أعلن الفلسطينيون في عام 1988 بالجزائر، قيام دولة فلسطينية وعاصمتها القدس الشريف، وكان هذا هو إعلان الاستقلال الثاني لدولة فلسطين، وبينما كان الإعلان الأول لحكومة عموم فلسطين في الأول من أكتوبر/تشرين الأول 1948 يشمل كامل فلسطين “عمومها”، كان الإعلان الثاني مقتصرًا على حدودها، وفقًا لقرار الأمم المتحدة 1947 الخاص بتقسيم فلسطين لدولتين عربية وأخرى يهودية.
وُجدت ولاية من نوعٍ ما للدولة الفلسطينية في كلتا الحالتين، ففي إعلان الاستقلال الأول أعلنت حكومة فلسطين ولايتها القضائية، رغم غياب مقومات هذه الولاية من إدارة وشرطة واقتصاد وجيش، وفي الولاية الثانية وجدت الولاية القانونية التي عبر عنها الاعتراف الدولي لـ84 دولة في اللحظة الأولى للإعلان، و20 دولة لاحقًا بشكلٍ مشروط.
رغم ذلك غابت الدولة الحقيقية بسيادتها وسلطتها وأمنها عن حلم الفلسطينيين، حتى اتفاقية أوسلو حين خرجت منظمة التحرير لتعلن قيام دولةٍ فلسطينية تتمتّع بالسيادة والاستقلال وبقدرة الازدهار الاقتصادي والانسجام في محيطها العربي، وأن عملية السلام التي فتحت أبوابها مع أوسلو ستختتم بالحل النهائي بهذه الدولة في موعدٍ أقصاه خمس سنوات هي فترة انتقالية.
لكن الفترة الانتقالية لم تكن إلا عصا في الدولاب أعجزت محاولات الفلسطينيين عن الوصول إلى الدولة، رغم سعيهم لتشكيلها طولًا وعرضًا، حينًا بإعلان المجلس المركزي الفلسطيني “تجسيدها” عام 2000، وحينًا آخر بمساعٍ أممية لتغيير كينونتها من “كيان” إلى “دولة مراقبة غير عضو” عام 2012، ومن ثم دولة كاملة في 10 مايو/أيار 2024، ورغم هذه القولبة بقيت فلسطين بلا سيادة وبلا مقومات دولة.
من هذه المتاهات تأتي السطور التالية مسلطةً الضوء على رحلة الفلسطينيين على طول درب الدولة الفلسطينية، وتحديدًا معادلة السيادة بالأمن، لتثبت أن ما رآه المفاوض الفلسطيني ظلالًا لدولةٍ في أوسلو لم تكن إلا تجديفًا نحو السراب، وأن محطات “الدولة” بدءًا من أوسلو ومرورًا بحفنة قرارات دولية وآراء استشارية قانونية لم تكن لتستعيد وهجها الأول لولا خطٍ واضح من الدماء بدأ منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول حتى اليوم.
أوسلو: فرساي الفلسطينية
وفقًا لبنود القانون الدولي فإن الدولة هي مجموعة من الأفراد يقيمون بصفةٍ دائمة فوق إقليم معين، ويخضعون لسلطةٍ معينة تمارس عليهم سيادتها، وبهذا التعريف فإن عناصر الدولة الفلسطينية تتكون من المواطنين الفلسطينيين، الذين يقيمون داخل الأراضي الفلسطينية، وتحكمهم الحكومة الفلسطينية، التي يتواصل وجودها السياسي منذ عام 1994، ويخضعون لأحكامها وسلطاتها، لكن أين السيادة؟
وفقًا لبدايات المحرقة التي انطلقت من أوسلو، فقد بنى الفلسطينيون دولتهم بناءً على تقسيمات الاتفاقية للمناطق الفلسطينية إلى “أ” و”ب” و “ج”، حيث يتحكم الفلسطينيون في كل شيء في “أ” (سيطرة مدنية وأمنية كاملة من السلطة الفلسطينية)، وفي نصف الأشياء في “ب” (سيطرة مدنية فلسطينية وسيطرة أمنية إسرائيلية فلسطينية مشتركة)، وبلا أي شيء في “ج” (سيطرة مدنية وأمنية إسرائيلية كاملة).
