في منتصف القرن الـ18 احتضن المؤسس الأول للمملكة العربية السعودية آل سعود الشيخ الإحيائي محمد بن عبد الوهاب، ليدشنا معًا أوائل القرن الـ20 دولة متينة، يحتكر فيها أبناء آل سعود وسلالته الأمور السياسية والعسكرية والأمنية، فيما يفرض علماء الوهابية وذريتهم سيطرتهم على الدين والقانون والفضاءات الاجتماعية.
هذا العقد استمر لسنوات طويلة، نجحت فيها المملكة في فرض نفسها كمتحدثة باسم السنة في المنطقة، وحاملة لواء الشريعة والدفاع عن الدين، في ظل منهج ديني يلتزم بالأفعال التعبدية الأصلية، ويهاجم أي انحرافات عنها أو إضافات عليها، مستفيدة من بعض الأحداث التي وقعت تباعًا في المنطقة على رأسها ثورة إيران وغيرها.
لكن مع قدوم ولي العهد محمد بن سلمان قفزت السعودية قفزات جنونية في مسيرة التغيير، وباتت توجهات الأمير الشاب الطامح في كرسي والده وسياساته المتبعة خروجًا عن النص المألوف، ودعوة شبه صريحة لإعادة النظر في هذه العلاقة التاريخية بين السلطة السياسية والدينية.
تصريحات ابن سلمان ومبادراته الأخيرة التي سعى من خلالها إلى تقديم نفسه كبطل “العصرنة” إرضاءً للبيت الأبيض وقيادات الغرب، بما يمهد الطريق أمامه لخلافة العرش، فُسّرت على أنها محاولات لكسر العقد التاريخي بين آل سعود والمؤسسة الوهابية، فهل آن الآوان فعلًا لفسخ هذا العقد أم أن قدرة كليهما على التكيف مع تطورات الوضع ومستجداته ستكون بالمرونة التي تبقي عليه وإن تجرد تمامًا من مضمونه المعروف؟
الإطار الشرعي لآل سعود
كانت الثورة الإسلامية في إيران عام 1979 التي جاءت بالخميني زعيمًا وقائدًا، الشرارة الأولى وساعة الصفر التي جعلت السعوديين يستشعرون الخطر، فتولدت الحاجة إلى مشروع سني يقف سدًا منيعًا أمام الطموح الجامح لإيران الجديدة، وبشكل متسارع دُشن البرنامج السعودي لتصدير السلفية وانطلق يجوب بلدان العالم، ولم ينتبه لأخطاره الكثير من القوى الدولية والإقليمية إلا بعد ظهور الجماعات الدموية التي استحلت دماء الشرق والغرب.
ولم يجد أبناء آل سعود أفضل من الوهابية للقيام بهذا الدور، وهو ما كان بالفعل، حتى أضحت أهم ثوابت الشرعية السياسية والدينية للنظام السعودي، موفرة – كونها المؤسسة الدينية الرسمية في المملكة – الإطار الشرعي والإيديولوجي لآل سعود في السلطة، وهو العقد الذي دام حتى كتابة هذه السطور.
إن أراد ابن سلمان فسخ عقده مع الوهابية فعليه أن يجد بديلاً اجتماعيًا أولاً، وحاضنة شعبية تعوضه عن تلك التي كانت توفرها المؤسسة الدينية
أراد الملك عبد العزيز مؤسس الدولة السعودية الحديثة الذي يحكم من 1902 – 1953 أن يحتكر السلطة، فعمل مع شركاء غربيين وسعى لاعتراف العالم الإسلامي، لكن نفوذ الوهابية حينها كان عامل ضغط وقلق له، فحرص على إحداث إصلاح إسلامي يُضعف الوهابية ويجعلها أكثر اعتدالًا.
حرص الوهابيون على الحفاظ على سلطتهم وتنمية مكتسباتهم بصورة خرجت في بعض الأحيان عن الإطار العقدي المنهجي لهم، إذ لجأوا مع كثير من المستجدات إلى تقديم تنازلات أيديولوجية مُظهرين تقبلًا لغير الوهابيين، وسمحوا بوجود غير مسلمين في الأراضي السعودية، وقبلوا بالتعليم والنظام الإداري الحديثين، وهي الإستراتيجية التي أبقتهم بسلطتهم حتى الآن.
