دائمًا ما يتبادر إلى ذهني وأنا أتابع ما يقوم به سياسيو العراق من تحالفات “طائفية – قومية”، قول الفيزيائي ألبرت أينشتاين: “من الغباء أن تكرر الشيء ذاته بنفس الخطوات وبنفس الطريقة وتنتظر نتيجة مختلفة”، فأسفي أن محاولات السياسيين العراقيين التي اعتمدت نفس المنهجية والآلية على مدى سنوات في طريق صياغة تحالفاتهم، تقودهم دائمًا للطائفية، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على عمق غباء الطبقة السياسية التي تحكم البلاد حسب ما وصل إليه ألبرت أينشتاين.
دعوات لنبذ الطائفية من خلال تحالفات طائفية
في الوقت الذي تعالت فيه أصواتهم جميعًا لنبذ الطائفية، وأجمع الكل على أن الوطن لم يجن غير التمزق والتخندق الطائفي طيلة الـ16 سنة الماضية، إلا أنهم وبعد الاستحقاق الانتخابي الأكثر سخونة وبعد البحث في أقرب الحلول عندهم، لم يجدوا طريقًا أقرب للوصول مرة أخرى لكراسيهم من تكريسهم لهذه المعاني، فباسم الدين والقومية انطلقت تحالفاتهم بعد الانتخابات، وعاد الجميع ليبني حصون طائفيته ويعلي أسوارها، وتناثرت شعاراتهم التي رفعوها ضد الطائفية وتلاشت عند أول استحقاق وطني، وكان الخاسر الوحيد هو الوطن المثخن بجراح خناجر أحزابه المنقسمة على أنفسها.
فمقتدى الصدر وتياره الذي تحالف قبل الانتخابات هروبًا من الطائفية مع الحزب الشيوعي المختلف عنه عقائديًا وفكريًا، عاد عقب الانتخابات ليبحث عن حليف طائفي، وسعى واستجدى التحالف مع كتلة هادي العامري الميليشياوية التي لطالما عقد أغلظ الأيمان على أنه لن يتحالف معهم.
سليماني لم ينجح حتى الآن بجمع شتات البيت الشيعي، ورغم أن رئاسة الوزراء محسومة سلفًا لصالح الأطراف الشيعية، لكن لم يتفقوا إلى الآن على شخصية واحدة مرضي عنها من الجميع
أما سياسيو السنَّة، وبعد محاولتهم التنصل من فشلهم وتمزقهم بحجة أن التشدد الطائفي أهم أسباب إفراز تلك الحالة، اجتمعوا مجددًا لتشكيل تحالف طائفي كبير يمثل العرب السنة لمواجهة التحالفات الشيعية التي نسجت حبالها إيران بخبرة (ابنها البار) قاسم سليماني الموجود في درعا ليشرف على معاركهم في الجنوب السوري، الذي لا يصبر سياسيو الشيعة على فراقه ويعتبرونه مفتاحًا لحلول أزماتهم.
أما الكرد فإن الإسفين الذي دقته إيران بين أطرافهم السياسية ليس من السهل أن يدع أحزابهم تلتئم كما كانت في السابق، رغم الجهود الكبيرة التي تبذل لإعادة التحالف الكردستاني لمواجهة التحالفات العربية المنافسة سواء الشيعي منها أم السني، توصلوا لاتفاق جزئي جمعهم ككتلة واحدة أمام التحالفين الشيعي والسنَّي في مفاوضات تشكيل الحكومة، مع إبقاء خلافاتهم الرئيسية لما بعد تشكيل الحكومة وترحيلها لانتخابات الإقليم التي على الأبواب.
فضيحة التزوير عامل توحيد طائفي وقومي
وبعد مرور شهرين على إجراء العملية الانتخابات النيابية، توالت فضائح التزوير لتصل إلى حد لا يستثنى منه أحد، فأدين فيه واشترك الجميع، وفي الأثناء جاءت دعوة العبادي لاجتماع يضم كل الكتل السياسية الرئيسية لإيجاد حل ينقذ العملية السياسية من الأفق المسدود الذي حشرت نفسها فيه، وسيكون الاتفاق غالبًا على المحاصصة الطائفية والعودة للوراء 116 عامًا، غير آبهين بمعاناة الشعب المغلوب على أمره.
البيت الشيعي تلتئم أطرافه
ومع نصائح علي خامنئي الأب الروحي للأحزاب الشيعية كان لا بد للأحزاب الشيعية أن تجد مخرجًا مما هي فيه من تشرذم، وما كان من قاسم سليماني عراب تشكيل حكومات العراق لما بعد الاحتلال، إلا أن يشد الرحال إلى بغداد ليجمع كل تلك الأطراف المتنافسة للفوز بالحكومة، والحقيقة أن سليماني لم يدخر جهدًا لتوحيد صف الأحزاب الشيعية والحيلولة دون انزلاقها بهاوية الخلافات التي يمكن أن تؤدي إلى احتراب فيما بينها، ربما سيكون النظام الإيراني الخاسر الأكبر منها، لا سيما أنه يتعرض لضغط شديد بسبب عقوبات الولايات المتحدة الأمريكية، ولن ينجوا منها ما لم يمد لها العراق يد العون الاقتصادي.
لقد ثبت للجميع أن العملية السياسية بلا شك فاشلة وبامتياز، وأن المضي بها وعلى نفس الطريقة لن يؤدي لنتائج مختلفة
لكن سليماني لم ينجح حتى الآن بجمع شتات البيت الشيعي، ورغم أن رئاسة الوزراء محسومة سلفًا لصالح الأطراف الشيعية، لكن لم يتفقوا إلى الآن على شخصية واحدة مرضي عنها من الجميع في ظل التنافس الشديد بين حيدر العبادي وهادي العامري ونوري المالكي، الأمر الذي جعل تلك الأطراف تستقوي بالكتل السياسية الكردية والكتل السنية على خصومهم السياسيين والفوز برئاسة الحكومة.