وفيما كانت تبلغ مساحة المناطق “أ” عند توقيع الاتفاق 3% من مساحة الأراضي الفلسطينية، والمناطق “ب” 25%، والمناطق “ج” 72%، ثم تغيرت تقسيماتها لاحقًا مع عام 2011، إلا أن هذا التصنيف كان كافيًا للمفاوض الفلسطيني لكي يشعر بأنه يؤسس لدولةٍ فلسطينية قوامها مواطنين فلسطينيين يعيشون فوق الإقليم الفلسطيني، ويخضعون لسلطة “السلطة الفلسطينية”، التي تمارس سيادتها عليهم على 3% من الأرض!
علمًا بأن الأساس القانوني لدولة فلسطين هو القرار الأممي (181)، ورغم ما يمثله هذا القرار للفلسطينيين من معادلٍ لخسارة الأرض، فإن الخسارة الحقيقية يعبر عنها وفق مدلولين: الأول هو أن قيام الدولة الفلسطينية وفقًا لهذا القرار هو تعبيرٌ عن إرادة أممية وليس إرادة فلسطينية، ما يفقد الفلسطينيين حق تقرير مصيرهم، فالقرار من جانب يمنحهم دولة، ومن جانبٍ آخر يأخذ منهم أكثر من نصف أراضيهم لصالح تقرير دولة إسرائيلية.
أما المدلول الآخر، فهو أن المفاوض الفلسطيني لم يسع في أي وقتٍ من الأوقات للاستفادة من القرار بجعله أرضية للمفاوضات مع الاحتلال، بل اعتمد على قرار مجلس الأمن (242) الذي جاء في سياق ترسيم خط الهدنة بين الجيوش العربية وجيوش دولة الاحتلال، وليس في سياق تحديد حدود سياسية.
هذه السقطة المريعة تسببت في تهرب الإسرائيليين المتكرر من مطالب الدولة، مؤكدين أنهم لم يعدوا المفاوضين الفلسطينيين بأي دولة، بل كانت الوعود هي “مناطق حكم ذاتي فقط”، ونتيجةً لذلك نتج كيانٌ سياسي غير مفهوم الشكل، موجود واقعًا وفقًا للولاية القانونية، لكنه غائب وفقًا للولاية الفعلية، وهو ما يعني غياب السيادة الحقيقية حتى لو أقنع الفلسطينيون أنفسهم بامتلاكها.
فوفقًا لتعريف محكمة العدل الدولية في قضية مضيق كورفو سنة 1949 فإن “السيادة بحكم الضرورة هي ولاية الدولة في حدود إقليمها ولاية انفرادية ومطلقة وأن احترام السيادة الإقليمية فيما بين الدول المستقلة يعد أساسًا جوهريًا من أسس العلاقات الدولية”.
هذه الولاية المنفردة والمطلقة التي أوحى الاحتلال للسلطة الفلسطينية بامتلاكها مقابل أمنه، سقطت فعليًا في أول مواجهة شعبية مع الفلسطينيين الذين أدركوا أن أوسلو لم توقف محاولات الاستيلاء على الحرم المقدسي، فاندلعت هبة النفق عام 1996 لتشهد الأراضي الفلسطينية ثورة شعبية تدخلت فيها الطائرات المروحية والدبابات بالإضافة إلى المستوطنين الإسرائيليين الذين استهدفوا المواطنين الفلسطينيين، ما تسبب في سقوط 63 شهيدًا خلال يومين، وأكثر من 1600 جريح.
هذه الهبة عززت من اتجاهين: الأول هو غياب سيادة فلسطينية حتى على مناطق “أ”، والثاني هو أن الأمن الإسرائيلي مقدم على كل شيء في عُرف دولة الاحتلال حتى على اتفاقياتها السياسية، وهو المعيار الذي ظن الفلسطينيون أنه أصبح ثانويًا بانتهاء انتفاضة الحجارة، وأقدم الإسرائيليون من أجله على التنازل عن 3% مما يسمونه “أرض إسرائيل الكبرى”، ونتيجةً لهذا التنازل الذي لم يستطع إسحاق رابين إقناع اليمين المتطرف بنجاعته، ذهبت حياته برصاصٍ إسرائيلي.
ونتيجةً لهشاشة السيادة، حاجج المسؤولون الإسرائيليون مجتمعهم مراتٍ ومرات للتأكيد على أن وجود السلطة الفلسطينية لا يعني سيادة فلسطينية، وأن نزع صفة الوطنية عن السلطة وتفتيت مناطقها من خلال 121 مستوطنة ترتبط مع بعضها بشوارع وتحكمها مجالس إقليمية تابعة لسلطة دولة الاحتلال يحول دون تأسيس أي كيانٍ حقيقي متصل جغرافيًا ومنسجم سياسيًا يمكن أن يطلق عليه فلسطين.