لكن جاءت أحداث الـ11 من سبتمبر/أيلول 2001 لتجد المملكة نفسها في ورطة حقيقية، بعد اتهام أسامة بن لادن بالضلوع في تلك التفجيرات، فضلًا عن بعض السعوديين الآخرين، ما أجبر السعودية على فصل نفسها عن الحركات الجهادية التي كانت تدعهما قبل ذلك سواء في أفغانستان أم غيرها، وسمحت بانتقاد الوهابية، وانطلقت حوارات دينية وحوارات بين الأديان مع تقليل سلطات الشرطة الدينية وتدابير أخرى.
أحدثت تفجيرات 11 من سبتمبر زلزالًا داخل المؤسسة الدينية السعودية
وهابيون عند الطلب
في مقاله المنشور بصحيفة “نيويورك تايمز” تطرق نبيل مولين الباحث التاريخي والسياسي المتخصص في الكتابة عن السلطات الدينية والقوى السياسية في السعودية، إلى إشكالية توظيف آل سعود للتيار الديني الوهابي لتحقيق أهداف سياسية سلطوية، ومن ثم كانت سلطاتهم تتناسب قوتها طرديًا مع معدل الحاجة إليهم.
مولين كشف النقاب عن بعض ملامح العلاقة بين الوهابية كؤسسة دينية ونظام آل سعود، وكيف استجابت لتغيرات سياسية داخلية وإقليمية، فيقول إن فترة ما بعد اكتشاف النفط بين عقدي الخمسينيات والسبعينيات كان على المملكة أن تحدّث من نفسها سريعًا تحت حكم سعود ثم فيصل ابن عبد العزيز، إذ إن البنية القديمة للدولة كانت مميتة ومبنية على أشخاص للسيطرة بشكل حقيقي على الأرض، ولإرضاء توقعات سكان مختلفين عن بعضهم البعض وعددهم في تنامٍ مستمر، ولخلق مصادر شرعية جديدة ولاحتواء الدعاوى المُهيمنة للأنظمة العروبية.
إرساء قواعد الدولة الحديثة كان يتطلب غطاءً شرعيًا وهو ما وفره علماء الوهابية، ورغم رؤيتهم أن بناء الدولة والتغيرات المرافقة للبناء يحمل تهديدًا فإن أحدًا لم يعترض عليه، كانخراط البنات في المدارس ودخول التلفاز والسينما، وعلى العكس من ذلك تمامًا استفاد علماء الدين حينها من صراع السعوديين مع العروبيين في الحصول على امتيازات نفطية كبيرة، حدثوا بها مؤسستهم وبنوا المدارس والجامعات والمنشآت التي قوت شوكتهم بصورة غير مسبوقة.
كانت الثورة الإسلامية في إيران عام 1979 التي جاءت بالخميني زعيمًا وقائدًا، الشرارة الأولى وساعة الصفر التي جعلت السعوديين يستشعرون الخطر، فتولدت الحاجة إلى مشروع سني يقف سدًا منيعًا أمام الطموح الجامح لإيران الجديدة
لكن لا شيء دون مقابل، هكذا أشار مولين، فدعم العلماء لآل سعود أمام أعدائهم الداخليين والخارجيين، من آية الله الخميني إلى صدام حسين والإخوان المسلمين، كان لا بد أن يقابله الثمن، وبالفعل جاءت فتاوى الوهابية ومواقفها منسجمة تمامًا مع توجهات النظام الحاكم، ويذكر هنا الفتوى التي أصدرها العلماء بالسماح بوجود قوات أمريكية في المملكة عام 1990 (وكان هذا يُعد موالاة للكفار قبل ذلك).
