عُرف خلفاء الموحدين بحبهم للجهاد في سبيل الله ومساعيهم في توسيع ملك المسلمين، حيث كرّس الخليفة الأول عبد المؤمن بن علي حياته لتوحيد بلاد المغرب تحت راية الموحدين والوصول إلى أبعد نقطة في الأندلس، وكذلك الأمر بالنسبة إلى ابنه أبي يعقوب يوسف.
انتصر هؤلاء الحكام في جولات كثيرة، لكنهم هُزموا في معارك فاصلة، كان لها تأثير سلبي كبير على مستقبل الموحدين، إلا واحد منهم فقط لم يُهزم ولم تسقط له راية طيلة فترة حكمه التي امتدت لأكثر من عقد ونصف من الزمن.
نستعرض سيرة أبي يوسف يعقوب بن يوسف المنصور بالله، وهو ثالث خلفاء الموحدين ببلاد المغرب، الذي استطاع هزيمة القشتاليين وتأخير سقوط الأندلس لمدة قرنيين من الزمان، كما كان له فضل استكمال بناء الدولة.
ويعدّ المنصور الموحدي من أقوى الشخصيات في تاريخ دولة الموحدين إن لم يكن أقواهم، كما أنه من أعظم الشخصيات في تاريخ المسلمين بصفة عامة، وعرفت دولة الموحدين في فترة حكمه عصرها الذهبي وسار على نهجه العديد من الأمراء والحكام المسلمين.
ملك الموحدين
سنة 580 هجريًا، استشهد صاحب الجولات الكبيرة الخليفة الموحدي أبي يعقوب يوسف بن عبد المؤمن وهو في ميدان الحرب ضد النصارى، فزعزع جيش الموحدين وانكسر ودبّ داخلهم رهبة وخوف على مستقبل الدولة المسلمة.
انتشرت بعض الفتن الداخلية وبرز صراع على السلطة، فاجتمع شيوخ الموحدين وبايعوا أبي يوسف يعقوب بن يوسف خليفة على الموحدين وعقدوا له الولاية، ودعوه أمير المؤمنين كأبيه وجده.
تقلد أبو يوسف يعقوب حكم الموحدين ولم يتجاوز عمره 24 ربيعًا، ولقى في البداية معارضة من جانب عمومته وبعض أخوته الذين لم يستحسنوا مبايعته لصغر سنه، وحين تمت البيعة كان المنصور في الأندلس، فتلكأ في العودة إلى مراكش حتى يستقر الحال.
ما إن بلغ إلى مسامعه استتباب الأمن، حتى عبر البحر المتوسط بعساكره وسار نحو المغرب حتى نزل مدينة سلا، وهناك تمت له البيعة العامة من أهل المغرب، كما بايعه من تلكأ من أعمامه من ولد عبد المؤمن بعد أن أرضاهم ومنحهم الأراضي والأموال الكثيرة.
نصب الخليفة الجديد ميزان العدل ونظر في أمور الدين والوعظ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكعادة خلفاء الموحدين، جمع أبو يعقوب يوسف من حوله العلماء، فقد كان عالمًا واعيًا حافظًا للقرآن الكريم والحديث ويتكلم في الفقه ويناظر، وترأس مجلس المذاكرة الذي يعقد في القصر الملكي وكلف العلماء بجمع الأحاديث الخاصة بالصلاة من مصنفات الحديث الشهيرة، وصار يمليه بنفسه بعد وضعه.
وتركت في عهده دراسة فروع الفقه وخصوصًا المالكي، وجعل التشريع يعتمد فقط على القرآن الكريم والحديث، كما أمر بترك الاشتغال بعلم الرأي والخوض في شيء منه وتوعد لذلك بالعقوبة الشديدة.