بل إن حجة الاحتلال في استمرار سيادته على حساب السيادة الفلسطينية، دُعمت باتفاقية أوسلو الثانية 1995، التي أتاحت له الاحتفاظ بالسيطرة على الموارد الطبيعية وعلى مقومات بناء الدولة الفلسطينية من مياه وكهرباء ومخزون طاقة، والسيطرة على الحدود الخارجية وتدقيق حركة التجارة الفلسطينية والتحكم بها وبروابطها مع الأسواق العالمية.
في المقابل رأت السلطة الفلسطينية في وجودها مظاهر أخرى للسيادة، بدءًا بالعلم والنشيد الوطني، والحجم المهول للقوة العسكرية التي أسستها، ووجود مؤسسات حكومية نشطة، إضافة إلى مرافق سيادية عالية المستوى مثل السفارات والمطار ونظام اقتصادي متين بعلاقاته مع جيرانه “حتى لو كانت تبعية”، وقدرة على جبي الضرائب الداخلية، لكنها في الواقع لم تتعد النمط الشكلي للسيادة.
وتكمن المفارقة بين حجة الاحتلال وحجة السلطة في المنطلق السياسي والرغائبي الذي أديرت به المفاوضات وما انتهت إليه، ففيما رغب الفلسطينيون في موطئ قدمٍ لهم على جزء – أي جزء – من أرض فلسطين يمكن لمنظمة التحرير حينها أن تعتبره إنجازًا، بحث الإسرائيليون عن نظامٍ مدني يدير شؤون الفلسطينيين في المناطق عالية الكثافة، دون تبعات سياسية أو قانونية، وبالكثير من المزايا التي تكفل للاحتلال حصةً من المنح الدولية وسلطة سيادية دون التزامات، وانتهاءً للمقاطعة الاقتصادية العربية، ووجود مقاولٍ أمني مسؤول عن تهدئة مخاوفها الأمنية والسياسية من خلال التنسيق الأمني.
أحجية السيادة والأمن على وقع السابع من أكتوبر
بحلول عام 2002 والاجتياح الإسرائيلي الشامل “حملة السور الواقي” للأراضي الفلسطينية، سقطت حجة المسؤولين الفلسطينيين بوجود أي شكلٍ من أشكال السيادة بحوزتهم إلى الأبد تحت وطأة غياب الأمن الإسرائيلي باستمرار عمليات المقاومة، ورغم العمل الدولي والإقليمي والفلسطيني المحموم لإعادة هيبة الأجهزة الأمنية من خلال عمليات إعادة تشكيل في المفاهيم وفقًا لمبدأ دايتون “الفلسطيني الجديد” ما بين 2005-2009، فإن السيطرة على الأراضي والمواطنين الفلسطينيين خرجت من يد السلطة الفلسطينية.
وبينما حاولت القيادة الفلسطينية تقديم الأمن للإسرائيليين ورفع مستوى التنسيق الأمني والقيام بعمليات مشتركة تستهدف المقاومين في المدن الفلسطينية، والحفاظ على أمن المستوطنين وإعادتهم، وتخفيف الكلفة المادية والبشرية لجيش الاحتلال في مواجهته لتصاعد التيار المقاوم، إلا أنها لم تحصل على السيادة.
نتيجةً لذلك حاول المسؤولون الفلسطينيون التوجه لشكلٍ آخر من أشكال بناء الدولة، يحقق لهم إنجازًا على أحد الصعد، تمثل في المساعي الدولية لتطوير وضع فلسطين في الأمم المتحدة، والتي جوبهت برفض وإعاقة أمريكية وإسرائيلية وغربية شديدة، ما دفع حكومة الاحتلال إلى فرض عقوبات على الفلسطينيين واقتطاع جزء من أموال المقاصة والتضييق على العمال الفلسطينيين في مناطق الاحتلال لإيقاف هذه الجهود.
