ترجمة وتحرير: نون بوست
في الوقت الراهن، يعاني العالم من شح على مستوى الماء الصالح للشراب، في الوقت الذي تتوفر فيه مياه البحر بكثرة. ومن أجل جعل مياه البحر صالحة للشرب، تم إنشاء 19 ألف محطة تحلية مياه في مختلف أنحاء العالم، إلا أنها تحتاج لكميات هائلة من الطاقة. في هذا الإطار، لسائل أن يسأل، ما الذي يجب علينا فعله؟
يغطي الماء أكثر من ثلثي سطح الأرض، في الوقت الذي يعتبر فيه الماء الصالح للشراب نادرا، وبالتالي بات أقرب إلى السلعة الثمينة. ولعل الأمر المثير للقلق هو أن أكثر من مليار شخص في العالم لا يحظون بإمكانية الوصول إلى مياه الشرب. ومن الواضح أن الوضع يزداد سوءا وذلك نظرا لجملة من الأسباب. فعلى سبيل المثال، فاق استهلاك المياه العذبة في بعض الدول الفقيرة في الخليج العربي معدل الاستهلاك في المناطق الثرية في أوروبا والولايات المتحدة. والجدير بالذكر أن معدل استهلاك المياه في دبي يبلغ 500 لترا في اليوم لتحتل بذلك المرتبة الأولى في استهلاك المياه. في المقابل، يُعد معدل استهلاك المياه في ألمانيا، الذي يقدر بنحو 130 لترا للشخص الواحد في اليوم، متواضعا نسبيا.
في الواقع، زاد التغاضي عن حسن استغلال الرطوبة الطبيعية في الجو الوضع سوءا. وكثيرا ما يتم تلويث المياه العذبة بشكل كبير عند استخدامها في الأنشطة الصناعية، مما يؤدي إلى تعطيل الدورة المائية الطبيعية ويجعل الموارد غير قابلة للاستخدام. ففي الغالب، تتطلب هذه المياه أن يقع معالجتها حتى تصبح صالحة للشرب. يعزى استفحال نقص مياه الشرب إلى سبب آخر مهم، ألا وهو التغير المناخي، الذي يقترن بمضاعفات كارثية على غرار قلة الأمطار وانتشار التصحر. في الوقت الراهن، تعاني جنوب أفريقيا من الجفاف، حيث انخفضت كمية المياه الصالحة للشراب هناك بشكل ملحوظ. ونتيجة لذلك، يتم تزويد جزء من سكان كيب تاون بالمياه عن طريق الصهاريج.
تقع أكبر محطة لتحلية مياه البحر في دبي. وينتج مجمع المنتزه بقرية جبل علي يوميا قرابة 2.1 مليون متر مكعب من مياه الشرب
تحويل المياه المالحة إلى مياه عذبة
من المنتظر أن يرتفع حجم استهلاك المياه في العالم. ومن جهته، يتوقع معهد الموارد العالمية بواشنطن أن تتسع رقعة مشكل شح المياه في غضون العقود القادمة. في الأثناء، يمكن لسياسة الاقتصاد في استهلاك المياه وخاصة في الدول الزراعية أن تساهم في احتواء أزمة المياه. كما يمكن أن تحل عملية تحلية مياه البحر هذا المشكل لاسيما وأن العالم يحتوي على كميات لا تنضب من مياه البحر. وتجدر الإشارة إلى أن 98 بالمائة من احتياطات المياه الموجودة في العالم تشمل بالأساس مياه البحر المالحة. في الوقت الراهن، يحتضن العالم حوالي 19 ألف محطة تحلية مياه بحر، معظمها صغيرة الحجم، بالإضافة إلى حوالي 500 محطة كبيرة تنتج أكثر من 50 ألف متر مكعب، مع العلم أنها تتطلب كميات كبيرة من الطاقة.
