عُني علم النفس منذ صعوده في بدايات القرن الماضي بدراسة سلوكيات الأفراد وتصرّفاتهم في ظلّ سيطرة النزعة الاستهلاكية ومؤسسات الرأسمالية على المجتمعات بمختلف أنواعها. فظهرت بين أوساط أكاديميا علم النفس العديد من الأسئلة من قبيل لماذا يشتري الأفراد وكيف يتخذون قراراتهم الشرائية وماذا يشترون على الرغم من كونها جزءًا لا يتجزأ من علوم التسويق والاقتصاد.
وتركّز دراسة سلوك المستهلك على فهم قرارات الشراء التي يتخذها المستهلك، وكذلك المراحل التي يتم بها هذا القرار، وتدرس لذلك الخصائص الفردية والشخصية والاجتماعية والثقافية للأفراد. ومع تزايد تعقيد العصر الذي نعيش فيه بتطوراته التكنولوجية وانفتاح أسواقه الإلكترونية وسهولة التسوّق “أون لاين”، صار من اللازم علينا كأفراد فهم الطريقة التي تنخدع بها عقولنا وتخضع للسلوكيات الاستهلاكية، بوعيٍ أو بدون وعيٍ، بطريقةٍ تجعلنا نتساءل فيما إذا كنّا فعلًا أحرارًا في قراراتنا الشرائية أم أننا مجرّد أتباع نسير في دائرة مغلقه يحكمها أصحاب رؤوس الأموال والرأسماليّون.
المنتجات التي نمتلكها كامتدادٍ خارجيّ لهوّياتنا
سواء اعترفنا بذلك أم لا، يرتبط الاستهلاك والسلوكيات المرتبة به ارتباطًا وثيقًا بهويّاتنا الفردية والشخصية التي نعرّف بها أنفسها، فمّما لا شكّ فيه أنّ أحد الأسباب التي تدفعنا لشراء ما نشتريه وامتلاك ما نمتلكه هي رغبتنا في تكوين هوية خاصة بنا من خلاله، أي أننا نمتلك منتجات ترمز إلى صفات معينة لإرسال رسالة إلى الآخرين مفادها بأنّ تلك الصفات تنعكس علينا أيضًا، لذلك لا عجب من أنّ عبارة “نحن ما نمتلكه” أو “نحن ما نشتريه” قد تكون صحيحة في أغلب الأوقات.
نحن نصبح ميّالين لإطلاق الأحكام على أنفسنا وعلى من حولنا استنادًا إلى ما يستهلكونه وما يملكونه
ومع الأسف، يمكن أن يؤثر الاستهلاك تأثيرًا ضارًا على هوياتنا، إذ بجعلنا نشعر بالنقص أو عدم الكفاية في حين مقارنة أنفسنا بالآخرين من حولنا في المجتمع ورغبتنا المتزايدة في التشبّه بالعديد منهم والوصول إلى ما وصلوه من قدرتهم العالية على الاستهلاك والامتلاك. كما أننا نصبح ميّالين لإطلاق الأحكام على أنفسنا وعلى من حولنا استنادًا إلى ما يستهلكونه وما يملكونه، وكأنّ المنتج والسلعة باتا الانعكاس الخارجيّ للشخصية والهوية لا شيء آخر.
الاستهلاك التعويضيّ: السلع للتعامل مع العجز النفسيّ
يُشير مصطلح “الاستهلاك التعويضي” إلى سلوك المستهلك الناتج عن محاولة التعامل مع العجز النفسي أو عدم الاستقرار الداخليّ من خلال الإقبال على استهلاك المنتجات وشرائها والرغبة غير المسيطر عليها في الامتلاك والتملّك. ويأتي هذا المصطلح استنادًا إلى نظرية “التعويض” في علم النفس والتي ترى أننا نلجأ إلى إستراتيجية نستطيع من خلالها، بوعي أو بغير وعي، البحث عن بدائل لنقاط ضعفنا وإحباطاتنا ورغباتنا غير المُحقّقة وفوضانا الداخلية، من خلال اندفاعنا نحو أشياء أو مجالات أخرى في العالم الخارجي حولنا.
يرى الكاتب الأمريكي والناقد الاجتماعي كريستوفر لاش أنّ المجتمعات الحديثة هي مجتمعات تعبد الاستهلاك وتنظر إليه كوسيلة لتعويض عدم قدرتها على ضبط إيقاع حياتها الخارجي من خلال العديد من الاستراتيجيات التعويضية مثل ميل الآباء لتعويض أنفسهم وعائلاتهم وأبنائهم عن ظروف المعيشة السيئة مثل الفقر والبطالة التي عانوا منها سابقًا من جهة، أو لتعويضهم عن الأوضاع الحالية الصعبة التي تمرّ بها الأُسَر مثل المشاكل العائلية والطلاق وما إلى ذلك.
المجتمعات الحديثة هي مجتمعات تعبد الاستهلاك وتنظر إليه كوسيلة لتعويض عدم قدرتها على ضبط إيقاع حياتها الخارجي
وبذلك، يستجيب لا وعينا لفوضانا وعدم استقرارنا الداخليّ من خلال ميله إلى البحث عن أساليب خارجية تكون متاحة وسهلة الوصول يمكلنها خلق نوع من المتعة اللحظية والمؤقتة في عقولنا وأذهاننا، ومما لا شكّ فيه أنّ التسوّق والاستهلاك وامتلاك المنتجات والأشياء تؤدي هذا الغرض، نظرًا لأنها تحفّز نظام المكافأة في الدماغ وترفع من مستويات هرمونات السعادة والراحة النفسية، ولكن يجب علينا أنْ لا ننسى أنّ هذا كلّه مؤقت قد يستمرّ لساعاتٍ أو لأيام فقط تنتهي بمجرّد انتهاء دفقة الهرمونات تلك.
