ترجمة وتحرير: نون بوست
يتوق الأولاد لرؤية والديهم مرة أخرى وهم مقتنعون بأن ذلك سيحدث بمجرد أن يتمكنوا من العودة إلى مدينة غزة حيث نشأوا قبل أن تدمر الحرب حياتهم.
“بابا وماما سينتظراننا هناك”، هذا ما يقوله محمد ومحمود وأحمد وعبد الله عقيلة لخالتهم سمر، التي تعتني بأربعتهم. هذا ما يقولونه على الرغم من إبلاغهم بوفاة كليهما منذ أشهر في الغارة الجوية التي ضربت المكان الذي كانت الأسرة تحتمي فيه.
باستثناء أحمد، ثاني أصغرهم سناً الذي يبلغ من العمر 13 سنة، لم ير أي منهم الجثث. يقضي الإخوة كل لحظة تمر في البكاء عاجزين تقريباً عن الكلام – كان عيد الأم صعباً وكذلك عطلة عيد الفطر – ومع ذلك ما زالوا يتمسكون بالأمل.
في كل مساء عندما تُؤدى صلاة المغرب، يقول عبد الله البالغ من العمر 9 سنوات إنه يستطيع سماع صوت والدته. وخالتهم سمر الجاجة (31 سنة) التي تشارك الأطفال خيمة في مدينة خان يونس في غزة، تشعر بالحيرة متسائلة “ما الذي يشعرون به عندما يرون الآباء الآخرين يحتضنون أطفالهم ويتحدثون إليهم؟”.
إن الحرب في غزة تحرم الأطفال من آبائهم وتحرم الآباء من أطفالهم وتقوّض النظام الطبيعي للأمور وتمزّق الوحدة الأساسية للحياة في غزة. تخلّف هذه الحرب العديد من الأيتام في ظل هذه الفوضى بحيث لا تستطيع أي وكالة أو مجموعة إغاثة أن تحصي أعدادهم.
ويقول العاملون في المجال الطبي إن الأطفال يُتركون ليتجوّلوا في ممرات المستشفيات ويعتمدون على أنفسهم بعد نقلهم إلى هناك وهم ملطخون بالدماء بمفردهم.
“طفل جريح وليس له عائلة على قيد الحياة”، هكذا تصفهم بعض المستشفيات. وتضم وحدات الأطفال حديثي الولادة أطفالاً لم يأت أحد ليُطالب بهم.
في خان يونس، نشأ مخيم يديره متطوّعون لإيواء أكثر من ألف طفل فقدوا أحد الوالدين أو كليهما، بما في ذلك عائلة عقيلة. وهناك قسم مخصص لـ “الناجين بمفردهم”، وهم الأطفال الذين فقدوا أسرهم بالكامل، باستثناء ربما أحد الأشقاء وهناك قائمة انتظار طويلة.
وفي خضم القصف وعمليات الإجلاء المستمرة من خيمة إلى خيمة ومن شقة إلى مستشفى إلى ملجأ، لا أحد يستطيع أن يحدد عدد الأطفال الذين فقدوا أثر والديهم، وكم عدد الأطفال الذين فقدوا أباءهم إلى الأبد.
باستخدام طريقة إحصائية مستمدة من تحليل حروب أخرى، يقدر خبراء الأمم المتحدة أن هناك ما لا يقل عن 19 ألف طفل يعيشون الآن بعيدًا عن والديهم، سواءً مع أقاربهم أو مع من يرعاهم أو بمفردهم.
لكن الرقم الحقيقي ربما يكون أعلى من ذلك. فحسب جوناثان كريكس، المتحدث باسم منظمة الأمم المتحدة للطفولة، فإن تلك الحروب الأخرى لم تنطوي على هذا القدر من القصف وهذا القدر من النزوح في مثل هذا المكان الصغير والمزدحم، مع وجود نسبة عالية من الأطفال بين السكان.
يقول الجيش الإسرائيلي إنه يتخذ الاحتياطات اللازمة للحد من الأذى الذي يلحق بالمدنيين في حملته المدمرة في غزة للقضاء على حماس بسبب هجوم الحركة على “إسرائيل” في 7 تشرين الأول/أكتوبر، الذي خلّف نحو 1200 قتيل ونحو 250 أسيراً.
