تتواصل الفعاليات المنددة بالأحكام القضائية “القاسية” في حق نشطاء حراك الريف المغربي، في مختلف مناطق المملكة المغربية، وحتى في خارجها حيث توجد الجالية المغربية بكثافة للضغط على سلطات البلاد وعلى رأسهم الملك محمد السادس للإفراج عن نشطاء الحراك والاستجابة لمطالب سكان الريف.
مطالب ظلت على حالها منذ النطق والجهر بها في أكتوبر/تشرين الأول سنة 2016، عقب مقتل بائع السمك محسن فكري في حاوية نظافة، رغم الوعود المتكررة للاستجابة لها والعمل على تنزيلها أرض الواقع، فأي مستقبل للحراك بعد الأحكام القضائية الأخيرة؟
الحكومة تتهرب من مسؤوليتها السياسية
الباحث في الشأن السياسي المغربي رشيد لزرق قال لنون بوست إن “التفاعلات السياسية هي ما يحدد مستقبل الحراك الذي في جوهره مطالب بالتنمية على اعتبار أن الدستور جاء بحقوق دستورية لا يمكن تكريسها على أرض الواقع إلا بالولوج لمرحلة التنمية والدخول لمنطق المواطن”.
قبل أسبوع، وزعت إحدى محاكم الاستئناف المغربية أكثر من 300 سنة سجن على 54 معتقلًا من نشطاء “حراك الريف”
ويضيف لزرق في الحوار أن “المشكلة أعمق من أن تلخص في صدور أحكام قضائية ضد المحتجين بل في مقاربة شمولية ذات رؤية تمكن المغرب من الولوج إلى الدول الصاعدة”، ويتابع “المشكلة ليست في الأحكام على اعتبار أن القضاء عمل على الحكم من خلال القانون الجنائي المغربي، بناء على التهم المتابع بها متهمو الحراك وهي أفعال جنائية معاقب عليها من طرف القانون الجنائي المغربي، وفق محاكمة علنية حضرها مراقبون دوليون، وإنما في تحقيق التنمية”.
ويؤكد الباحث المغربي أن حكومة سعد الدين العثماني لا تريد الاعتراف بالمسؤولية السياسية وتحملها وفق الاختصاصات والصلاحيات التي أوكلها لها الدستور، رغم أنها المحرك الأساسي للسياسيات العمومية.
التحول إلى قضية حقوقية
بدوره اعتبر أستاذ العلوم السياسية في جامعة محمد الخامس بالرباط، المغربي عبد الحفيظ أدمنو أن صدور الأحكام الأخيرة ضد معتقلي الحراك هي مرحلة من مراحل طَي هذا الملف وتحويله إلى ملف جنائي عِوَض المنحى الذي كان يسير فيه الحراك وهو المنحى السياسي.
وقال أدمنو في تصريح لنون بوست: “التوجه القضائي للحراك سيجعل منه قضية حقوقية ينحصر هدفها في مراجعة الأحكام الصادرة وطلب العفو وبالتالي سيُصبِح كباقي القضايا الحقوقية التي تشتغل عليها الجمعيات الحقوقية وسيحد من بعدها السياسي”.
وأضاف أدمنو: “فضلا عن أن السلطات تحاول تجاوز التأخر الذي طال المشاريع الاقتصادية والاجتماعية بمشروع منارة المتوسط والتقيد بمواعيد الإنجاز، حتى لا يصبح هناك داعٍ لإثارة أي مسؤولية للفاعل العمومي، وهكذا أتصور أن الحراك سينقل اهتمامه إلى الأحكام القضائية الصادرة”.
قبل أسبوع، وزعت إحدى محاكم الاستئناف المغربية أكثر من 300 سنة سجن على 54 معتقلًا من نشطاء “حراك الريف”، كان النصيب الأعلى منها لزعيم الحراك وأيقونته ناصر الزفزافي، وتفاوتت التهم التي وجهتها النيابة العامة للمعتقلين بين المشاركة في تظاهرات غير مرخصة والمس بأمن الدولة، التي تصل عقوبتها إلى الإعدام.
