نحن نندمج في عالم هواتفنا الذكية وأجهزتنا الإلكترونية المحمولة لدرجة أن ذلك العالم يستطيع أن يُخدرنا بشكل أو بآخر ويفصلنا عن العالم الحقيقي، لنكون نحن والأجيال التي تأتي بعدنا مُكيفة بشكل كامل على التعامل مع كميات ضخمة من المعلومات الرقمية، فتكون جاهزة لاستيعابها بشكل أسرع وجاهزة للتعامل معها بشكل أكثر كفاءة من الأجيال السابقة، إلا أنها خلال تلك العملية من التكيف السريع والتأقلم مع العصر الرقمي تبدأ تدريجيًا في خسارة شيء واحد، هذا الشيء هو ما لم تمنح إياها الآلة بعد وهي العواطف الإنسانية.
صار الكثير منا مدمنين على أجهزتهم الذكية بشكل نسبي يتراوح من شخص إلى آخر، بينما يكون كل شخص على دراية كاملة بأن ذلك الإدمان سيؤثر بشكل سلبي على قدرته في إقامة علاقات اجتماعية هادفة، أوعلاقات عاطفية حقيقية، وبمرور الوقت يمكن للإنسان دون وعي منه أن يتحول إلى آلة هو الآخر، ويفقد القدرة على التواصل مع مشاعره الموجودة في العالم الحقيقي لا الرقمي، ليتحول بالتبعية إلى آلة باردة غير قادرة على التواصل مع احتياجاتها العاطفية بالقدر نفسه الذي يتواصل به مع التكنولوجيا الاجتماعية في العالم الرقمي.
وجد كثير من خبراء التكنولوجيا أن ذلك يجب أن ينتهي، وأن توقعاتنا بشأن التكنولوجيا في المستقبل بخصوص تأثيرها على الاقتصاد والحروب والصحة يجب أيضًا أن تشمل تأثيرها على العواطف، وكما هو الحال بخصوص وجود أجهزة متقدمة جدًا مثل الروبوتات القادرة على إجراء عمليات جراحية أو السيارات بدون سائق أو الطائرات بدون طيار يجب أيضًا أن يكون هناك أجهزة وتكنولوجيا محددة قادرة على مساعدة البشر على التعرف على عواطفهم والتعبير عنها بشكل أفضل مما هو عليه الآن.
وجد خبراء التكنولوجيا أننا يمكننا خلق التعاطف من خلال التكنولوجيا أيضًا، وهو ما سيؤدي بالتبعية إلى ما يُعرف بـ “الذكاء العاطفي”، فبدلًا من السعي حول التواصل الرقمي الذي يُفقدنا التواصل الواقعي، وجد الخبراء أنه بإمكاننا أن نوظف التكنولوجيا في صالح ذلك النوع من التواصل لإعادة الروح للعلاقات الاجتماعية والعاطفية التي أفقدتها التكنولوجيا مميزاتها لسنوات طويلة.
أجهزة تساعدنا على التعبير عن عواطفنا
سيكون “قارئ الحالة” أو المزاج من أهم أجهزة التكنولوجيا العاطفية أو الانفعالية
نحن الآن نتمتع بقدر كبير من الأجهزة المتقدمة القادرة على استشعار الكثير من وظائفنا البيولوجية، ربما ترتدي أنت واحدًا منها الآن حول رسغك يستشعر النبض ودرجة الحرارة ومستوى التعرق وعدد الخطوات التي مشيتها اليوم، ولكن ماذا لو استخدمنا هذه المستشعرات لكي تستشعر عواطفنا وتساعدنا على أن يكون لنا قابلية للتعبير عن عواطفنا والتعرف عليها بشكل يسهل من التعامل مع الآخرين، فمثلًا لماذا لا نستغل التكنولوجيا لتقرأ لنا مزاجنا على سبيل المثال؟ فحينما نكون منهكين ومتعبين يكون هناك جهاز يقرأ ذلك ويُعرف الآخرين به دون الحاجة للشخص أن يتكلم.
للعواطف أهمية كبيرة في حياتنا، فهي أكثر الأشياء المؤثرة على ذكرياتنا، وعلى قراراتنا التي نتخذها بشكل يومي، وبما أننا الآن نمتلك أجهزة تساعدنا على معرفة الطريق في بلد غريب، أو لترجمة اللغات بشكل فوري، وأجهزة تتنبأ بميعاد وصولنا إلى المنزل لكي توفر لنا استهلاك الطاقة من الحرارة والكهرباء، سيكون لدينا أيضًا أجهزة تساعدنا على استشعار عواطفنا بشكل أفضل مما نحن عليه الآن.
تخيل مثلًا لو كان لديك جهاز يستشعر مزاجك السيىء في بداية اليوم في سيارتك، فيقترح عليك طريقًا مختلفًا وأقل ازدحامًا عن ذلك الطريق الذي قررت اتخاذه، فيجنبك الجهاز مزيدًا من المتاعب بمجرد استشعارك لمزاجك في ذلك اليوم، أو جهازًا يقترح عليك محطة راديو معينة لكي تستمع إليها، أو جهازًا يقرأ مزاجك السيىء ويعلن عنه لزملائك في العمل، فيتجنبون الوقوع في مشاكل معك لكي لا يزيد الأمر سوءًا، وبالتالي يكون البشر أكثر قدرة على التواصل مع بعضهم البعض عاطفيًا بشكل أذكى.