ولا يزال هناك أكثر من 100 أسير في غزة، ويُعتقد أن 30 منهم على الأقل قد لقوا حتفهم. وتتهم “إسرائيل” حركة حماس بتعريض سكان غزة للخطر بتنفيذ أنشطتها وسطهم، بينما تدافع حماس عن استخدامها لملابس المدنيين ومنازلهم قائلةً إن عناصرها لا يملكون بديلاً عن ذلك.
قُتل عشرات الآلاف من الأشخاص: الكثير منهم من الأطفال والعديد من الآباء والأمهات. وفي نيسان/ أبريل، كانت 41 بالمائة من العائلات التي استطلعت وكالة كريكس آراءها في غزة ترعى أطفالاً ليسوا أطفالها.
قالت الدكتورة ديبورا هارينغتون، وهي طبيبة توليد بريطانية شاهدت طفلين وُلدا يتيمين أثناء تطوعها في غزة في كانون الأول/ديسمبر الماضي، إن بعض الأطفال ولدوا أيتامًا بعد وفاة أمهاتهم المصابات أثناء المخاض.
وفي كثير من الأحيان، يتم التفريق بين الأطفال والآباء عندما تعتقل القوات الإسرائيلية الآباء، أو بعد غارة جوية، ويهرع الأطفال إلى المستشفيات وحدهم وسط حالة من الارتباك.
يقول الأطباء إنهم عالجوا العديد من الأطفال الأيتام حديثي الولادة وكثير منهم كانوا مبتوري الأطراف. وحسب الدكتور عرفان جالاريا، وهو جراح تجميل من فيرجينيا تطوع في مستشفى في غزة في شباط/ فبراير: “لم يكن هناك أحد ليمسك بأيديهم، ولم يكن هناك أحد ليواسيهم” أثناء العمليات المؤلمة.
وفي الواقع، يحاول العاملون في مجال الإغاثة تعقّب الأهل أو الأقارب إذا كانوا على قيد الحياة، لكن الأنظمة الحكومية التي كان من الممكن أن تساعد في ذلك قد انهارت، والاتصالات متقطعة وأوامر الإخلاء فرقت العائلات، مما أدى إلى تشتيت شمل العائلات في كل الاتجاهات.
بعض الأطفال الصغار يعانون صدمة شديدة لدرجة أنهم يصابون بالخرس ولا يستطيعون ذكر أسمائهم، مما يجعل البحث عنهم شبه مستحيل، وذلك وفقًا لمنظمة قرى الأطفال “إس أو إس”، وهي منظمة إغاثية تدير دارًا للأيتام في غزة.
هناك أيضاً منة الله صلاح (11 سنة) التي تتحدث باستمرار عن والديها. لقد تيتمت في كانون الأول/ديسمبر، وهي تقلد طريقة ضحك والدتها وغمزاتها ومشيها. وترتدي حذاء والدتها الرياضي وقميصها المفضل، رغم كبر حجمهما. قالت: “كانت أمي كل شيء بالنسبة لي”، وانهمرت دموعها ولم تستطع الاستمرار.
كان من بين الأطفال الخدج الذين وصلوا إلى المستشفى الإماراتي في مدينة رفح الجنوبية في تشرين الثاني/نوفمبر طفلة تبلغ من العمر 3 أسابيع لم تكن عائلتها معروفة.
قالت أمل أبو ختلة، ممرضة الأطفال حديثي الولادة في المستشفى، إن ملفها يقول إنه تم العثور عليها بجوار مسجد في مدينة غزة بعد غارة جوية قتلت العشرات من الأشخاص. أطلق عليها الموظفون اسم “مجهولة”.
وقد انزعجت السيدة أبو ختلة من قسوة هذا الاسم، فقررت أن تطلق عليها اسمًا مناسبًا: ملاك. اتصلت بالصحافيين في شمال غزة لمعرفة أسماء العائلات التي فقدت أفرادًا في غارة بالقرب من المكان الذي عُثر فيه على ملاك، ثم سألت المرضى الذين يحملون تلك الألقاب عن طفلة مفقودة، ولكن لم يحالفها الحظ.
في شهر كانون الثاني/يناير الماضي، أخذت السيدة أبو ختلة الطفلة ملاك إلى منزلها. وكما هو الحال في المجتمعات الإسلامية الأخرى، فإن القواعد الدينية تجعل التبني القانوني مستحيلًا في غزة، على الرغم من أن الناس يمكنهم احتضان الأيتام وكفالتهم ماليًا.
