منذ اختراق موقع “وكالة الأنباء القطرية” في 23 ايار/مايو من العام الماضي وبث تصريحات ملفقة لأمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، ثم قطع العلاقات الدبلوماسية مع الدوحة، بعدها بأقل من 12 يومًا، تحديدًا في الخامس من يونيو/حزيران، كانت دول الحصار (السعودية- الإمارات- البحرين –مصر) تراهن على عامل الوقت لتسليم قطر ورفع الراية البيضاء، إلا أن رياح الأيام لم تأت بما اشتهته سفن الرباعي.
أكثر من 400 يومًا والقطريون يتعرضون لأشرس حروب العصر، عقوبات اقتصادية وسياسية، وفرض حصار شامل، ومحاولة تفكيك بنى اجتماعية وسياسية وقبائلية ودينية قائمة منذ مئات السنين، وإعلان قائمة أكاذيب ورفع شروط تعجيزية تنهي سيادة الإمارة وتجعلها تابعا يدور في فلك الدول الرباعية.
لكن يبدوا أنه ومع مرور الأيام، وبينما تدخل الأزمة عامها الثاني، بات الاعتماد على عامل الوقت لتركيع القطريين رهان على حصان خاسر، وهو ما تؤكده الدوحة يومًا تلو الآخر، في ظل نجاحات دبلوماسية لم تحققها حتى قبل فرض الحصار عليها.
“قطر شريك أساسي في مكافحة الإرهاب والتطرف في الشرق الأوسط”.. بهذه الكلمات التي قالها الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، خلال لقاءه وأمير قطر، الشيخ تميم بن حمد، الذي يزور فرنسا حاليًا، تعيد باريس تأكيد موقفها السابق من الأزمة الخليجية والذي ارتأى الوقوف على مسافة واحدة من طرفيها رغم الجهود المبذولة، التي استخدمت كافة أنواع الضغط، لدفع العواصم الأوروبية إلى تبني وجهة نظر أحادية تخدم أهداف وأيديولوجيات دول الحصار.
الشريك المهم
استقطبت زيارة أمير قطر لفرنسا اهتمام وسائل الإعلام المحلية والدولية، لما تنطوي عليه من ترسيخ لحجم التعاون المشترك بين الدولتين في هذا الوقت الحرج الذي تمر به المنطقة، حيث طرح حزمة من الملفات الحساسة على المائدة العربية، على رأسها ملف صفقة القرن والأزمة الخليجية والتحالفات الإقليمية.
ماكرون وخلال لقاء صحفي جمعه ونظيره القطري أكد على العمل معا لمحاربة الإرهاب وتمويله، وعلى أهمية العلاقات الثنائية بين باريس والدوحة، التي وصفها الرئيس الفرنسي بـ«الشريك المهم» من أجل تحقيق السلام في المنطقة.
الرئيس الفرنسي أشاد كذلك بـ«التدابير التي اتخذتها دولة قطر لمكافحة الإرهاب والتطرف في الشرق الأوسط»، مشيرا إلى دورها المحوري في مكافحتها كونها شريكًا أساسيًا في هذا المضمار الكبير الذي يتطلب تحالف الجميع.
كذلك أعرب عن رغبة مشتركة لتعزيز العلاقات الثنائية في مختلف المجالات لاسيما الاقتصاد والثقافة والتعليم العالي والرياضة ومجالات أخرى، مشيرا إلى حرصه على تطوير التعاون الرياضي على خلفية استضافة دولة قطر لمونديال 2022 واستضافة باريس للألعاب الأولمبية 2024 ، مثمنا التعاون الرياضي بين فرنسا وقطر في هذا المجال.
باعتراف ماكرون بشراكة قطر المهمة والأساسية في مكافحة الإرهاب في الشرق الأوسط، بات اعتماد دول الحصار على عامل الوقت لإضعاف الموقف القطري دوليًا، رهان خاسر، لا جدوى منه.
وفي المقابل أكد أمير قطر الذي يزور باريس للمرة الثانية في غضون عام واحد منذ تولي ماكرون السلطة في شهر مايو/ أيار من العام الماضي- على الجهود التي تبذلها بلاده لمكافحة الإرهاب، مشيراً إلى أنه ناقش العديد من الملفات مع الرئيس الفرنسي، على رأسها الملف السوري والفلسطيني والأزمة الخليجية.