كان عهد الخليفة أبي يعقوب عهد ألق فكري، إذ رعى العلم والعلماء وأثاب المؤلفين والشعراء، وانتشرت الكتب والمؤلفات في عصره، وألف له الشاعر أبو العباس الجراوي كتاب “صفوة الأدب ونخبة ديوان العرب” المعروف بـ”الحماسة المغربية” لأنه ألف على نسق كتاب الحماسة المشرقي.
قرّب في بداية حكمه المشتغلين بالمنطق والفلسفة مثل ابن طفيل وابن رشد، لكنه أهمل ذلك فيما بعد ووصل به الأمر لمعاداة أهل الفلسفة، فأحرق كتب ابن رشد وفرض عليه الإقامة الإجباريّة في قرية أليسانة قرب قرطبة بالأندلس.
ولا يُعرف السبب الحقيقي لعداء الخليفة أبي يعقوب للفلاسفة وابن رشد على وجه التحديد، لكن بعض الروايات تقول إن بعض الفقهاء والوعاظ كادوا مكيدة لابن رشد عند الخليفة حتى تبقى مكانتهم الأعلى لديه ولدى العامة، فسايرهم الخليفة في ذلك.
ارتفع خراج دولة الموحدين في عهده وظهر الغنى لدى أغلب عامة الشعب، وكان الخليفة يجمع الزكاة بنفسه ويفرقها على أهلها، وكان كريمًا كثير الإنفاق، مصلحًا بين الناس، يرتدي زي الزهَّاد، ومع ذلك عليه جلالة الملوك الأقوياء.
حرب بنو غانية
انشغل الخليفة أبو يعقوب في بداية حكمه بإخماد الثورات، فبعد أشهر قليلة من توليه خلافة الموحدين، سيّر بنو غانية أسطولًا بحريًا من نحو 40 سفينة بقيادة علي بن إسحاق بن غانية إلى مدينة بجاية الجزائرية، وتمكنوا بمؤازرة من بني حماد (إحدى السلالات التي كانت تحكم في بجاية ونواحيها والتي أسقط الموحدون دولتهم أيضًا) من الاستيلاء عليها بسهولة، ثم سرعان ما لبثوا أن اجتاحوا مدن المغرب الأوسط (الجزائر) كمدينة الجزائر ومليانة وحاصروا تلمسان وقسنطينة بعدما لامسوا ضعف قوة الموحدين، وخطبوا للناصر العباسي.
وينتسب بنو غانية إلى قبيلة مسوفة (تمتد في الصحراء بين سجلماسة في الشمال وادغشت في الجنوب)، ثاني القبائل الصنهاجية التي قامت عليها دولة المرابطين بعد لمتونة، وسيطرت السلالة على جزر البليار الثلاثة: ميورقة ومينورقة ويابسة بين 1126 و1203 ميلاديًا، وكانت أسرة بني غانية من كبار الأسر في الدولة المرابطية.
وجد الخليفة الموحدي الجديد أبو يوسف يعقوب بن يوسف في ثورة بني غانية فرصة لإثبات كفاءته وجدارته بالحكم، فأعد قوة برية وبحرية مكونة من 12 ألف جندي، وعهد قيادتها إلى ابن عمه أبي زيد بن أبي حفص.
استرجع الجيش المدن الواحدة تلوى الأخرى حتى دخل بجاية، فهرب علي بن إسحاق وأخوه يحيى وأعوانهما إلى بلاد الجريد بتونس وأخذوا يألبون الأعراب ضد الموحدين وجمعوا منهم قوات ضخمة وسيطر بنو غانية مجددًا على مدن كثيرة هناك.
بعد ما حدث في بلاد الجريد، رأى الخليفة الموحدي أن يدير الحرب مباشرة فانتقل إلى تونس ومن ثم سير جيشه إلى مدينة قفصة معقل بني غانية فسيطر عليها وسيطر بعدها على قابس الساحلية وفرض سلطة الموحدين هناك وأعاد الهيبة للدولة.
