ فورًا إلى وقف إطلاق النار غير المشروط والفوري منذ بداية الحرب، مسؤولية موت عمتي وهذا أمر لن أنساه أو أغفره أبدًا”. وبالإضافة إلى الدمار الذي خلفه فقدان أحبابهم، تحدث السكان عن أشهر من الصدمة التي تم تجاهلها.
أخبرت ديانا عثمان، الناشطة منذ فترة طويلة والمعلمة في المدرسة الثانوية، وهي أيضًا من فلسطين الصغيرة، موقع ميدل إيست آي كيف حاولت إدارة الصراع الشخصي ومتطلبات المناصرة مع تحملها الحزن والصدمة التي لا تنتهي لجميع أفراد المجتمع. فمن ناحية، تتواجد عائلة زوجها – والدته وشقيقاته وإخوته وأطفالهم بالإضافة إلى خالاته وأعمامه – كلها في غزة. وكعائلة، يقضون كل ساعة من ساعات استيقاظهم قلقين بشأن إذا ما كانت عائلاتهم في غزة لديهم طعام وإذا ما كان لديهم “سقف ما فوقهم يؤويهم”.
وباعتبارها أيضًا معلمة في مدرسة محلية، تقول عثمان إن الحرب تركت أثرًا كبيرًا على الأطفال الذين لا يستطيع الكثير منهم فهم سبب دعم حكومتهم لقتل أحبائهم: “كمجتمع، كان الأمر صعبًا لأن معظم طلابنا فلسطينيون، وبالتالي هم على دراية كبيرة بما يحدث. وقد تأثر بعضهم بشكل مباشر. فمنهم من خسروا عائلاتهم أو فُقدت أسرهم. كان لدينا بعض الطلاب الذين عاشوا جزءًا من حياتهم في غزة، وبالتالي لديهم أصدقاء وعائلة قُتلوا هناك”.
قالت عثمان إن بعض الطلاب الذين انضموا في منتصف السنة كانوا قد فروا من غزة وجاءوا إلى مدرستهم. وأضافت: “بصفتي شخصًا ينخرط في العمل التنظيمي والأنشطة، فقد أرهقنا طلب هذه الأشياء، سواء كان ذلك بتنظيم احتجاجات أسبوعيًا، وأحيانًا مرتين في الأسبوع، أو زيارة المسؤولين المنتخبين، أو اتخاذ إجراءات، أو تنظيم فعاليات تعليمية، أو تنظيم فعاليات للحشود الصغيرة”. وذكرت عثمان أن الأطفال الفلسطينيين واجهوا أيضًا مضايقات في المدارس الحكومية، سواء من الموظفين أو من زملائهم الآخرين “وتطول القائمة”.
في سنة 2020، حصل المرشح الرئاسي آنذاك جو بايدن على 781,238 صوتًا من مقاطعة كوك في الضواحي، حيث تقع فلسطين الصغيرة واعتُبر ذلك أكبر عدد من الأصوات لأي مرشح في تاريخ المقاطعة. وبالنظر إلى أن ولاية إلينوي هي معقل الحزب الديمقراطي، فإن النشطاء والسكان يدركون جيدًا أن خسارة الأصوات في فلسطين الصغيرة هذه المرة لن يؤثر على مصير الولاية على الأرجح.
لكن المنظمين هنا يقولون إنه في الوقت الذي قد يتم فيه تجاهلهم، فإنه لن يكون من الحكمة أن تتجاهل هاريس المجتمعات المحلية الأخرى في الولايات المتأرجحة، مثل ولاية ميشيغان المجاورة، حيث يمكن لعدة آلاف من الأصوات أن تحدث فرقًا بين الفوز والخسارة.
قالت العايدي: “في أتلانتا، كما تعلمون، تصويت السود وتصويت المسلمين وتصويت العرب، يمكن أن يغير النتيجة بشكل كبير. لذلك أعتقد أن الديمقراطيين بحاجة إلى أن يكونوا على دراية بذلك”. وذكرت جنان شحادة، ناشطة ومحامية، إن المجتمع المحلي كان يعتقد أن التصويت لصالح بايدن ضد دونالد ترامب “سيكون أهون الشرين، ومع ذلك ها نحن ذا”.