تواصل التظاهرات
حتى إن تحولت لمجرد قضية حقوقية، يرى عديد من المحللين تواصل المظاهرات المؤيدة للحراك والاحتجاجات داخل مدن الريف، وحتى في باقي المدن الأخرى خاصة الكبرى منها، إلى حين الاستجابة لمطالب سكان الريف.
ومن أبرز المطالب الملحة للجهة الإسراع بكشف مآل التحقيق في ملف وفاة محسن فكري وكشف حقيقة وفاة 5 أشخاص داخل أحد بنوك المدينة بعد خروج المغاربة في مدن مختلفة بينها الحسيمة يوم 20 من فبراير/شباط 2011 إبان موجة الربيع العربي، فضلاً عن الإفراج عن المعتقلين وبعض المطالب التنموية في مجال الصحة والتعليم والاقتصاد.
لم يحظ “حراك الريف”، عند انطلاقه، بإجماع في الشارع المغربي مثلما عليه الأمر الآن، ويعود ذلك إلى الأحكام القاسية التي صدرت ضد المتهمين الـ53، التي شكلت صدمة عنيفة للرأي العام وأدت لمظاهرات التضامن مع المعتقلين في مدن خارج منطقة الريف.
يرى المغاربة أن سلطات بلادهم لم تتجاوز بعد الرؤية الأمنية التي هيمنت قديمًا على السياسة في المغرب، فالمسؤولون وإن تغيرت مناصبهم مستمرون في تطبيق الأساليب ذاتها
تظاهر الأحد الماضي، عشرات آلاف المغاربة في شوارع الدار البيضاء للمطالبة بإطلاق سراح معتقلي “حراك الريف”، ورفع المشاركون في المظاهرة شعارات تطالب بإطلاق سراح المعتقلين، وتدعو إلى رفع “العسكرة” عن منطقة الريف، والاستجابة للمطالب الاجتماعية في منطقة الريف التي أدت إلى خروج “الحراك” الشعبي في الريف.
يعود السبب وراء تنامي الاحتجاجات في المغرب إلى الوضع الاقتصادي الحاليّ الذي يتميز باحتقان اجتماعي وسخط شعبي وجماهيري، ما يشكل أرضية خصبة لتنامي أشكال الاحتجاج والغضب الشعبي والسخط على الحالة العامة السائدة في ظل ما طبع هذه المرحلة سواء على الصعيد الوطني أم الإقليمي أم الدولي.
الإصرار على عدم تجاوز الرؤية الأمنية
يرى المغاربة أن سلطات بلادهم لم تتجاوز بعد الرؤية الأمنية التي هيمنت قديمًا على السياسة في المغرب، فالمسؤولون وإن تغيرت مناصبهم مستمرون في تطبيق الأساليب ذاتها رغم تغير الرؤية الاقتصادية في البلاد وتغير نظرة المجتمع الدولي لهذه الممارسات.
يطالب سكان الريف بإطلاق سراح المعتقلين وتحسين أوضاعهم المعيشية
ويفسر المغربيون ميل حكومة بلادهم إلى التركيز على الخيارات الأمنية واعتقال النشطاء في مواجهة الاحتجاجات التي تعرفها مدن الريف، بضعف اندماج المنطقة (الريف) وعلاقتها الصعبة بالمركز، مما يساهم في تعميق الهوة مع المحتجين ودفعهم إلى مطالب تشكك حتى في السلطات الرمزية في المملكة.
ويخشى المغاربة من تواصل تعنت السلطات وعدم الاستجابة لمطالب سكان الريف وغيرهم من المحتجين في مناطق مختلفة من البلاد، ما من شأنه أن يولد شعورًا بالنقمة ورغبة في الانتقام من السلطات الحاكمة، وهو ما سيؤثر سلبًا على السلم الاجتماعي “الهش” في البلاد.
