في عام 1992، قام رئيس المخابرات التركي الحالي “هاكان فيدان” بتأسيس لمنظمة إغاثة تركية، عرفت باسم “تيكا” ، قبل أن يبدأ عمله في السلك الدبلوماسي والعلاقات الدولية، حيث كان الهدف منها هو تعزيز الدور الدبلوماسي التركي في منطقة الشرق الأوسط وفي إفريقيا وبعض البلاد الآسيوية تحت إطار ما تعرفه السياسة التركية بـ “الدبلوماسية العامة”، كجزء مهم من السياسة الخارجية التركية التي تحقق أهدافًا سياسة وتجارية وأمنية على المدى البعيد.
بدأت منظمة “تيكا” عملها الفعلي بعد أن أصبحت جزءًا من وزارة الخارجية التركية التي أقرت بعملها في بلاد البلقان مثل البوسنة والهرسك أو مونتينجرو وكوسوفو، وبلاد الشرق الأوسط وكثير من البلاد الإفريقية والآسيوية التي تحتاج حملات للإغاثة الإنسانية وتقديم المساعدات، وكجزء من تطوير السياسة التركية الخارجية كانت منظمة “تيكا” إحدى الأذرع القوية لرئاسة وزراء الجمهورية التركية التي بدأت بتكوين تواجد ملحوظ على الساحة الخارجية منذ عام 2002.
استطاعت منظمة “تيكا” منذ ذلك التاريخ وحتى وقتنا الحالي أن تعرف بالثقافة واللغة التركية في بلدان قد يصعب تحديد موقعها على الخريطة من خلال العمل الإنساني والإغاثي، كما كان لها وجودًا إقليميًا ملحوظًا ومكاتب موزعة في أماكن مختلفة في العالم، فترى لهم وجودًا وفروعًا في كولومبيا في أمريكا اللاتينية، وفي أفغانستان وباكستان وما يجوارهما من البلاد التي كانت يومًا ما ضمن الاتحاد السوفيتي مثل كازاخستان وتركمانستان، وتجدهم في العراق ومصر وليبيا والجزائر، كما أنهم متواجدون أيضًا في السودان والتشاد وتنزانيا وغرب ووسط إفريقيا.
خريطة توضح أماكن تواجد منظمة “تيكا” حول العالم
وصلت قيمة المشاريع الإغاثية التي قامت بها المنظمة التركية في عام 2012 إلى حوالي 3.5 مليارات دولار، قدمت فيها مساعدات بنسبة 46٪ للشرق الأوسط، و30٪ للبلاد الإفريقية و10٪ لبلدان آسيوية وذلك من خلال مشاريع ضمن خطط التنمية والتعاون المتفق عليها مع تلك البلاد والجمهورية التركية استطاعت منظمة “تيكا” من خلالها بناء مئات المدارس والمستشفيات ومراكز تعليم اللغة التركية ومراكز طبية في أكثر من 54 دولة حول العالم.
لم تكن منظمة “تيكا” المنظمة الأولى والأخيرة في سبيل مشروع التمدد التركي الاستراتيجي، استطاع الأتراك بعد ذلك تأسيس العديد من المنظمات الإغاثية والإنسانية والثقافية والتعليمية على مختلف الأصعدة والمجالات في كثير من البلاد حول العالم من بينها منظمة “IHH” الإغاثية، ومراكز “يونس إيمره الثقافية” ومؤسسات المنح التركية “YTB”، الهلال الأحمر التركي، و”رئاسة أتراك المهجر” التي استطاعت بشكل ناجح تحقيق عمق إقليمي واستراتيجي لتركيا في كثير من البلاد التي لم تعتاد الثقافة واللغة التركية ولم تسمع بها من قبل.
استطاعت تلك المنظمات تقديم المساعدات لكثير من الطلاب الأفارقة ليصبح هناك طالب من زيمبابوي يتحدث اللغة التركية وعلى دراية بالثقافة التركية، ويكون هناك آخر من العراق على دراية بالشيء نفسه وآخر من الهند وآخر من كولومبيا، ذلك في الوقت نفسه الذي عزمت الحكومة التركية على زيادة عدد السفارات والبعثات الدبلوماسية والمكاتب التجارية في القارة الإفريقية تحديدًا وكثير من البلاد الآسيوية واللاتينية لتترجم منظمة “تيكا” العلاقات الدبلوماسية الناعمة على أرض الواقع.
مستشفى الصداقة التركية الفلسطينية في غزة
تركيا أكثر الدول المانحة في العالم
نالت تركيا المرتبة الثانية عالميًا من بين أكثر الدول المانحة في العالم بعد أن نالت المرتبة الأولى عام 2015 متفوقة بذلك على كل البلاد العربية والأوروبية في مجال الإغاثة الإنسانية ومشاريع التنمية في الدول النامية، حيث قامت منظمة “تيكا” الإغاثية في العام نفسه بإنفاق أكثر من 5 مليار دولار أمريكي بالتعاون مع المنظمات الحقوقية وغير الربحية التركية وأكثر من 70 جهة حكومية تركية من أجل مشروعات إغاثية ومدنية في 150 دولة حول العالم.