أغشية التناضح العكسي ملفوفة ومعبأة في أنابيب: أكبر محطة في العالم في “إسرائيل” – تصفية المياه من الملح
تقع أكبر محطة لتحلية مياه البحر في دبي. وينتج مجمع المنتزه بقرية جبل علي يوميا قرابة 2.1 مليون متر مكعب من مياه الشرب. أما الطاقة اللازمة للقيام بهذه العملية، فتؤمنها 12 محطة طاقة تعمل بالغاز تنتج 7200 ميغاواط من الكهرباء. عموما، تستخرج دول الخليج يوميا قرابة 20 مليون متر مكعب من مياه الشرب من البحر، في الوقت الذي أصبحت فيه محطات تحلية مياه البحر تكتسي أهمية بالغة في دول أخرى. فعلى سبيل المثال، تنتج “إسرائيل” اليوم 75 بالمائة من مياه الحنفية من البحر. وفي غضون السنوات القادمة، من المنتظر أن يصبح البحر مصدر مياه الحنفية في إسرائيل بنسبة 100 بالمائة.
يعتبر استخراج مياه الشرب من البحر من الأفكار التي كانت تراود الإنسان منذ قرون، حيث قدم الفيلسوف والعالم اليوناني أرسطو في عمله “ميتيرولوجي” حلا لكيفية استخراج مياه الشرب للبحر، وذلك عبر وضع غشاء وضع عليه صمغ أو جلد حيواني على فتحة وعاء طيني، ومن ثم جعل الوعاء يستقر في مياه البحر. في الأثناء، تندفع جزيئات المياه بمفعول الضغط، فيما يبقى الملح خارجا. وبعد ساعات، يمتلئ الإناء بالماء العذب.
تقنية جديدة تخفض من استهلاك الطاقة
لا تزال بعض الطرق التقليدية في تحلية مياه البحر متبعة حتى يومنا هذا. فمنذ قديم الأزل، اعتمد البحارة على عملية تبخير مياه البحر وبعد ذلك تكثيف بخار الماء للحصول على المياه الصالحة للشرب ليرووا ظمأهم. ومن المعروف أن هذه العملية عادة ما تقوم بها الطبيعة من تلقاء نفسها للحفاظ على دورة حياة المياه في العالم. في البداية، تم استخدام محطات تحلية ترتكز على عملية التقطير، ثم تطورت في ستينات القرن الماضي إلى محطات تقوم على التبخير الوميضي متعدد المراحل، ما أدى في النهاية إلى زيادة الإنتاج وانخفاض استهلاك الطاقة.
تستهلك عملية تحلية مياه البحر الحرارية كميات كبيرة من الطاقة
يتكثف بخار الماء العذب، الذي ينتج عادة عن طريق تسخين ماء البحر في مبادل حراري، على أسطح أنبوب المبادل الحراري. ثم تنتقل المياه المالحة إلى غرفة أخرى. وفي وقت لاحق، ينخفض الضغط والحرارة من جهاز إلى آخر بشكل تدريجي مما يسمح في كل مرة بتبخر جزء من الماء. وفي أغلب الأحيان، يتم توصيل عشرين غرفة ضمن عملية تبخير متسلسلة. والجدير بالذكر أن هذه العملية تتم وفقا لقوانين الديناميكا الحرارية، التي تؤكد بأن عملية احتساب الفارق بين الضغط والحرارة لا تكون ناجعة عند احتسابها دفعة واحدة، بل تكون فعالة أكثر عند احتسابها بصفة متتالية.
تستهلك عملية تحلية مياه البحر الحرارية كميات كبيرة من الطاقة، حيث تحتاج هذه المحطات المنتشرة على نطاق واسع إلى حوالي 40 كيلوواط/الساعة من الكهرباء و90 كيلوواط من الطاقة الحرارية من أجل إنتاج متر مكعب واحد من المياه العذبة. على ضوء هذه المعطيات، يتبين أن قرابة نصف تكاليف الإنتاج تتأتى من توليد الطاقة، وبالتالي لا يمكن القيام بعملية اقتصادية جزئية إلا عند التحكم في الحرارة المهدورة من محطة توليد طاقة.