المنفذ الحقوقي والاحتجاجي هو السبيل الوحيد
رغم حالة الاحتقان الكبيرة في صفوف ساكني الريف التي تجلت خصوصَا عقب إصدار الأحكام الأخيرة، استبعد أستاذ العلوم السياسية المغربي عبد الحفيظ أدمنو، انتقال حراك الريف السلمي إلى مرحلة العنف والتخلي عن السلمية.
بدأت احتجاجات الريف في مدينة الحسيمة، في الـ28 من شهر أكتوبر 2016
“لا أتصور أن هذه الأحكام ستفتح الباب أمام أَي عنف، فحتى الشعارات التي رفعت خلال المسيرات التي أعقبت صدور الأحكام وخاصة مسيرة الأحد في الدار البيضاء من الجهات الراعية للحراك ظلت في حدود المطالبة بالمعالجة الفضائية”، يقول أدمنو.
ويضيف: “لا أتصور اللجوء إلى العنف من أي جهة، ذلك أن أي عنف اليوم سيكون ضد أحكام قضائية صادرة عن قضاء مستقل طبق الدستور الذي يحتكم إليه العديد من هؤلاء المنتمين للحراك”، وأكد أستاذ العلوم السياسية أن “المنفذ الحقوقي والاحتجاجي سيظل يستخدم للتعبير عن أي رفض للمعالجة التي تقوم بها السلطات العمومية وَمِمَا سيعزز ذلك القرارات التي يمكن أن تتخذ من الملك لمعالجة الانتقادات الموجهة للحكومة”.
مقاربة شاملة
الباحثة في الشؤون السياسية المغربية شريفة لموير، اعتبرت أن “قضية الريف ينبغي أن تحل وفق مقاربة شاملة، لوجود خطورة في المزايدة السياسية بملف الريف والاستناد إلى الأقاويل والشائعات رغبة في تصفية حسابات سياسية بين هذا الطرف أو ذاك” على حد تعبيرها.
يتطلب النهوض بمنطقة الريف إيجاد مقاربة تنموية شاملة
وأشارت لومير في حديثها لنون بوست إلى وجود “خطورة في التعاطي مع ملف الحراك على أساس عرقي ومناطقي”، وتؤكد الباحثة المغربية أن هذا الأمر أسفر عن بروز خطاب الكراهية، والتصعيد ضد أبناء الوطن الواحد، وهو ما “ساهمت فيه الحكومة أيضا بترددها في اتخاذ القرار في الوقت المناسب في توضيح المعلومة إلى الرأي العام”.
واعتبرت لومير أن “غياب المعلومة وارتباك الحكومة وتقاذف المسؤولية، ساهم في مفاقمة الوضع ورفعت شعارات اتُخِذَت مدخلاً لدس التفرقة والشائعة، في وقت كان مطلوب فيه تحقيق المشاريع التنموية ودعم المنطقة اقتصادياً وتنموياً”.
وأكدت لومير أن “المقاربة القانونية لن تحل المشكل، بل حلها يكون أولاً باعتماد التصالحية التي يكون مدخلها تنمويًا، وثانيًا من جانب النشطاء في ضرورة التعبير عن مراجعة فكرية والتقدم بملتمس العفو إلى الملك محمد السادس”.
يذكر أن احتجاجات الريف في مدينة الحسيمة، بدأت في الـ28 من شهر أكتوبر 2016، بعد أن صادرت السلطات المحلية كميات كبيرة من السمك الذي اشتراه الشاب محسن فكري، وألقت بها في شاحنة لجمع القمامة، فقفز الشاب داخل الشاحنة لمحاولة جمع السمك المصادر، إلا أن أحدهم شغل محرك الشاحنة، فاشتغلت آلة الشفط التي ابتلعت الشاب وسحقت عظامه حتى الموت