يثير علم الآثار أو “الأركيولوجيا” فضول العديد من المهتمين بتاريخ البشرية القديمة، فهذا المجال الذي يسد الفجوات التاريخية ويقوي حبكة حكاياتها يجمع لنا مخلفات الماضي ليعرفنا على الأزمنة والشعوب التي كانت من قبلنا واختفت لأسباب وتفسيرات مختلفة.
وبعيدًا عن الصورة التقليدية لهذا العلم التي عادة ما تعرض رجل يجثو على ركبتيه في موقع الحفريات ماسكًا أحجارًا وأشكالًا رمزية، سنحاول في هذا التقرير عرض التقنيات التي يستخدمها العلماء لتحديد المناطق ذات الأهمية التاريخية، وكيف يتعرفون على صفات مجتمعاتها عبر مجموعة من الافتراضات النظرية والأدلة المادية، بهدف تشكيل صورة متكاملة عن هوية ذاك العصر وشعبه سواء من الناحية الاجتماعية أم الاقتصادية أم السياسية.
ومن أجل تحقيق هذه الغاية العلمية، يدرس العلماء طبيعة المباني والنقوش والرموز والكتابات والقطع الفنية والفخارية والهياكل العظمية – الحيوانية والبشرية – والمقابر، فلكل أداة ورمز وأثر مدلول تاريخي يعكس لنا طبيعة الحياة البشرية في ذاك الوقت ومراحل تطورها تدريجيًا، مع الاستعانة بعلوم أخرى مثل علم النبات والأرض.
كيف يحدد العلماء المواقع الأثرية؟
قبل العمل الميداني يتم البحث عن وثائق تاريخية مكتوبة مثل الخرائط والصور والصحف والمذكرات والرسائل التي تعزز من تاريخ موقع ما، وفي حال انجذاب العلماء لهذه المرحلة من الزمن، يبدأون في البحث عن تاريخها “الشفوي”، ويُقصد بذلك جمع المعلومات والقصص التي قيلت عنها وعن عاداتها وتقاليدها للبدء في الرحلة الميدانية.
في جانب آخر يُستخدم التصوير الجوي لتحديد الموقع الأثري، فعلى سبيل المثال يمكن ملاحظة هذه الأماكن بسهولة في المناطق الزراعية، إذ لا تنمو المحاصيل الزراعية بالطريقة نفسها على الأراضي الخالية من الآثار، وعند تحديد البقعة تستخدم تقنية المسح “الجيوفيزيائي” لكشف البنية التحتية للمنطقة وتوضيح خصائصها عبر رسم خريطة دقيقة لجميع الأجسام المطمورة تحت السطح مثل المقابر ومستودعات الجثث ومواقع الحطام.
لم تعد عمليات الاستكشاف والتنقيب تقتصر على الحفر بالأيدي والأدوات اليدوية، رغم اعتبارها واحدة من أهم الوسائل إلى اليوم في إيجاد الآثار لكن مشاكلها كثيرة
وفي أحيان أخرى كانت تكتشف الآثار المدفونة صدفة، ولكن مع تطور التقنيات المستخدمة في عملية البحث عن الآثار في أواخر الخمسينيات، لم تعد هذه الفرص شائعة الحدوث، ولم تعد عمليات الاستكشاف والتنقيب تقتصر على الحفر بالأيدي والأدوات اليدوية، رغم اعتبارها واحدة من أهم الوسائل إلى اليوم في إيجاد الآثار لكن مشاكلها كثيرة، فهي لا تكفي لمسح مواقع شاسعة عدا عن كونها بطيئة، كما أنها غالبًا تُعرِض بعض الآثار التي يمكن الاعتماد عليها في الدراسة إلى التدمير.
كيف يحدد العلماء تاريخ الآثار التي يجدونها؟
هناك طرق عدة، إحداها تجري عبر تحليل العظام التي يعثرون عليها في موقع الحفريات ومن ثم قياس ما تحتويه من فلور، إذ لاحظ العلماء أن هذا العنصر الكيميائي يتحد مع العظام بعد دفنها في التربة إذا تعرضت للمياه الجوفية؛ ما يجعل هذه المادة أشبه بآلة الزمن التي يعرف من خلالها كم من الوقت مضى على وجودها تحت التراب.