ثم جاء ابن سلمان ليقلب الطاولة على الجميع، ويحدث بتوجهاته زلزالًا داخل الإطار المنهجي للمؤسسة الدينية التي قدمت دعمًا فولاذيًا له ولقراراته، فظهرت فتاوى حديثة منافية تمامًا لما كانت عليه قبل ذلك، كالتي تسمح للمرأة بقيادة السيارة وحضورها المباريات الرياضية، وفتح دور السينما وشرعنة بعض أنواع الموسيقى، هذا بخلاف تنازل العلماء في المسائل الثانوية التي كانت تثير قلق الغرب بين الحين والآخر.
تنازلات قدمها علماء الوهابية حفاظًا على نفوذهم
هل ينفسخ العقد؟
أحدثت تفجيرات 11 من سبتمبر شرخًا كبيرًا في العلاقة بين السلطة والمؤسسة الدينية في المملكة، ما دفع القائمين على أمور السعودية إلى المسارعة لتبرئة ساحتهم عالميًا، وهنا ترصد الناشطة السعودية هالة الدوسري في مقال لها تأثير أحداث سبتمبر وموجة “مكافحة الإرهاب” العالمية على الإسلام الذي تروج له السعودية، وتبدأ في هذا الصدد بذكر مركز عالمي لمكافحة الإرهاب أنشأته السعودية ومولته بـ110 ملايين دولار، ومركز آخر داخل السعودية، ومركز دولي في فيينا عاصمة النمسا لحوار الأديان يحمل اسم الملك عبد العزيز آل سعود، رافق كل ذلك تعديلات كثيرة ومتكررة للمناهج.
المثير للتعجب ما ألمح إليه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب خلال خطابه في في قمة الرياض التي عقدت في 21 من مايو/أيار 2017 الذي ركز من خلاله على ما أسماه: “القضاء على الأيديولوجيات المتطرفة والجامدة التي تُحرك الإرهابيين”، الملفت للنظر أن حكام الدول العربية والإسلامية الحاضرين في القاعة كانوا يستمعون للخطاب بفرح وابتسام، بل قوبلت كلمات ترامب بانشراح في الصدر ملفت للنظر من العاهل السعودي ومعه نجله.
الباحث التاريخي والسياسي المتخصص في الكتابة عن السلطات الدينية والقوى السياسية في السعودية، أوضح أن ما فعله ابن سلمان بشأن لبرلة بلاده ليس بالكثير كما يظن البعض، فقد استلم كرسيه والمؤسسة الدينية مُفككة بالفعل، على رأسها شيوخ طاعنون في السن، وأبناء المؤسسة الذين خرجوا عن خطها ليطالبوا بالإصلاح زُجَّ بهم في السجون، متسائلًا عما إذا كانت الملكية السعودية قادرة على الانفكاك من علاقتها مع المؤسسة الوهابية والدينية.
https://www.youtube.com/watch?v=82P1TLOlwP8
لم يواجه العقد التاريخي بين الملكية والمؤسسة الدينية أي تحد حقيقي من قبل، هكذا يقول مولين، لافتًا إلى أن المؤسسة نجحت في إعادة تصميم نفسها وتفسير مواقفها في فترات الانتقال والأزمات لتعكس تغيرات علاقات القوى بشكل أفضل، ومن ثم حافظت على وجودها بشكل قوي رغم الضغوط التي تمارس عليها بشكل كبير هذه الأيام.
وفي المقابل إن أراد ابن سلمان فسخ عقده مع الوهابية فعليه أن يجد بديلًا اجتماعيًا أولًا، وحاضنة شعبية تعوضه عن تلك التي كانت توفرها المؤسسة الدينية، وبينما تدفع السلطة السعودية بقوة إلى تقليل نفوذ علماء الوهابية، إما بالزج في السجون أو القتل أو تضييق الخناق لحساب انفتاح جديد يقدم فيه الأمير الشاب أوراق اعتماده للغرب، فإن المؤسسة الدينية تبلغ من المرونة والحنكة السياسية ما يجعلها تتأقلم مع الوضع الجديد، آملة في تكرار سيناريو الثورة الإيرانية مجددًا أو حرب خليج أخرى، حينها تتعاظم الحاجة إليها ومن ثم تكون المكاسب.