وكثيرًا ما نجحت سياسة الاحتلال في ذلك، حتى جاء السابع من أكتوبر، الذي مثل ضربةً لمفهوم السيادة والأمن وفق المنظور الفلسطيني والمنظور الإسرائيلي على حدٍ سواء، حيث أكد أن السيادة الفلسطينية الفعلية على الأرض الفلسطينية هي لفصائل المقاومة في غزة، والتي استطاعت خلال السنوات السابقة تعزيز مفاهيم الردع المتبادل مع الاحتلال وبناء قدرتها القتالية، على النقيض من هلامية السيادة الفلسطينية في الضفة.
كما شكلت عملية السابع من أكتوبر نسفًا لمفاهيم السيادة الإسرائيلية على فلسطين الـ1948، وأعادت مفهوم “فلسطين من النهر إلى البحر” الذي تجاوزته منظمة التحرير في مسعاها للسلام، كما عززت من قيمة حق العودة وإمكانيته للمرة الأولى منذ النكبة، وأدرجت نضال الفلسطينيين في الدول العربية والشتات كجزءٍ رديف من المقاومة لا غنى عنه، تمثل ذلك في انخراط كامل للفصائل الفلسطينية في سوريا ولبنان في الحرب الحالية، بدءًا من الجبهة الشعبية، فحماس والجهاد وحتى حركة التحرير الوطني فتح.
وفيما كانت “التسوية” شعارًا للسلام، أصبحت الدولة الفلسطينية هي التعبير الأوفى لأي سلام قد يتحقق في الشرق الأوسط، ونتيجةً لذلك أقدمت دول من المنظومة الأوروبية على الاعتراف بدولة فلسطين وفق حدود عام 1967 هي إسبانيا وإيرلندا والنرويج وسلوفينيا، فيما أشارت كل من بريطانيا وأستراليا ومالطا إلى أنها قد تعترف بالدولة الفلسطينية لاحقًا.
أضيف إلى ذلك كل من قرار الأمم المتحدة في 10 مايو/أيار الذي أقر أحقية فلسطين بعضوية كاملة في الأمم المتحدة بموافقة 143 عضوًا وامتناع 25 عن التصويت، ومن ثم رأي محكمة العدل الدولية 2024 الذي أكد اعتبار الوجود الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية 1967 احتلالًا، وأن على الاحتلال إنهاء وجوده ووقف توسعه الاستيطاني بل وإجلاء جميع مستوطنيه وتقديم تعويضات عن الأضرار للسكان الشرعيين.
ويمكن النظر لكلا القرارين باعتبارهما تطورًا دوليًا وقانونيًا يصب في رصيد إنجازات السابع من أكتوبر، التي تتخطى حدود الحماية السياسية الأمريكية لدولة الاحتلال، والانهزامية الفلسطينية أمام تهديدات حكومة الاحتلال اليمينية، كما أن أي قرار أممي أو قانوني من شأنه أن يضيف قيمة متينة للقضية الفلسطينية سواءً على صعيد تعزيز حق الكفاح ومقاومة الاستعمار وتقرير المصير أو في جولات المفاوضات لاحقًا – إن لم تتكرر أخطاء الماضي -.
لا سيما أن هذه المنجزات لم تتأت نتيجة معادلة الأمن مقابل السيادة التي انتهجتها القيادة الفلسطينية، ولا معادلة الأمن أولًا التي انتهجتها دولة الاحتلال، ولا تقدم هذه المنجزات أي ملامح لأمن ولا سيادة للفلسطينيين أو الاحتلال على حدٍ سواء، وإنما تتجاوزها إلى حدود ما يريده الفلسطينيون أنفسهم وما يرون فيه أمانهم المدرك بأن الاحتلال لن يقدم لهم الأمن ولا السيادة ما دام قائمًا.
بالمحصلة، فإن السابع من أكتوبر استطاع إعادة المعادلة الصفرية بين السيادة الفلسطينية والأمن الإسرائيلي إلى نقطة البداية، متجاوزًا السور الواقي، وحارمًا أوسلو ادعاءاتها بدولةٍ ذات سيادة، ورغم كم الإنجازات العالمية والإنسانية والقانونية التي حققها الفلسطينيون بعيد أكتوبر، تبقى فارغة المضمون أمام تضحياتهم وسعيهم اللامنتهي نحو الحرية، لأنهم يدركون أن خسارة فلسطين لم تكن في جولة مفاوضات ولا في “مباراة للمنطق”، ولهذا فإن السيادة بالنسبة لهم أضحت خطًا مرسومًا بدمائهم، والدولة الفلسطينية في عيونهم خطوة بدأت في أكتوبر ولن تتوقف.