وأضافت شحادة: “لذا، نحن نرى مرة أخرى أن الناس قد أفاقوا من نظام أهون الشرين الذي ترسخ عندنا نوعًا ما، وأننا لن نقبل بعد الآن بمرشح أهون الشرين وأننا نطالب بالمزيد”. وقالت شحادة إن المجتمع قد استنفر بشكل لم يسبق له مثيل وأنه غير مستعد للتسوية كما فعل من قبل.
اجتمع نشطاء من جميع أنحاء البلاد في شيكاغو للاحتجاج على دعم الولايات المتحدة لـ”إسرائيل” خلال المؤتمر الوطني للحزب الديمقراطي هذا الأسبوع في المدينة حيث تم الإعلان رسميًا عن هاريس وزميلها تيم والز كمرشحي الحزب الديمقراطي للانتخابات الرئاسية المقبلة في تشرين الثاني/نوفمبر.
تقول العايدي إنه باعتبارها مؤيدة للديمقراطيين منذ فترة طويلة، كان لديها بعض الأمل في أن هاريس ربما تكون مختلفة، ولكن يبدو أن هذا الأمل يتبدد بسرعة إذ “ليس هناك الكثير من الوقت أمامها لتغيير رأيها وإثبات أن إدارتها ستكون مختلفة”. وعلى غرار الكثيرين من فلسطين الصغيرة، انضمت العايدي إلى آلاف المتظاهرين بعد ظهر الأربعاء والخميس في احتجاجات خارج مقر اللجنة الوطنية الديمقراطية.
وقالت العايدي: “بالتأكيد لن تحصل على صوتي دون اتخاذ إجراءات كبيرة وإظهار تغيير جذري عن إدارة بايدن، والتوقف تمامًا عن إرسال الأسلحة إلى إسرائيل، وعدم حماية إسرائيل على الساحة الدولية، وفرض وقف إطلاق النار بشكل أساسي والتأكد من دخول المساعدات الإنسانية إلى غزة فورًا من الحدود”.
مع ذلك، يرى آخرون أن هاريس لم تعد خياراً بالنسبة لهم أو أنهم لم يكونوا متحمسين للانتخابات بشكل عام. من جهتها، قالت عثمان: “نعم، أعتقد أن الناس ضاقوا ذرعًا في هذه المنطقة على وجه الخصوص. فهم لا يرون خياراً قابلاً للتطبيق في كلتا الحالتين. هذه المرة، الناس يقولون: لا أريد التصويت لأي شخص. لا أريد أن أصوت لترامب المتعصب والعنصري والبغيض، أو لكامالا هاريس التي تعد جزءًا من الإدارة التي نفذت هذه الإبادة الجماعية. نحن نشعر، كما تعلم، باليأس الشديد فيما يتعلق بالنظام السياسي لأننا حاولنا على كل المستويات”.
ذكرت عثمان أن الضغط على أعضاء الكونغرس وأعضاء مجلس الشيوخ قوبل بعدم التجاوب وأحيانًا بالعداء، مما يعني أنه من غير المرجح أن تتحسن الأمور على مستوى الرئيس “لذلك نحن نواجه هذا المأزق الذي لا مفر منه حقًا. وهو أمر لا يمكنني أن أرى نفسي مشاركة فيه في هذه المرحلة”.
قال العديد من الفلسطينيين الأمريكيين الذين تواصل معهم موقع ميدل إيست آي إنهم يفضلون عدم الحديث في السياسة. وأرجع المنظمون هذا التردد إلى مزيج من التعب والحذر من المخاوف المتزايدة بشأن مراقبة الدولة.
قالت شحادة: “أعتقد أنه عندما تتحدث عن ما عاناه هذا المجتمع، فالأمر لا يقتصر على الخسارة الهائلة والدمار فحسب، بل أيضًا هذه الصحوة التي نراها لدى الجميع من الأطفال إلى طلاب الجامعات إلى كبار السن، الذين استيقظوا ورأوا أن الأمر متروك لنا، نحن أبناء المجتمع، للاستثمار في أنفسنا وتحرير الفلسطينيين والدفاع عن العدالة والنضال من أجلها. وأننا لم نعد نعتمد على هذه المؤسسات والأنظمة التي تعدنا بالعدالة، لأن ما رأيناه هو أنها خذلتنا مرارًا وتكرارًا”.
المصدر: ميدل إيست آي