بعد القضاء على ثورة بني الغانية، وجه الخليفة جهده للقضاء على باقي الفتن في المنطقة، وبدأ بأبي إسحاق إبراهيم في تلمسان الذي تجرأ على تسفيه خططه في الحرب، فجرَّده من امتيازاته وطرده علنًا من مجلسه، فمات بعد أمد قصير.
بعدها انتقل إلى عمه سليمان بن عبد المؤمن في مرسية شرق الأندلس الذي اتُّهم بالتدبير للحلول محله، فقتله وأخمد فتنته، ولقي المصير نفسه عمه عمر الذي حاول إثارة القبائل الصنهاجية على الخليفة والتمرد على الحكم الموحدي.
حروب الأندلس
رغم الفتن الداخلية، لم يتوان الخليفة الموحدي أبي يوسف يعقوب عن مواصلة غزو بلاد الأندلس، ففي محرم من سنة 586 هجريًا جهز الجيوش وقصد مدينة شِلْب في أقصى جنوب البرتغال (بالبرتغالية Silves سيلفش) وقد بلغه أن الملك البرتغالي سانشو الأول (يسميه العرب بطرو ابن الرنق أو الرنك) قد سيطر عليها بمعية جنود الإفرنجة الإنجليز.
وفي الطريق إلى شلب، استولى الخليفة الموحدي على 4 حصون للفرنج، وبلغ المدينة سنة 587 فضرب عليها حصارًا كبيرًا، فانسحب منها الفرنجة وهربوا من هناك وتمت سيطرة الموحدين عليها مجددًا، ومن ثم عاد الخليفة وجيشه إلى مراكش.
في الأثناء، بلغ إلى مسامع حاكم مملكة قشتالة ألفونسو الثامن ابن سانشو الثالث خبر الحملة على شلب وفوز الموحدين الكبير ضد الفرنجة فخشى على حكمه، الأمر الذي دفعه للدخول في مفاوضات سلام مع الموحدين تمخضت عن هدنة مدتها 5 سنين.
وما إن عاد الخليفة إلى مراكش حتى مرض مرضًا شديدًا ألزمه الفراش لفترة طويلة، فاستغل أخوه أبي يحي الأمر لتأليب الوجهاء عليه وحثهم على مبايعته لحكم البلاد فأبى أغلبهم ذلك، وعندما أفاق الخليفة من مرضه بلغه ما بدر عن أخيه فقتله.
كعادة النصارى، نكث حاكم قشتالة ألفونسو الثامن الهدنة قبل نهايتها إذ هجم على إشبيلية سنة 590 هجريًا، فخرج إليه الخليفة الموحدي على رأس جيش قوي مكون من أبناء القبائل الأمازيغية والعربية والأندلسيين ممن انضووا تحت لواء الدولة الكبيرة القوية.
في تلك الأثناء تحالف ألفونسو الثامن مع سانشو ملك نافارا وألفونسو التاسع ملك ليون، وشنوا هجومًا مباغتًا على المسلمين في شهر شعبان من سنة 591 هجريًا شمال قرطبة قرب حصن الأراك، فتم زحزحة قلب جيش المسلمين لكن كان للخليفة الموحدي كلمة أخرى.
رصّ الخليفة صفوف الجيش وهجم على النصارى وألحق بهم هزيمة نكراء وقتل منهم عددًا كبيرًا وغنم المسلمون غنائم كثيرة بعد أن هرب ألفونسو الثامن ومن بقي من قادة جيشه إلى طليطلة، وعقب هذا الانتصار تلقب الخليفة يعقوب بلقب المنصور بالله، وكان لمعركة الأراك دور كبير في توطيد حكم الموحدين في الأندلس وتوسيع رقعة بلادهم فيها.
طلب ألفونسو الثامن المهادنة بعد أن سيطر الخليفة على قلاع وحصون كثيرة وبلغ أراضي لم يصلها أي ملك قبله، فعقدت عشرًا، ثم رجع المنصور بالله إلى مراكش وكانت النية متجهة لغزو مصر حينها وضمها إلى ملك دولته حتى يتم توحيد كامل شمال إفريقيا تحت حكم الموحدين.