نظرية الندرة: نشتري خوفًا من تفويت فرصة الحصول على المنتجات
تخبرنا “نظرية الندرة” أو “The scarcity effect” أنّنا إذا اعتقدنا أنّ ثمّة ما هو نادرٌ أمامنا أو متاحٌ لفترة قصيرة من الزمن فقط، فإنّ عقلنا سيعطيه وزنًا وحجمًا أكبر وتقديرًا أعظم ممّا يملكه في الواقع، فأوقات ومواسم التنزيلات والخصومات جميعها تحمل رسائل واضحة لعقولنا وأذهاننا؛ ما تراه أمامك الآن هو شيءٌ نادر قد يختفي خلال فترةٍ قصيرة لذا عليك استغلال وجوده واستغلال سعره. والأمر لا يتوقف على مواسم التنزيلات وحسب، بل إنّك ستفكّر دومًا أنّ هذا المنتج لن يكون متاحًا طوال الوقت، لذلك ففرصتك بالحصول عليه محدودة الزمن.
إذا اعتقدنا أنّ ثمّة ما هو نادرٌ أمامنا أو متاحٌ لفترة قصيرة من الزمن فقط، فإنّ عقلنا سيعطيه وزنًا وحجمًا أكبر وتقديرًا أعظم ممّا يملكه في الواقع
تؤثر الندرة على قدرتنا على التفكير بوضوح وعقلانية عند اتخاذ القرارات، فنشعر أنّنا إذا لم نستغلّ العروض المتاحة أمامنا فإنّنا سنفقد أو نفوّت تجربةً مهمّة، وبالتالي، فوفقًا لإحدى الدراسات فإنّ الخوف من الندم أو الشعور بالأسف في المستقبل هو ما ما سيحكم قراراتنا ويقودها، أيْ أنّ المشاعر هي المسيطرة في تلك اللحظات.
ويعدّ الندم والشعور بالزهوّ أهم المشاعر التي تسلك طريقها في تلك اللحظة، فأنتَ إما أنْ تندم لشرائك ما اشتريته أو أنك ستشعر بالزهوّ حياله لاحقًا، لكنّك في اللحظة نفسها ستبقى متأرجحًا بين هذين الشعوريْن المتناقضين، دون أنْ تدري بناءً على أيهما ستختار قرارك بالشراء أو عدمه. وبما أنّنا كمستهلكين غير قادرين على التنبؤ بالنتائج المستقبلية لقراراتنا الاستهلاكية، إلا أنّنا قادرون من خلال “ذاكرتنا العاطفية” على التنبؤ بتلك النتائج استنادًا إلى القرارات التي اتخذناها في المرات السابقة والمشاعر المرتبطة بها.
لذلك قد يكون استرجاعك لذكريات المرة الماضية التي تسوّقت فيها وسؤالك عن كيفية شعورك تجاه ما تسوّقته بعد فترةٍ من الزمن، وإسقاطك ذلك الشعور على الشيء الذي ترغب في شرائه الآن، قد يكون وسيلةً جيدة لطريق اتخاذك القرار الصحيح والعقلاتيّ الحاليّ. فكّر بكلّ الأشياء التي اشتريتها ولم تستخدمها أو تلك التي ندمت على شرائها لتخرج من المنظومة الاستهلاكية والسجن الرأسماليّ الذي يأسر الأفراد.
يؤدي “أثر الندرة” إلى إثارة التنافسية بين المستهلكين، فتتكوّن الرغبة بامتلاك هذا المنتج أو ذلك نشوءًا من شعورهم بأنهم إمّا خاسرون أو رابحون في هذه الصفقة
من جهةٍ أخرى، يؤدي “أثر الندرة” إلى إثارة التنافسية بين المستهلكين، فتتكوّن الرغبة بامتلاك هذا المنتج أو ذلك نشوءًا من شعورهم بأنهم إمّا خاسرون أو رابحون في هذه الصفقة، فهم بالنهاية يريدون الشعور بأنهم قد حصلوا على صفقةً جيّدة مقارنةً بمن حولهم من أصدقائهم ومعارفهم وأفراد عائلاتهم. وعلى النقيض من التنافسية هذه، قد يؤدي الشعور بالندرة والخوف من تفويف الفرصة إلى خلق ترابط إيجابيّ بين الأفراد، سواء العائلة أو الأصدقاء، لكنّ ذلك الترابط يسلك سلوكًا سلبيًّا بالاستهلاك والشراء يسلكه الفرد لا لنفسه وحسب، بل من أجل أصدقائه وعائلته أيضًا.
وكما أسلفنا، فالتخلّص من قيود الاستهلاكية قد لا يكون بالأمر الهيّن، نظرًا لأنّ آثارها لا تركّز على الفرد وحسب بل على المجتمعات ككلّ، ونحن بالنهاية مربوطون بمجتمعاتنا والأشخاص الآخرين من حولنا، نتأثر ونؤثر بهم بطرقٍ مباشرة وغير مباشرة قد يعي لها العقل أو قد لا يعي. لذلك فنحنُ بحاجةٍ لمستوىً عميق وعالٍ من الوعي بالذات وبالأساليب الاقتصادية التي تتعامل مع الأفراد وكأنها قطعان مسيّرة لا تملك خيارها بنفسها.