وقد قامت عائلة السيدة أبو ختلة وأصدقاؤها وزملاؤها بدعمها وتبرعوا لها بالملابس وحليب الأطفال والحفاضات. وقالت إنها ما لم تعثر على أهل ملك، فإنها تخطط لتربيتها، على الرغم من العقبات القانونية: “أشعر أن ملاك هي ابنتي الحقيقية. أنا أحبها. حتى أن أصدقائي يقولون إنها تشبهني الآن”.
في معظم الحالات، كما يقول مسؤولو الإغاثة، تتدخل العائلات الممتدة المتماسكة في غزة لرعاية الأطفال. وهذا ما حدث مع الإخوة من عائلة عقيلة.
روت خالتهم سمر الجاجة قصتهم: “كانوا سبعة أفراد، الأب خياط، والأم ربة منزل، وأبناؤهم الأربعة وطفلتهم الرضيعة فاطمة”. وفي 23 تشرين الأول/أكتوبر، كانوا مختبئين في منزل أحد أقاربهم عندما دمرت غارة جوية مبنى مجاور، وذلك وفقًا للعائلة. قُتلت زهرة عقيلة البالغة من العمر 40 سنة إلى جانب رضيعتها فاطمة، واستخرج الأقارب جثتيهما بعد ست ساعات.
تتذكر الجاجة وهي تبكي على شقيقتها، لكن أحمد، وهو الطفل الوحيد الذي كان هناك لرؤية جثمان والدته في نعشها، بقي جاف العينين وصامتًا من هول الصدمة. يعاني شقيقه الأكبر محمد (21 سنة) يعاني من إعاقة في النمو منذ ولادته. كذبت عليه العائلة في البداية وأخبرته أن والدته كانت في عملية جراحية. أما محمود (19 سنة) الذي كان مصاباً بجروح بالغة في ساقه اليمنى، فقد أُرسل إلى مستشفى آخر قبل أن يخبروه.
كان عبد الله، وهو أصغرهم ويبلغ من العمر 9 سنوات، لا يزال يتلقى العلاج عندما دفنوها. قبل ساعات من الغارة، تذكّر أنها كانت تعدّ لهم العشاء وتقدّم لهم العصير ورقائق البطاطا المقلية وتعدهم ببضعة شواكل، وتذكّر سماعه صوت انفجار وكيف كانت تبعدهم عن النوافذ.
وكان الشيء التالي الذي وعى عليه أنه استيقظ في المستشفى، وعندما لم يتوقف عن السؤال عن والدته قال له الأقارب في النهاية: “ماما في الجنة الآن”. وبعد أيام قليلة أخرى، كان والدهم محمد كامل عقيلة (44 سنة)، والذي كان في العناية المركزة، قد توفي.
قال الجيش الإسرائيلي إن المبنى المجاور لملجأ عائلة عقيلة الذي قصفه كان “بنية تحتية” تابعة لحماس، دون أن يذكر تفاصيل.
سرعان ما تركت سمر الجاجة خطيبها في مدينة أخرى لتعيش مع الصبية، وقالت إنه حتى بعد زواجها ستحرص هي وعمّ الصبية على مساعدة أجدادهم في تربيتهم: “مستقبل هؤلاء الأطفال لا يساوي شيئًا بدون والديهم”. لكنهم سيحاولون: “كانت أمهم شخصًا طيبًا للغاية، والآن يتعين علينا رد كل الأشياء الجيدة التي فعلتها لنا”.
يوفر المخيم بعض الوجبات والنقود. ومع كفاح الجميع من أجل البقاء، قال كريكس إن العاملين الاجتماعيين التابعين للأمم المتحدة لاحظوا أن بعض الأسر في غزة تعطي الأولوية لأطفالها على الأقارب الأيتام، وأن الأيتام معرضون بشدة للاستغلال والعنف والإساءة.
وإذا ما تمكنوا من النجاة إلى حتى انتهاء الحرب، فإن المأوى والمياه النظيفة والرعاية الصحية النفسية والجسدية ستكون موضع شك، ناهيك عن فرص التعليم والعمل والزواج.
حتى بالنسبة للأطفال الذين لا يزال آباؤهم وأمهاتهم على قيد الحياة، ستكون غزة ما بعد الحرب مكاناً صعباً للنشأة، كما قال محمود كلخ، وهو عامل في المجال الخيري أسس مخيم الأيتام “فماذا عن هؤلاء الأطفال الذين ليس لديهم مصدر دخل أو معيل، بعد أن فقدوا آباءهم وأمهاتهم؟”.
المصدر: نيويويورك تايمز