ساسة الكرد والسنَّة يجدون فرصة سانحة تلوح بالأفق
وجدت الكتل السياسية الكردية والسنيَّة بأماكنها ابتزاز الأطراف الشيعية، وجعل نفسها بيضة القبان التي ترجح كفة أحد أطرافهم للفوز برئاسة الحكومة، فالكرد لكي يدعموا أي طرف شيعي للفوز برئاسة الوزراء، قد توحدوا في مطالبتهم برجوع قوات البيشمركة للمناطق المتنازع عليها، وحل أزمة تصدير نفط كردستان، بالإضافة إلى إرجاع نسبة الإقليم القديمة من موازنة العراق السنوية.
أما العرب السنَّة فإن تحالفهم الجديد الذي اتفقوا على ترشيح الوجه السياسي الجديد القديم “خميس الخنجر” مع الشخصيات التقليدية الأخرى، حق التفاوض مع الكتل الشيعية، فهم يطالبون ما يطالب مكونهم الذي يدعون تمثيله، من إعمار لمدنهم المهدمة جراء الحرب على داعش، وإرجاع النازحين والمهجرين، لكن لهم مطالب أخرى لا تقل أهمية وقيمة بالنسبة لهم، تتعلق بالمناصب التي ستجود بها عليهم الكتل الشيعية، وهم عاقدون العزم على الحصول على أكبر نسبة من تلك المناصب، حتى لو كان ثمن الحصول عليه، التساهل بمطالب مكونهم الشرعية، وليس مستغربًا أن تكون إيران من دعاة عودة توحيد “البيت السنَّي” لأنه يأتي ضمن مساعي إفشال مشروع الكتلة السياسية العابرة للطائفيةَ، بالإضافة لكونه مدعاة لتحقيق مراميها بإعادة توحيد التحالف الشيعي مرة أخرى.
هل من حلٍ يخرج البلاد مما هي فيه؟
لقد ثبت للجميع أن العملية السياسية بلا شك فاشلة وبامتياز، وأن المضي بها وعلى نفس الطريقة لن يؤدي لنتائج مختلفة كما اتحفنا بتلك الحقيقة العالم الفيزيائي ألبرت أينشتاين، وأن الحل يكمن بالتغير الجذري للعملية السياسية، والبدء بعملية سياسية جديدة لا تُكرر نفس الأخطاء التي ارتكبت طيلة الست عشرة سنة الماضية.
لكن من يقوم بذلك؟ وبأي آلية؟ قبل أيام قال القيادي في تحالف الفتح عامر الفايز: “الحديث عن وجود تحرك أمريكي يهدف لوقوع انقلاب عسكري في العراق، هي مجرد شائعات لا صحة لها” وهو تصريح مستغرب أن يدلي به شخص مثل عامر الفايز، الأمر الذي يدلل على أن هناك شيئًا يُدبر في الخفاء، ولا دخان بلا نار.
فتصريحه يجعلنا نتكهن أن الولايات المتحدة الأمريكية ربما إذا نفد صبرها وهي ترى هذا التخبط السياسي في العراق، ستقرر تغيير المنظومة السياسية في العراق، وبالتأكيد فإن الذي يدفع الإدارة الأمريكية لإحداث هذا التغير، ليس تعاطفها مع الشعب العراقي، إنما تريد تشكيل حكومة في العراق تساعدها في جعل إيران بين طرفي الكماشة الأمريكية بشكل محكم، فليس من المعقول أن تحارب الولايات المتحدة الأمريكية إيران، وبنفس الوقت تتركها لتعبث بالعراق وتهدد أمن جنودها فيه.
ربما ستكون للمرة الأولى أن تتوافق أماني العراقيين مع مصالح أمريكا، على عكس كل المرات، فالإدارة الأمريكية تريد عراقًا مستقرًا لغرض التفرغ لإيران ومحاولات خنقها وتركيعها
وهذا يجعلنا نتكهن بأن الإدارة الأمريكية قد وضعت فعلاً محاولة تغيير نظام الحكم بالعراق على الطاولة، من خلال انقلاب عسكري أو غير عسكري، مستغلة انسداد أفق الحلول للأزمة السياسية الحاليّة، وستكون حجة الانقلاب تصحيح المسار الديمقراطي في البلاد، وبالتأكيد سينال الانقلاب مباركة أمريكا، وإعادة التجربة المصرية في العراق مع الفارق، ومحاكاة للانقلابات العسكرية التي كانت تحدث في كل مرة بتركيا والمدعومة من الغرب.
الأمر الآخر الذي يوضح خوف الأطراف السياسية من هكذا سيناريو محتمل، هو التهديد الواضح والصريح الذي ساقه الفايز حينما قال: “أغلب الجهات السياسية اليوم، لديها أجنحة مسلحة، وهذه الأجنحة بإمكانها التصدي لأي انقلاب عسكري ممكن حدوثه في العراق”، وهذا يعني أن الأحزاب على استعداد للدخول بحرب أهلية من خلال ميليشياتها للحفاظ على مصالحها التي حظيت بها طيلة السنوات الماضية.
ربما ستكون للمرة الأولى أن تتوافق أماني العراقيين مع مصالح أمريكا، على عكس كل المرات، فالإدارة الأمريكية تريد عراقًا مستقرًا لغرض التفرغ لإيران ومحاولات خنقها وتركيعها، وهذا الأمر غير ممكن ما لم يتغير النظام الحاكم في العراق بالطريقة التي لا يكون فيها للنفوذ الإيراني دور مهم فيه.