يمكن لتلك الأجهزة أيضًا أن تساعد من يعانون من الاكتئاب على إخطار من حولهم بحالتهم النفسية من خلال الأجهزة التي تستشعر مزاجهم وتعطي إشعارات لأحبائهم وأصدقائهم عن حالتهم، نحن هنا نتحدث عن قدرة برمجية للتكيف مع عواطف البشر، ويكون لها القدرة على كشف واستشعار تلك العواطف المختلفة، لكي يكون للأجهزة الذكية قدرات “ناعمة” كما يكون لها قدرات تفوق ذكاء البشر أضعافًا، فيمكن للجهاز المحمول أن يساعدك على إيجاد طريقك في بلد غريب، كما يمكنه أن يعرف إن كنت حزينًا أم غاضبًا ويساعدك ويساعد من حولك على تخطي ذلك.
هل يمكن للآلة التعرف على مشاعرنا من خلال نبرة صوتنا؟
تعتمد قاعدة البيانات على تعابير الوجه كمدخلات للآلة للتعرف على العواطف والمشاعر بشكل أكثر دقة
يمكن للآلة تحديد هوية الإنسان من نبرة صوته، ولكن هل يمكنها معرفة ما يشعر به من نبرة الصوت نفسه؟ هل يمكنها تحديد مشاعره وحالته النفسية والعقلية من طريقة حديثه؟، وهل يمكنها تحديد المشاعر الإنسانية إذا ما كان لديها معلومات كافية في قاعدة بياناتها عن تعابير الوجه والتغيرات في ضربات القلب في حالة الإحساس بمشاعر مختلفة، بينما تقرأ أنت هذا الكلام الآن يعمل كثير من المبرمجين والمهندسين على تدريب الأجهزة الإلكترونية المختلفة على التعرف على تعابير الوجه وكيفية تحليل كل تعبير على حدى.
قال “دانيال ماكداف” أحد مهندسي ما يعرف بالـ “البرمجة الانفعالية”، وهي إحدى أنواع البرمجة الخاصة بتدريب الآلة على التعرف على العواطف الإنسانية وتحليلها، في حديثه في محادثات “تيد” في برلين أنه يجب على الآلة أن تتعلم التعاطف، ولهذا يعمل هو وفريق ضخم من مهندسي البرمجة الانفعالية على جمع بيانات من آلاف المتطوعين لإجراء تجارب عليهم تسمح بالتعرف على تعابير وجوههم في حالة تعرضهم لموقف معين أو التعرف على عواطفهم تجاه بعضهم البعض لكي يكون لدى الآلة قاعدة بيانات حديثة مبنية على عواطف وتعابير وجه حقيقية.
ربما تساعدك التكنولوجيا العاطفية على تجنب العديد من المواقف المحرجة، أو تساعدك على أن تكون أكثر ذكاءً في مجال عملك، أو تساعدك على الحفاظ على علاقتك العاطفية مع زوجتك بشكل أكثر تفهمًا، هذا يعني أيضًا أن تلك التكنولوجيا ستغير من تفاعلنا مع الأجهزة الذكية، ومن طريقة اعتمادنا عليها و إدماننا عليها، ربما يظن مهندسو البرمجة التفاعلية أن ذلك سوف يحسن جودة العلاقات الاجتماعية، إلا أنه في الوقت نفسه سيدعم الفكرة التي خرجت من رحم وادي السيليكون في المقام الأول، وهي فكرة الفردية.
تخيل أن يكون هناك أجهزة إلكترونية مخصصة لقراءة عواطفك ومزاجك بشكل يومي أو لحظي، أجهزة قادرة على جعل مزاجك أفضل، وأجهزة تساعدك على إيجاد الشخص الملائم لك بناءً على حالتك العاطفية والعقلية والخصائص التي تلائم حالتك النفسية، لا يبدو ذلك بعيدًا عن الواقع كثيرًا، إذ لدينا الآن مواقع وتطبيقات شغلها الشاغل هو إيجاد أفضل الأشخاص الملائمة لك بناءً على المعلومات التي تمنحها بنفسك للخوارزميات مثل المعلومات الموجودة على حسابك الشخصي وصورتك الشخصية مثل تطبيق “tinder” أو “crown”، التطبيقات التي حولت الارتباط المقدس إلى مجرد لعبة رقمية.
ربما تساعدك التكنولوجيا العاطفية على تجنب العديد من المواقف المحرجة أو تجعلك أكثر انعزالًا وإدمانًا على الآلة
كان هدف تلك التطبيقات في الأساس هو تحسين جودة العلاقات العاطفية وزيادة فرص تعرف الأفراد على بعضهم البعض من أجل الزواج، إلا أنها كذلك حوّلت الحب إلى مجرد تكنولوجيا ولعبة رقمية، يقوم المستخدم فيها باللعب من أجل اختيار أفضل المستخدمين الملائمين لشخصيته من بين آلاف من الحسابات التي تزينها صور شخصية جذابة، وكأن كل مستخدم يسوّق لنفسه ليزيد من فرصه في القبول.
ربما يكون مبرمجو التكنولوجيا العاطفية على حق، وأنها ستسهم كثيرًا في مساعدة البشر على التعرف على عواطفهم بشكل جيد للتصرف واتخاذ القرارات بشكل أفضل وأكثر دراية، وبناء عليه تتحسن جودة العلاقات الاجتماعية، وربما يلعبون جزءًا إضافيًا في جعل البشر مدمنين أكثر على أجهزتهم الإلكترونية ومعتمدين عليها في كل شيء حتى في تحديد عواطفهم ومشاعرهم التي يشعرون بها أنفسهم، وربما لن يحتاجون لأي شخص يفهم مزاجهم ويحاول أن يعدل منه طالما هناك آلة قادرة على عمل ذلك بشكل كاف.