عمارة المنصور
اهتمام المنصور بالله بالحروب والجهاد في سبيل الله لم يثنه عن الاهتمام بعمارة البلاد، فقد كان محبًا للبناء والتشييد، حيث أتم بناء مدينة “رباط الفتح” قبالة مدينة سلا، التي شرع والده في بنائها، وأكمل سورها، وبنى فيها مسجدًا كبير المساحة واسع الفناء، ذا صومعة كبيرة، هي اليوم صومعة حسان.
وفي مراكش، أقام الخليفة الموحدي المستشفى الكبير ويقول فيه المؤرخ عبد الواحد المراكشي في كتابه “المعجب في تلخيص أخبار المغرب”: “وبنى بمدينة مراكش بيمارستانًا ما أظن أن في الدنيا مثله؛ وذلك أنه تخيَّر ساحة فسيحة بأعدل موضع في البلد، وأمر البنائين بإتقانه على أحسن الوجوه، فأتقنوا فيه من النقوش البديعة والزخارف المحكمة ما زاد على الاقتراح، ثم أمر له من الفُرُش النفيسة من أنواع الصوف والكتَّان والحرير والأديم وغيره بما يزيد على الوصف، ويأتي فوق النعت..”.
يضيف المراكشي: “وأجرى له ثلاثين دينارًا في كل يوم برسم الطعام، وما يُنْفَقُ عليه خاصة خارجًا عما جَلَب إليه من الأدوية، وأقام فيه من الصيادلة لعمل الأشربة والأدهان والأكحال، وأعدَّ فيه للمرضى ثيابَ ليلٍ ونهار…، فإذا نَقَهَ المريض فإن كان فقيرًا أمر له عند خروجه بمال يعيش به ريثما يستقلُّ، وإن كان غنيًّا دفع إليه ماله وتُرِكَ وسببه، ولم يَقْصره على الفقراء دون الأغنياء، بل كلُّ مَنْ مرض بمَرَّاكُش من غريب حُمل إليه وعولج إلى إلى أن يستريح أو يموت”.
كما أتم ترميم مسجد سلا الأعظم وتوسيعه (تم بناؤه بداية بموجب أوامر تميم بن زيري خلال الأعوام 1028 إلى 1029ميلاديًا) بعد عودته من الأندلس منتصرًا في معركة الأرك، وبني المسجد على مساحة تتجاوز 5 آلاف متر مربع، وبعد اكتمال بنائه استدعى السلطان الموحدي عالمًا محدثًا هو أبو محمد عبد الله بن سليمان الأنصاري من الأندلس ليتولى الخطبة فيه ويلقي الدروس.
ووسع يعقوب المنصور الموحدي مسجد الكتبية وزيّنه بعدة أعمدة جلبها من إسبانيا، وبنى تحته خزان ماء، وأمر بتغطية الجامع بسقف من الرصاص وأضاف إليه الصومعة التي وصفها شاعر الحمراء محمد بن إبراهيم المراكشي بـ”سبابة مراكش”.
بنى حفيد عبد المؤمن جامع القصبة بمراكش الذي يطلق عليه الأهالي مسجد “مولاي اليزيد”، ويقع المسجد داخل حي القصبة الشعبي بالمدينة العتيقة لمراكش بجوار الإقامة الملكية الحالية بحي سيدي ميمون، وهو غير بعيد عن “مسجد الكتبية”.
وطّد ثالث الخلفاء الموحدين أبو يعقوب يوسف حكم دولته في المغرب والأندلس وفرض هيبة الدولة في الداخل والخارج، وحكم بلادًا تُضاهي ما حكمه العباسيون في أوج قوَّتهم، وكان تحت إمرته حشود من الجند القوي القادر على كسب المعارك لم يتيسر للكثير من الدول في التاريخ الإسلامي، فكان بذلك عهده العصر الذهبي للدولة الموحدية.