ترجمة وتحرير: نون بوست
على الرغم من الرياح السيئة التي تعكر صفو الوضع الحالي، إلا أن الصين لديها الكثير من المناسبات والأحداث لتحتفل بها. وفي كانون الأول/ ديسمبر القادم، ستحتفل الصين بالذكرى الأربعين لعملية الإصلاح والانفتاح الصيني التي تم الإعلان عنها في كانون الأول/ ديسمبر سنة 1978 من قبل الرجل الأسطوري، دنغ شياو بينغ. وقد حوّل هذا الرجل العملاق الآسيوي إلى اللاعب الرأسمالي الناجح في الوقت الحالي.
بعد أن تغلبت الصين على تأثير المذهب “الماويّ” وبدأت هذه الإصلاحات، كان العملاق الآسيوي يعاني من ركود حاد ويمثل نسبة 1.8 بالمائة فقط من الناتج المحلي الإجمالي العالمي. أما في الوقت الحالي، فقد أصبحت هذه النسبة في حدود 18.2 بالمائة. وفي منتصف هذه الفترة، أي قبل 17 سنة، انضمت الصين إلى منظمة التجارة العالمية، لترسّخ مكانتها في المنظمة بين بقية الجهات الفاعلة والمؤثرة في العولمة.
دنغ شياو بينغ
بشكل عام، جعلت جميع هذه العوامل الإمبراطورية المركزية تتمركز في مرتبة ثاني ناتج محلي إجمالي عالمي، بقيمة 11 مليار دولار، لتصطف مباشرة خلف الولايات المتحدة الأمريكية التي تعد القوة الاقتصادية الأولى. في نفس الوقت، تعد الصين الوجهة الثالثة للاستثمار الأجنبي المباشر، والمالك لأكبر احتياطات عالمية، التي هي في حدود 3.12 مليار دولار أمريكي. ويشمل هذا المبلغ الاستثنائي سندات الخزانة الأمريكية، التي تضع العملاق الآسيوي في مرتبة الدائن الأول لواشنطن؛ منافسه في الحرب التجارية التي اندلعت يوم الجمعة الماضي مثيرة قلق ومخاوف العالم.
في الأثناء، تعتزم بكين الاحتفال بمناسباتها السنوية وهي مقتنعة بأنها ستتمكن من التخلص من الضغط الشديد الذي فرضه البيت الأبيض. وتتمثل استراتيجية الصين في تحويل حمائية ترامب إلى أسلوب يكلفه الكثير، وإخضاع القطب الأمريكي وتوجهاته غير العقلانية عبر هذه الضربة. لكن، لا يبدو هذا الأمر سهلا البتة. وفي ظل هذا الوضع، تؤكد الصين أن هذه الخلافات ستسبب أضرارا ذاتية للأطراف التي تولدها. فقط، يحتاج الأمر إلى التريث والانتظار ليظهر الواقع صحة هذه الحقيقة.
أشارت غرفة التجارة الأمريكية إلى “سلسلة المخاطر” التي ستتولد بموجب تطور هذا الصراع وتحوله إلى “حرب تجارية دولية”
في ظل هذا الوضع، ذكرت الصحافة الرسمية الصينية على نطاق واسع، شهادة أحد رجال الأعمال الأمريكيين الذي حذر من توجهات الرئيس الأمريكي الجديد التي أدت إلى تراجع عدد مواطن الشغل، وغيرها من التداعيات الأخرى التي تسببها هذه السياسات. في نفس الوقت، أدت توجهات ترامب إلى تذبذب الاحتياطي الفيدرالي؛ وهو ما حذر منه صندوق النقد الدولي. بالإضافة إلى ذلك، سلطت هذه التحذيرات الضوء على حالة عدم اليقين وتنامي المخاطر التي تهدد رجال الأعمال.
من جهتها، أشارت غرفة التجارة الأمريكية إلى “سلسلة المخاطر” التي ستتولد بموجب تطور هذا الصراع وتحوله إلى “حرب تجارية دولية”. وترى في نفس الوقت أنه في هذا السيناريو، ستعمل جميع الجهات الفاعلة على عزل نفسها من أجل تثمين جهودها لضمان البقاء على قيد الحياة. وفي جميع الأحوال، ينذر تاريخ القرن الماضي بكيفية استمرار هذه الخلافات والحد الذي ستصل إليه في النهاية.
دونالد ترامب وشى جين بينغ في مقر إقامة الرئيس الأمريكي في ولاية فلوريدا في سنة 2017. أما اليوم، فقد أصبح الزعيمين خصمين لبعضهما البعض.
