ترجمة وتحرير: نون بوست
كتب جوليان سميث وجيم تاونسيند
تمكنت بعض القمم التي عقدها حلف شمال الأطلسي من لفت انتباه المجتمع الدولي، إلا أن هذا الانتباه لطالما كان مقترنا بالأسباب الخاطئة. وفي 11 تموز/ يوليو الجاري، سيتوافد 29 من رؤساء الدول والحكومات على مقر حلف الناتو الجديد في مدينة بروكسل، حيث ستشرئب الأعناق وتتجه الأنظار نحو الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، لمعرفة ما إذا كانت الفوضى التي شهدتها قمة “السبعة الكبار” ستتكرر ثانية.
في الحقيقة، يعتبر مثل هذا الحيد عن جدول الأعمال السياسي لحلف الناتو أمرا مؤسفا بحق. في الأثناء، يشهد الحلف العسكري أعمالاً ذات شأن تجري على قدم وساق لدعم إستراتيجية ردع العدوان الروسي في الشرق، من خلال دفع الدول الأعضاء للاضطلاع بدور أكثر أهمية لمكافحة الإرهاب في العراق، فضلا عن العمل على مواجهة التهديدات الجديدة في الفضاء السيبراني.
قمم الناتو بين الماضي والحاضر
على مدى السنوات الأربع الماضية، لم يكن هناك أي خوف من بداية استعداد حلف الناتو لخوض غمار الصراع المحتمل في القارة الأوروبية. وبعد مضي أربعة أشهر منذ ثبوت عدم استعداد الناتو الكافي وعدم قدرته على التعامل مع ضم الاتحاد الروسي لشبه جزيرة القرم، وافق الحلف العسكري على خطة وضع الاستعداد خلال فعاليات قمة ويلز لسنة 2014. وقد تضمنت هذه الخطة شروطا تقضي بالتواجد العسكري المستمر عبر حدود الدول المنتمية إلى الحلف مع روسيا، كما تنص على التواجد في البر والبحر والجو.
يبدو أن أبرز ما تم في هذه القمة تمثل في إمضاء الدول التابعة لحلف الناتو على تعهد يقضي بالاستثمار في الدفاع.
نتيجة لذلك، انبثق عن هذه القمة قرار يقضي بمضاعفة قوة الرد العسكري التابعة للناتو وتشكيل قوة فرعية تعرف باسم قوة المهام المشتركة ذات الجاهزية العالية، التي تتألف من 5000 جندي تابعين للقوات البحرية والجوية والبرية للدول المتحالفة، والتي يمكن لها الانتشار في غضون يومين أو ثلاث عند حدوث الأزمات. علاوة على ذلك، ساهمت قوة ويلز في إنشاء ثماني وحدات جديدة متعددة الجنسيات في الشرق، وذلك للمساعدة على تدريب القوات الموالية للناتو وتلقي التعزيزات عند نشوب الأزمات.
في الواقع، يبدو أن أبرز ما تم في هذه القمة تمثل في إمضاء الدول التابعة لحلف الناتو على تعهد يقضي بالاستثمار في الدفاع. ويمكن وصف هذا التعهد بأنه يسعى لعكس الاتجاه السائد المتعلق بخفض الميزانيات المخصصة للدفاع العسكري والتوصل إلى الطريقة المثلى لاستخدام الموارد المالية، ناهيك عن تعزيز عملية تقاسم التكاليف والمسؤوليات بشكل أكثر توازناً.
في سبيل تفعيل بنود هذا التعهد، قدمت الدول الأعضاء التي تتخلف عن الإيفاء بحصتها من الإنفاق الدفاعي التزاماً بوقف أي خفض حالي في الميزانية والسعي إلى زيادة النفقات العسكرية الدفاعية بالتزامن مع معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي. بالإضافة إلى التحرك لتحقيق هدف الناتو الذي يرمي لتخصيص نسبة 2 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي لكل بلد.