ما تبقى من ملح البحر. يضاف الجير إلى المياه المحلاة بعد ذلك، نظرا لأنها فقدت كل المعادن الموجودة خلال عملية التحلية
لا يبرز هذا الخلل في أغلب المحطات القائمة حاليا حول العالم، حيث أن 80 بالمائة من محطات تحلية مياه البحر تعمل وفق مبدأ “التناضح العكسي”، حيث تقوم المضخات، التي تعمل بالكهرباء، بدفع المياه المالحة داخل سلسلة من الغرف المتصلة خلف بعضها البعض. وفي كل غرفة، تمر المياه عبر غشاء شبه نافذ يعمل على تقسيم المياه إلى “عذب” “ومالح”، مستفيدا من فرق الحجم بين جزيئات الملح الكبيرة، وجزيئات الماء الصغيرة، حيث تنزلق جزيئات الماء صغيرة الحجم عبر هذا الغشاء.
تتم هذه العملية على نحو سلس وجيد للغاية، إذ أن الأغشية الموجودة حاليا مصنعة من البوليمر المطفي والألياف المجوفة، وتتحمل الضغط حتى 80 بار، وتطهر مياه البحر من الملح بنسبة 99.7 بالمائة. وبذلك، تنتج هذه الأغشية مياه صالحة للشرب دون الحاجة إلى عملية معالجة باهظة التكلفة، حيث يحتاج إنتاج متر مكعب واحد من المياه العذبة إلى أربعة كيلوواط / ساعة من الكهرباء. وانطلاقا من احتساب نسبة ملوحة مياه البحر، سيتكلف إنتاج متر مكعب واحد من مياه الشرب مشتملا على النفقات الرأسمالية ونفقات التشغيل قرابة 60 إلى 90 سنت.
من المرجو أن تتمكن الأغشية المصنوعة من الغرافين من تنقية مياه البحر من جزيئات الملح تماما، وتقلل من استهلاك الطاقة بصورة ملحوظة. ويتميز الغرافين بأنه غشاء رقيق للغاية، ويتألف من طبقة واحدة من الكربون، كما أن لديه القدرة على تحمل معدلات الضغط العالي أثناء عملية التناضح العكسي. نتيجة لذلك، تسمح أغشية الغرافين بمعدلات تدفق عالية. وأثبتت التجارب الأولية في مختبر “أوك ريدج الوطني” في تينيسي أن المادة الأساسية للغرافين صالحة للاستخدام. والجدير بالذكر أنه حتى نقوم بإنتاج طبقات أكبر من الغرافين تحتوي على فتحات بحجم المسام، ويتم تداولها تجاريا، سنحتاج إلى سنوات أخرى.
ينتج عن إلقاء كميات الملح المركز مرة أخرى إلى البحار، وكذلك المواد الكيميائية المستخدمة في عملية تنقية المياه، والمعادن المتآكلة الكثير من الضرر على مستوى الأنظمة البيئية القريبة من البحر
هل يمكن تحلية مياه البحر بطريقة أخرى؟
مع كل تقدم يتحقق في مجال تحلية مياه البحر، تبرز تقنيات ضخمة. ولا تزال هذه التقنيات تواجه العديد من الانتقادات، وخاصة فيما يتعلق بالطاقة التي تحتاجها تلك التقنيات، وما ينتج عنها من غاز ثاني أكسيد الكربون. فضلا عن ذلك، تلعب المحطات التي تعتمد على الطاقة المتجددة دورا غير فعالٍ في تحلية المياه، ناهيك عن أن محطات تحلية مياه البحر تسحب الكائنات البحرية مع المياه المالحة، لينتهي بها المطاف إلى الموت أثناء مراحل تحلية المياه.