كما يرتكز العلماء على طريقة أخرى تعتمد على استخدام الكربون المشع، فقد جرت العادة أن تمتص الكائنات الحية نوعين من ذرات الكربون (الكربون 12 والكربون 14)، إذ تسمى ذرات الكربون 14 بالكربون المشع ذات ذرات غير مستقرة تتحول إلى نيتروجين؛ ما يسمح للعلماء بمعرفة عمر الحفريات عند قياس كميات الكربون 12 والكربون 14 المتبقية فيه إلى حد 55000 سنة خلت، أو الطريقة الأكثر شيوعًا في حالة النباتات وهي قياس عدد الحلقات في جذع الشجرة.
أسرار الحضارات القديمة داخل المقابر
تشكل المقابر والمدافن وما تخفيه من حطام من أهم الآثار التاريخية التي يمكن من خلالها تحديد سلوك الناس الذين شغلوا الموقع الأثري، إذ تمكن العلماء من التعرف على صفات وعادات ومهن ومعتقدات المجتمعات القديمة من خلال دراسة الرفات البشرية وتحليل الهياكل العظمية، وعلى أساسها تم تحديد هويتها الاجتماعية والدينية، كما اعتنوا بدراسة كل علامة تركت على فتات العظام وكل قطعة وجدت بجانبها، فضلًا عن اهتمامهم بتفسير طرق وطقوس الدفن في تلك الحقب.
على سبيل المثال، اُكتشفت مقبرة “توتون” الجماعية عام 1996 وهي تضم أكثر من 28 ألف جثة ماتت بطريقة متشابهة، حيث لاحظ الخبراء وجود شقوق وثقوب وجروح عميقة في مناطق الوجه دليلًا على أنهم ماتوا في حادثة واحدة وكانوا ضحية لمواجهات عنيفة للغاية، ليستنتج العلماء فيما بعد أنها تعود إلى واحدة من أكبر المعارك الأهلية وأكثرها دموية على الإطلاق في تاريخ بريطانيا وحدثت عام 1461.
شعب هذه الحضارة لم يتركوا خلفهم أي رموز أو تعبيرات فنية ما يعني أنهم عاشوا وسط دولة ديكتاتورية غابت فيها حرية التعبير؛ ما يعزز من فرضية بطش العائلة الحاكمة في ذاك الزمن
أما حضارة الأرغر الأوروبية في إسبانيا، وجدت لديها مقابر جماعية لجماعة متشابهة الصفات ليستنتج العلماء أنهم ماتوا أيضًا نتيجة حدوث حرب أهلية بسبب بطش العائلة الحاكمة التي تحكمت بالموارد والخيرات، توصل العلماء إلى هذه الافتراضيات من خلال تحليلين، الأول يدعمه عدم وجود صفات بشرية غريبة عن المجتمع التي عاش في تلك المنطقة لعقود طويلة، أي أن الطول والملامح الجسدية كانت متقاربة ولم توجد أجسام غريبة ما يعني أنه لم يوجد عدو من بيئة أخرى، أما التحليل الثاني فبُني على أساس تحليل أسنان الجثث التي عثر عليها، إذ وجد العلماء أنها عانت من سوء التغذية ما يعني أنها كانت تعيش في حالة من الفقر والجوع.
بعض الأواني التي تعود إلى حضارة الأرغر
لا سيما أن شعب هذه الحضارة لم يتركوا خلفهم أي رموز أو تعبيرات فنية ما يعني أنهم عاشوا وسط دولة ديكتاتورية غابت فيها حرية التعبير؛ ما يعزز من فرضية بطش العائلة الحاكمة في ذاك الزمن.
ومثال آخر، المدافن التي وجدت في قرية “تشاتل هويك” بمدينة قونية في تركيا التي لاحظ العلماء خلال عمليات التنقيب أن الحضارة التي عاشت عام 7 آلاف و500 سنة قبل الميلاد كانت شاهدًا رئيسيًا على المساواة التي عاشتها المرأة بجانب الرجل في ذاك الوقت، وذلك من خلال تحليل الأطعمة التي كانوا يأكلونها فوجدوا أنها مأكولات متشابهة، كدليل على انتمائهم إلى نفس الرتبة الاجتماعية.