تميم خلال المؤتمر الصحفي أوضح أن «العلاقات بين باريس والدوحة قوية للغاية، وأنه يشعر بالفخر إزاء قوة هذه العلاقات”، التي وصفها أيضا ماكرون بأنها ترتكز على تعميق التعاون الثنائي، وأنها ترجمت عملياً من خلال صفقة طائرات الرافال التي أبرمت بين البلدين، حيث اطلع أمير قطر، مساء أول أمس الخميس، في مستهل زيارته لباريس على نموذج من طائرة رافال في إطار مساعي قطر لشراء 36 طائرة مقاتلة ضمن صفقتين منفصلتين، وذلك خلال الزيارة التي قام بها إلى قاعدة عسكرية في جنوب غرب فرنسا.
ومن المقرر أن يتوجه أمير دولة قطر إلى موسكو بعد أيام، حيث سيجري محادثات مع نظيره الروسي، فلاديمير بوتين، ترتكز حول سبل تفعيل التعاون المشترك بين البلدين، وتشير بعض المصادر إلى حضوره المباراة النهائية في كأس العالم المقام حاليًا في روسيا.
تأكيد لموقف فرنسا
تميز الموقف الفرنسي منذ بداية الأزمة الخليجية بالحذر، وحث الأطراف على التعقل والابتعاد عن التصعيد في منطقة لا تنقصها الأزمات، وككل الدول العظمى فإن باريس تلعب على حبال عديدة؛ فهي لا تريد إغضاب شريك اقتصادي مهم بحجم السعودية، كما لا يمكنها التفريط في بلد مقرب منها، وتربطها به علاقات وثيقة كما قطر، ومن ثم كانت معضلة التوازن التي تأرجح فيها الموقف، بين الحين والآخر، يمينًا ويسارًا.
غير أنه ومع مرور الوقت مارست دول الحصار لاسيما السعودية والإمارات ضغوطا اقتصادية غير مسبوقة لإثناء ماكرون عن الوقوف في منطقة الحياد حيال الأزمة، مستخدمين في ذلك كافة أنواع النفوذ الممكنة، الشرعية منها وغير الشرعية، وهو ما كاد أن يتحقق عبر حزمة من الصفقات المبرمة بين الجانبين، غير أن دخول الدوحة على الخط- دبلوماسيًا واقتصاديًا- في الآونة الأخيرة كان عاملا مهما في إعادة ترتيب المشهد.
تعرضت دول الحصار إلى تآكل تدريجي في سمعتها، داخليًا وخارجيًا، رغم حملات العلاقات العامة الباهظة التي تقوم بها لتحسين صورتها
البعض فسر تصريحات الرئيس الفرنسي، أمس، على أنها بمثابة إعادة التأكيد مرة أخرى على موقف فرنسا منذ بداية الأزمة، وهو الحياد في معالجة كافة الأسباب التي كانت وراء انفجار الأزمة، دون الرضوخ للضغوط الممارسة من هنا أو هناك.
وباعتراف ماكرون بشراكة قطر المهمة والأساسية في مكافحة الإرهاب في الشرق الأوسط، بات اعتماد دول الحصار على عامل الوقت لإضعاف الموقف القطري دوليًا، وتشويه صورته إقليميًا، بإلصاق تهم الإرهاب ودعم التنظيمات المتطرفة، رهان خاسر، لا جدوى منه.
يذكر أنه في الخامس عشر من يوليو/تموز الماضي، طالب وزير الخارجية الفرنسي، جان إيف لودريان، خلال جولته الخليجية، بضرورة إيجاد حل سريع للأزمة بين دول الخليج ورفع الإجراءات، التي تنعكس على حياة المدنيين، مؤكدًا خلال مؤتمر صحفي مع نظيره القطري محمد بن عبد الرحمن آل ثاني في الدوحة، دعم باريس للوساطة الكويتية لحل الأزمة بين دول الخليج وقطر.
وعبر لودريان لقادة الدول التي قام بزيارتها وهي السعودية والكويت والإمارات بجانب قطر عن قلق بلاده من التدهور السريع في العلاقات بين دول الخليج، مؤكدا على ضرورة العمل بحزم لمكافحة الإرهاب، وأن هذا يتطلب غلق هذا الملف بصورة سريعة.