قامت تركيا بإنفاق أكثر من 6 مليار دولار على الأعمال الإغاثية في عام 2016 متفوقة بذلك على الولايات المتحدة الأمريكية
تعتبر تركيا كل من شاركها التاريخ والثقافة واللغة جزءًا من الجمهوريات التركية، ويطلقون عليهم في اللغة “الأقارب” ويدخل ضمن هؤلاء كل دولة وصل إليها حكم الدولة العثمانية، وكل دولة اعترفت بها تركيا بعد تفكك الاتحاد السوفيتي، مثل كازاخستان وأوزبكستان وطاجكستان، حيث كانت تركيا أول من اعترف باستقلال تلك الدول لاشتراكها مع تركيا في اللغة والثقافة، كما سعت تركيا للاعتراف بالجمهوريات الشابة كجزء من الجمهوريات التركية المتعددة.
لماذا تزعج تيكا “إسرائيل” كثيرًا؟
يبدو أن توسع تركيا الإقليمي من خلال الدبلوماسية الناعمة التي تقوم وكالة التعاون التركية “تيكا” بترجمتها ذلك على أرض الواقع لم يعجب الكثير من الحكومات، وبالأخص حكومة دولة الاحتلال، التي وجدت في عمل منظمة “تيكا” التركية محاولة واضحة لإحياء الإرث العثماني وارتباطه التاريخي بفلسطين، وخصوصًا بعد تنظيم عديد من المنظمات الإنسانية والإغاثية التركية رحلات منظمة لنقل الأتراك من تركيا إلى القدس من أجل السياحة والدعم المعنوي بعد قرار نقل السفارة الأمريكية إلى القدس.
ساعد الأتراك في رفع مستوى الاهتمام المحلي والدولي بمدينة القدس بعد قرار نقل السفارة الأمريكية، وهو ما رآه الجانب “الإسرائيلي؛ محاولة تآمر واضحة من خلال قوى تركيا الناعمة من خلال المنظمات الإغاثية وعلى رأسها “تيكا” مما أدى إلى حظر دولة الاحتلال عمل كثير من المنظمات الإغاثية التركية هناك مثل “منظمة الإغاثة التركية” و جمعية “ميراثنا” على سبيل المثال، إذ اعتبرت نشاطات وفعاليات تلك الأنظمة هدفها الأساسي التحريض ضد “دولة إسرائيل”، واتهامهم بتمويل حماس.
زعمت الحكومة “الإسرائيلية” تلقيها معلومات استخبارية مفادها أن وكالة “تيكا” الإغاثية تعقد اجتماعات مع أعضاء الحركة الإسلامية في الداخل، من أجل دعم حركة حماس ماليًا، ولهذا قرر الجانب “الإسرائيلي” إلزام المنظمات الإغاثية التركية بكثير من الإلزامات الجديدة قبل القيام بأي عمل مدني على الأراضي المحتلة، حيث سيتطلب لأي عمل مدني سواء كان بناء مستشفى أو مدرسة أو مركز ثقافي على أرض فلسطين الإذن من الحكومة “الإسرائيلية” للحصول على الموافقة للقيام بكل أنشطتها بعد بحث مطول حول الطلب والتأكد من قانونيته وسلامة الغرض منه ليكون جاهزًا للتطبيق.
المواطنة تركية “إيبرو أوزكان” التي اعتقلها الاحتلال الإسرائيلي أثناء عودتها إلى إسطنبول من تل أبيب المحتلة
“تل أبيب تتخذ خطوات ضد مواطنينا الذاهبين إلى القدس، وسنقوم بالرد على ذلك” – وزير الخارجية التركي، مولود تشاووش أوغلو
يُذكر أن الاحتلال الإسرائيلي عزم على شن حملات واسعة من المضايقات لكل الزوار الأتراك لمدينة القدس بعد زيادة عددها مؤخرًا وتنظيمها بشكل مستمر منذ إعلان نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، حيث تعرض الكثير من الأتراك للاعتقال والتحقيقات لساعات وأيام طويلة بعد اتهام الجانب “الإسرائيلي” لهم بالتحريض ضد “إسرائيل” والتواصل مع أعضاء الحركات الإسلامية وتمويل “منظمات إرهابية” مثل حركة حماس، كان آخرهم الشابة التركية “إيبرو أوزكان” التي ذهبت في زيارة إلى القدس واعتقلت أثناء عودتها من تل أبيب إلى إسطنبول.
يريد الكيان الصهيوني عرقلة أي مشروع يحمل خلفية إسلامية وتاريخية لمساعدة أهالي القدس بشكل عام والأراضي الفلسطينية بشكل خاص، ولا يريد تمرير الأنشطة الإغاثية بهذه السهولة إن لم تكن الجهة المانحة على وفاق تام مع دولة الاحتلال، حيث تعمل الأخيرة على تهويد القدس بشكل كامل، واستمرار الأتراك في الحفاظ على الإرث الثقافي والتاريخي لكل مسلم في القدس يعيق مشروع التهويد الصهيوني للمدينة.
يعتبر الدور الذي تلعبه تركيا من خلال منظمات الإغاثة تلك شديد الإزعاج لدول مثل السعودية والأردن بالنسبة لدورهم في القضية الفلسطينية، إذ تجني تركيا دعمًا ملحوظًا من أهالي القدس وغزة تحديدًا نتيجة جهودها الإنسانية والإغاثية المستمرة، وهو ما لم يجعل الكيان الصهيوني وحده منزعجًا من ذلك، بل زاد عليه دول عربية لا ترغب في تنافس تركيا على الدور الإقليمي والاستراتيجي المهم على الأراضي الفلسطينية.