عند النظر إلى عادات الدفن لديهم، يعتقد العلماء أنه إذا فصل رأس الشخص عن جسده فهذا دليل على مستواه الاجتماعي المرموق، وفي أثناء الحفريات وجد الخبراء أن عدد جماجم الإناث والذكور متساوي تقريبًا، ما يعني أن الرجال والنساء كانوا على نفس القدر من الأهمية
وعند النظر إلى عادات الدفن لديهم، يعتقد العلماء أنه إذا فصل رأس الشخص عن جسده فهذا دليل على مستواه الاجتماعي المرموق، وفي أثناء الحفريات وجد الخبراء أن عدد جماجم الإناث والذكور متساويًا تقريبًا، ما يعني أن الرجال والنساء كانوا على نفس القدر من الأهمية في تلك الفترة.
وبصفة عامة، فهذه الهياكل تفتح لنا أبوابًا أوسع إلى تفاصيل حياتهم وصولًا إلى نوع الثروات الحيوانية والزراعية التي اعتمدوا في غذائهم عليها، كما تخبرنا بآليات الصيد والذبح لديهم، فعلى سبيل المثال اُكتشِفت رؤوس رماح حجرية بالقرب من عظام نوع من الجواميس الضخمة والمنقرضة في نيو مكسيكو شمال الولايات المتحدة الأمريكية عام 1927، وكان ذلك دليلًا على وجود الإنسان في تلك الأراضي قبل نحو 5 آلاف إلى 12 ألف سنة من يومنا الحاليّ، حيث كانت تلك الجماعات تصطاد الجواميس وتتغذى على لحومها منذ ذاك العصر.
المنازل والغرف التي وجدت في موقع حضارة تشاتل هويك
أما إذا أراد العلماء كشف مدى انتشار المنظومة الهرمية في المجتمعات القديمة وحجم التفاوت الاجتماعي بين الطبقة الراقية وعامة الشعب، فعادة ما يرصدون هذه الحقائق من خلال تقدير حجم البيوت واختلاف مساحتها وتصميمها عن غيرها، فمثلًا العثور على مقعد مرتفع وعريض في مواقع حضارة الأرغر دلل على وجود طبقة حاكمة وإدارية ذات نفوذ وسلطة، وذلك على العكس من مباني حضارة “تشاتل هويك” التي كانت متشابهة في التصميم والارتفاع والمساحة، ما أكد على مبادئ المساواة بين جميع فئات المجتمع وغياب الطبقية والدوائر الحكومية.
يرمز وجود المجوهرات والمأكولات والملابس بجانب الهيكل العظمي على إيمان هذا الشعب بوجود حياة أخرى بعد الموت، وهذا ما لوحظ بكثرة في الحضارة الفرعونية
بالنسبة إلى الناحية الدينية، برع العلماء في كشف معتقدات الشعوب القديمة وطقوسها الدينية، إذ اهتموا بتحليل عادات الدفن التي غالبًا ما كانت تقودهم إلى الأفكار الدينية التي آمنت بها كل حضارة، ومثال على ذلك، يرمز وجود المجوهرات والمأكولات والملابس بجانب الهيكل العظمي على إيمان هذا الشعب بوجود حياة أخرى بعد الموت، وهذا ما لوحظ بكثرة في الحضارة الفرعونية.
صورة الآلهة في جزيرة الفصح
الأكثر عجبًا هو توثيق تطور المفاهيم الدينية وتغيرها في جزيرة القيامة أو الفصح، إذ كان شعبها ينحت تمثالًا من حجر للجد أو زعيم القبيلة عند موته ويوضع على مساحة مرتفعة، بحيث يكون وجهه متجهًا نحو القرية وظهره للبحر كإشارة إلى دورهم في حماية المجتمع من أي ضرر واستعدادهم الدائم لمساعدتهم عند الضرورة، لكن مع بدء النزاعات والمجاعات التي حدثت بين القرنين الـ17 والـ18 تراجعت القيمة الدينية لهؤلاء “الأجداد” أو التماثيل الدينية؛ مما أفسح المجال لنظام ديني وسياسي جديد.
وفي النهاية رسمت هذه الدلائل المادية والرمزية بمختلف أنواعها وأعمارها جزءًا من التاريخ الذي عاشته الحضارات والثقافات القديمة، والفضل في ذلك يعود إلى العلم والتكنولوجيا والفضول البشري الذي يبحث في الصحاري والبحار والجزر عن آثار حكايته الأولى.