من جانب آخر، يترجم ترامب العجز التجاري على أنه هزيمة، فيما يعتبر أن أرقام المبادرات التجارية تغذي هذا الوضع. في ظل هذا الوضع وصل العجز التجاري للولايات المتحدة في التجارة مع الصين إلى حدود 347 مليار دولار خلال سنة 2016، وارتفع هذا الرقم بعد سنة فقط ليصل إلى حدود 375 مليار دولار. وتجدر الإشارة هنا إلى أن جزءا كبيرا من سلع المبادلات التجارية بين البلدين متأتية من شركات أمريكية غير متمركزة بالولايات المتحدة الأمريكية الداعمة لمسار العولمة؛ حيث تبحث سلاسل الإنتاج عن تحقيق التوازن بين الأسعار والكميات على نطاق عالمي.
في المقابل، لا يرغب ترامب في تحقيق هذا التوازن، حيث أن حربه التجارية تهدد التوازنات التجارية العالمية أكثر من أي وقت مضى، وتجمد النمو الضئيل الذي سجله الاقتصاد العالمي. علاوة على ذلك، ستؤدي الحرب التجارية التي يقودها ترامب إلى تقليص حركة التجارة العالمية وستنقل حالة من عدم اليقين إلى البلدان التي تحاول النمو في ظل الشركات العملاقة. من جهة أخرى، يبدو أن الوضع سيزداد تعقيدا، نظرا لقيادة ترامب حروب أخرى، دعما لحمائيته المبالغ فيها، ضد حلفائه الأوروبيين وجيرانه الكنديين والمكسيكيين؛ حيث فرض ضرائب على الصلب والألمنيوم. ويهدد ترامب أيضا بفرض عقوبات مماثلة على صناعة السيارات الألمانية.
أورد دبلوماسي صيني في تصريح أدلى به لوكالة الأنباء ريوترز، أن “الصين ترغب في أن يتحد الاتحاد الأوروبي مع بكين ضد واشنطن”
من ناحية أخرى، تعاني استراتيجية الصين المعدة لمواجهة هذا التحدي من بعض نقاط الضعف المرتبطة بالتقدير المبالغ فيه لموقع قوتها. في ظل هذا الوضع، يضعها هذا العامل في صف منافسها الأمريكي، أكثر مما يساعدها على التميز عنه. ومن بين الأمثلة التي تسلط الضوء على هذا السلوك الصيني، نذكر أن بكين تحاول إنشاء كتلة مشتركة مع الاتحاد الأوروبي من شأنها أن تواجه السياسات الأمريكية. وفي هذا الصدد، كان نائب رئيس الوزراء، ليو هي، اليد اليمنى للرجل الداعم للانفتاح على العالم لي كيكيانغ، أحد الوجوه الرئيسة التي أشرفت على المفاوضات، من بروكسيل إلى برلين، من أجل تكوين جبهة متحدة من شأنها أن تمارس ضغوطات موحدة على واشنطن.
في هذا المعنى، أورد دبلوماسي صيني في تصريح أدلى به لوكالة الأنباء ريوترز، أن “الصين ترغب في أن يتحد الاتحاد الأوروبي مع بكين ضد واشنطن”. وعلى الرغم من وجود مؤشرات تثير شكوكا حول فعالية هذه الأفكار، إلا أنها لا تمنع من المضي في تنفيذها. ومن جانبها، عبرت أوروبا عن جملة من التنديدات التي تتعلق بطريقة تعامل شريكها الآسيوي الضخم. كما لا يخفي الاتحاد الأوروبي شكوكه حول الطريقة التي تدير من خلالها الصين الوضع الراهن.
في بداية الأمر، لم تظهر بكين أية أدلة على الانفتاح التي من شأنها أن تعزز خطابها. ومنذ عقد منتدى دافوس خلال سنة 2016، رفع الرئيس شي جين بينغ راية التجارة الحرة والعولمة التي تم التعبير عنها كجزء من الهوية الوطنية. وفي ندوة عقدت في منغوليا الصينية حول طريق الحرير، ذهب مسؤولو الحزب الشيوعي إلى ما أبعد من ذلك. وفي تلك المناسبة، تمت أشاروا إلى أن “دورة العولمة الناجحة قد انتهت، ويجب إنقاذها”، واقترحوا “أن يتم في هذا الصدد منح هذه المسؤولية للقوة العالمية الكبرى في العالم”.