علاوة على ذلك، ينتج عن إلقاء كميات الملح المركز مرة أخرى إلى البحار، وكذلك المواد الكيميائية المستخدمة في عملية تنقية المياه، والمعادن المتآكلة الكثير من الضرر على مستوى الأنظمة البيئية القريبة من البحر. ولا يمكن التقليل من حجم هذه المشكلات في نطاق الخليج العربي على وجه الخصوص، مع العلم أنها موجودة بنسبة أقل في المحيط الهندي. عموما، كلما ازدادت نسبة الملوحة في مياه البحر، كلما انخفضت التكاليف الاقتصادية لتحليتها. ففي حال بلوغ نسبة ملوحة المياه 6.7 بالمائة، تكون طريقة التحلية من خلال تقنية الأغشية المصنوعة من الغرافين مناسبة للغاية للحصول على ماء صالح للشراب.
لكن السؤال الذي لا يزال قائما: هل يمكن أن تنفذ عملية تحلية مياه البحر بطريقة أخرى، مع استهلاك أقل للطاقة، ومن غير أضرار تذكر على البيئة؟ في الواقع، بادر كلاوس ميرتس، من الشركة الألمانية لتحلية مياه البحر، وهي عبارة عن شركة استشارية في مدينة دويسبورغ، تهتم بتقنيات تحلية مياه البحر حول العالم، بالإجابة عن هذا السؤال. وـورد ميرتس: “أجل”، مشيرا إلى تقنية جديدة تسمى “إزالة التأين السعوي”.
أثبتت أول المحطات التجريبية، التي ستعتمد “إزالة التأين السعوي”، أن عملية التحلية تستهلك طاقة منخفضة، حيث يتطلب تحلية متر مكعب واحد من مياه البحر واحد كيلوواط / ساعة
تعتبر هذه العملية نقلة نوعية في تحلية المياه، وتشبه في طبيعة عملها طريقة المكنسة الكهربائية، التي توضع في وسط المياه المراد تحليتها. في الأثناء، يتم امتزاز الأيونات على أسطح أقطاب مشحونة كهربائيا، وغالبا ما تتكون تلك الأقطاب من مواد كربونية ذات مسام عالية أو رقائق معدنية معالجة بالبلازما، ويطبق عليها فرق الجهد الكهربي. فبعد شحن الأقطاب بالكهرباء وزيادة الجهد الكهربي لأكثر من واحد فولت، تتطاير أيونات الملح، وتذهب الأيونات الموجبة للقطب السالب، والأيونات السالبة للقطب الموجب، لتكوّن هذه الأيونات طبقة كهربائية مزدوجة على طول سطح المسام. في الخطوة التالية، يتم تفريغ الأقطاب من الشحن، إما من خلال دارة مقصورة للجهد المطبق على الأقطاب، أو من خلال عكس شحن القطبين. وبالتالي، تنطلق أيونات الملح في تيار محلول ملحي.
لقد أصبحت ثمينة، حيث تتحول مياه الشرب إلى سلعة نادرة
تستطيع العديد من المناطق حول العالم الاستفادة من هذه التقنية، فعلى سبيل المثال، هناك اهتمام كبير بها في إسرائيل، وكذلك في ألمانيا، حيث تلعب معالجة المياه دورا متناميا داخل البلاد. وتجدر الإشارة إلى أن المزارعين يعملون حاليا على تخصيب الأراضي بصورة مكثفة، بهدف زيادة عائداتهم. نتيجة لذلك، ارتفع معدل تسرب النترات إلى المياه الجوفية.
لقد أثبتت أول المحطات التجريبية، التي ستعتمد “إزالة التأين السعوي”، أن عملية التحلية تستهلك طاقة منخفضة، حيث يتطلب تحلية متر مكعب واحد من مياه البحر واحد كيلوواط / ساعة، بينما تحتاج عملية تنقية المياه المسوّس طاقة أقل من ذلك. وحيال هذا الشأن، أفاد ميرتس أن “هذه العملية عبارة عن مغناطيس يسحب الأيونات من الماء، كما أنها ستمكننا من استغلال المواد الغنية الأخرى الموجودة في المياه المالحة، على غرار الماغنسيوم والنحاس والألمونيوم. وستنحصر مخلفات هذه العملية، في هذه الحالة، على حصولنا على المياه المحلاة”.
المصدر: فرانكفورتر ألغماينه تسايتونغ