وزير خارجية فرنسا خلال جولته الخليجية العام الماضي
الدوحة في مواجهة الرباعي
بعد 13 شهرًا على اندلاع الأزمة، بات من الواضح كيف نجحت الدبلوماسية القطرية في تضييق رقعة الخناق عليها بعد أن نجحت دول الحصار في توسعتها بداية الأمر، مستغلة في ذلك أوتار مكافحة الإرهاب والتدخل في شئون الغير للعزف عليها، عبر حشد إعلامي ونفوذ مالي وسياسي.
البداية حين تمكنت الدوحة من استعادة التوازن داخل الكونغرس الأمريكي الذي كانت دول الحصار تستميت لوبياتها داخله لفرض قانون مناهض لقطر، حيث توج لقاء تميم بنظيره الأمريكي، بترامب، في البيت الأبيض، إبريل/نيسان الماضي بحزمة من النجاحات الدبلوماسية.
الوضع لم يختلف كثيرًا عما حدث مع موسكو، لاسيما بعد الترحيب الشديد الذي قوبل به من نظيره الروسي، بوتين، والذي من المقرر أن يتلقيه مرة أخرى خلال أيام، ثم يأتي لقاء ماكرون ليؤكد الخطوات الثابتة التي تسير بها الدبلوماسية القطرية نحو استعادة خيوط تحالفاتها مجددًا.
الإمارة الصغيرة كما يحلو لمحللي دول الحصار أن ينعتوها نجحت في تجميع تحالف للمتعاطفين معها (أو المتضررين والخائفين من عدوانية دول الحصار) داخل منطقة الخليج، من خلال الكويت وعُمان، كما نجحت في صد التهديدات العسكرية عبر تشديد علاقاتها مع أنقرة، وفكّ الحصار الجوّي والبحري عبر إيران، ومن ثم ما عاد تحريك المياه الراكدة في مستنقع الأزمة يعنيها بالصورة التي كانت عليها الأوضاع قبل عام تقريبًا.
الرئيس الفرنسي أشاد كذلك بـ«التدابير التي اتخذتها دولة قطر لمكافحة الإرهاب والتطرف في الشرق الأوسط»، مشيرا إلى دورها المحوري في مكافحتها كونها شريكًا أساسيًا في هذا المضمار
وعلى الجانب الآخر، تعرضت دول الحصار إلى تآكل تدريجي في سمعتها، داخليًا وخارجيًا، رغم حملات العلاقات العامة الباهظة التي تقوم بها لتحسين صورتها، فبجانب التهافت التطبيعي للرياض وأبو ظبي والمنامة على وجه الخصوص مع تل أبيب، شابت سياسة السعودية الداخلية أخبار الاعتقال والسجن والابتزاز للأمراء ورجال الأعمال، وتحوّل حجزها لرئيس وزراء لبنان رفيق الحريري، وبعده قطب الأعمال الأردني ـ الفلسطيني صبيح المصري، ورجل الأعمال الأثيوبي محمد حسين العمودي إلى فضائح تناقلتها وسائل الإعلام في الداخل والخارج.
الوضع في الإمارات لم يكن أفضل حالا من السعودية، إذ أن أخبار انتهاكاتها الهائلة لحقوق الإنسان على أراضيها وفي البلدان المجاورة لها، لم تتوقف، وهو ما دفعها لأن تكون الحاضر الدائم على جدول أعمال المنظمات الحقوقية الدولية، رغم محاولات الالتفاف وتضليل الرأي العام الدولي حيال سجلها الحقوقي المشين.
وفي البحرين.. يتعرض الاقتصاد لأكبر هزة له في العقود الأخيرة، حيث تراجع العملة المحلية إلى أدنى مستوياتها منذ 17 عامًا، وهو ما دفع البعض إلى التحذير من احتمالية مواجهة اقتصاد المملكة للإفلاس لو استمرت الأوضاع على ما ه عليه، فيما تواصل القاهرة مسلسل الانتهاكات الحقوقية وتضييق الخناق على الحريات في الوقت الذي يعاني فيه المصريون من واقع معيشي مذري نتيجة السياسيات الخاطئة للنظام الحالي، والتي دفعت بما يقرب من 30 مليون مصري إلى مادون خط الفقر.