بالنسبة لبكين، يعد هذا الانجذاب نحو أوروبا عاملا أساسيا لجعل الولايات المتحدة الأمريكية تقف أمام طريق مسدودة عندما تفشل سياسة الاقتصاد المغلق
في هذا السياق، يعارض الأوروبيون فكرة أن يتولى هيكل استبدادي مهمة قيادة التجارة الحرة. وفي ظل هذا الوضع، تدين هذه الجهات القيود التي تحافظ عليها الصين فيما يتعلق بالاستثمارات الأجنبية. إلى جانب ذلك، تندد بروكسيل، جنيا إلى جنب الولايات المتحدة الأمريكية، بعمليات القرصنة الصينية التي تمثل عائقا أمام التقدم العلمي والتكنولوجي. وفي نفس الوقت لا تغض بروكسيل النظر عن سياسة “العصا الغليظة” الأمريكية.
بالنسبة لبكين، يعد هذا الانجذاب نحو أوروبا عاملا أساسيا لجعل الولايات المتحدة الأمريكية تقف أمام طريق مسدودة عندما تفشل سياسة الاقتصاد المغلق. كما تساعدها هذه الاستراتيجية على منع واشنطن من كسب المعركة وجذب الاتحاد الأوروبي عبر الاتفاقات الثنائية للخروج من الحرب. في الأثناء، يمكن تتضح هذه اللعبة المعقدة خلال الندوة السنوية بين الاتحاد الأوروبي وبكين المتوقع عقدها بتاريخ 16 و17 تموز/ يوليو الحالي في عاصمة العملاق الصيني.
بشكل عام، سيحدد ما سيتم الإعلان عنه خلال هذه القمة ملامح الجغرافيا السياسية للعالم. وفي هذا السياق، أكد نائب رئيس الوزراء، ليو هي، أنه سيتم الإعلان عن انفتاح على الاستثمارات الأوروبية، لم يسبق له مثيل. كما أكد أن هذه الاعلانات ستكون تاريخية. وخلال هذا الاجتماع، سيكون كلا من الرئيس شي ورئيس الوزراء كيكيانغ حاضرين. وتجدر الإشارة هنا إلى أنه خلال الاجتماعات التي سبقت هذا الحدث، وإلى حد الآن، لم يجهز المسؤولين الصينيين أية وثيقة مشتركة بينهما؛ وهي علامات تحيلنا على أننا في مواجهة لعهد جديد. تبعا لذلك، ستستسلم الصين خلال هذه المرة لتسمح لنفسها بالتغيّر.
في حقيقة الأمر، يملك العملاق الصيني معضلاته الخاصة به ومقارنات تاريخية مريرة في هذا السياق. وخلال الشهر الماضي، عانت العملة الصينية، اليوان، من أكبر انخفاض شهري لها منذ ربع قرن. نظرا لذلك، من شأن هذا الانهيار الذي وصل إلى حدود 3.3 بالمائة أن يعرقل الاستراتيجية التي تسعى الصين إلى تنفيذها. لكن عندما اتهم ترامب، بمعلوماته الخاطئة والنموذجية، الصين بإضعاف عملتها لتحقيق مكاسب بفضل التبادل التجاري؛ كانت عملة الصين في مرحلة الانتعاش، وهو جانب لا يجب السهو عنه لتقييم الحرب التجارية بين الصين والولايات المتحدة الأمريكية.
أشارت “فاينانشيال تايمز” الأمريكية إلى أن هذا الضعف طريق لتعزيز مخاطر “تسارع خروج رؤوس الأموال، والتضييق على السيولة والائتمان”
في واقع الأمر، يعد هذا الانهيار المفاجئ مؤشرا على سيناريو الحرب التجارية التي بدأت بين بكين وواشنطن، لأن الأسواق تستبعد أن يتم التوصل إلى حل تفاوضي على المدى القصير. في الوقت ذاته، تحذر بعض المؤشرات الأخرى بشكل مسبق من مشاكل مالية خطيرة. ومن بين هذه العلامات نذكر، الحاجة الملحة للسيطرة على الديون الصينية التي تنامت بشكل كبير خلال العقد الأخير وارتفعت من 150 بالمائة إلى ما يقارب 300 بالمائة من ناتجها المحلي الإجمالي.
في هذا السياق، أشارت “فاينانشيال تايمز” الأمريكية إلى أن هذا الضعف طريق لتعزيز مخاطر “تسارع خروج رؤوس الأموال، والتضييق على السيولة والائتمان”. من جانبه، حذر المعهد الوطني المالي والتنموي التابع للحكومة الصينية من حدوث خلل مالي في الصين. وفي الوقت الذي تم فيه محو هذه التغريدة بشكل سريع، أورد موقع بلومبيرغ أن مسؤولين في العملاق الآسيوي يؤكدون هذه المعطيات. وعلى عكس ما يعتقد ترامب، تؤكد هذه البيانات أنه لا توجد جهة رابحة في هذه الحرب، ويوجد فقط أضرار وأكاذيب وانتكاسات.
المصدر: كلارين الأرجنتينية