خلال سنة 2016، ومع حلول قمة حلف الناتو في وارسو، كانت الدول الأعضاء قد توصلت إلى تحقيق العديد من النقاط التي تضمنتها أجندة قمة ويلز السابقة. لكن السنتين الفاصلتين بين القمتين كانتا مليئتين بالدروس المستفادة والمتعلقة بما يتعين على الناتو فعله لتعزيز إستراتيجيته الردعية. في المقابل، برزت للدول المتحالفة مشكلتان عويصتان، حيث أنها أصبحت تدرك حاجتها لنشر قوات عسكرية في منطقة بحر البلطيق، فضلا عن حاجتها لتجاوز العوائق اللوجستية والبيروقراطية التي تتعلق بتحريك القوات التابعة لها بشكل سلس عبر أوروبا والمحيط الأطلسي.
بعد مرور سنتين من انعقاد قمة وارسو، استمر العمل الذي يقوم به حلف الناتو على جميع الجبهات دون هوادة
في هذا السياق، وبناءً على ما تمت مناقشته في قمة ويلز، شهدت قمة وارسو الموافقة على نشر قوات حلف شمال الأطلسي لأول مرة على نطاق واسع في دول البلطيق وبولندا، وهي منطقة لم يسبق لدول الحلف أن فكرت في نشر قواتها داخلها. وأدت قمة سنة 2016 إلى حضور متقدم ومعزز لقوات الناتو عن طريق وضع أربع مجموعات قتالية متعددة الجنسيات لتعمل بمثابة “أسلاك تعثر” وتضطلع بالقيام برد فعل فوري لأي عدوان موجه ضد الحلفاء.
بعد مرور سنتين من انعقاد قمة وارسو، استمر العمل الذي يقوم به حلف الناتو على جميع الجبهات دون هوادة، حيث تتواجد قواته على أراضي دول البلطيق وفي بولندا. وعلى الرغم من العمليات العسكرية المكثفة، إلا أن المشاكل لا تزال عند وضع الاستعداد والتحرك. ولمعالجة المعضلات اللوجستية، ستوافق قمة بروكسل 2018 على إجراء تغييرات على هيكل قيادة حلف الناتو وتضيف قيادتين جديدتين. وستتمركز الأولى في نورفولك للتركيز على التهديدات البحرية وإرسال التعزيزات عن طريق البحر، في حين ستتواجد القيادة الثانية في ألمانيا للتعامل مع الخدمات اللوجستية لنقل القوات عبر أوروبا.
في شأن ذي صلة، ستعمل القمة على معالجة مشكلة الجاهزية من خلال دفع الدول الأعضاء للالتزام بتوفير 30 سفينة و30 كتيبة و30 سرباً، التي يمكن لها الوصول إلى أرض المعركة خلال 30 يوم فقط. وعلى الرغم من أن 30 يوما لا تزال تعتبر مدة طويلة للقيام بجميع التجهيزات، إلا أن هذا المقترح يمثل خطوة على المسار الصحيح. وإن لم يكن ذلك كافيا، سيعمل حلف الناتو أيضًا على تعزيز جهود مكافحة الإرهاب بشكل كبير من خلال العمل على تعزيز ودعم مهامه التدريبية في العراق، فضلا عن سعيه الدؤوب لتحسين إستراتيجيته في مجال الأمن السيبراني.
من جهته، سيعمل ترامب خلال القمة المرتقبة على الإشارة إلى ضرورة تقاسم الدول الأعضاء الأعباء، حيث أن هذا الأمر يمثل النقطة الأكثر أهمية على أجندة الرئيس الأمريكي، كما يبدو أنه يحرز تقدما كبيرا في سبيل إنجاح مخططه. عموماً، شهد حلف الناتو منذ سنة 2014 نمو الإنفاق الدفاعي للدول الأوروبية وكندا على مدى ثلاث سنوات متتالية.
فيما يتعلق بالقيمة الحقيقية، ارتفع الإنفاق الدفاعي بنسبة 4.87 بالمائة بين سنتي 2016 و2017، فضلا عن مبلغ 46 مليار دولار في الإنفاق التراكمي خلال الفترة الممتدة بين سنة 2015 و2017. ومن المتوقع أن يصل ثمانية أعضاء في الحلف إلى نسبة 2 بالمائة المنشودة بحلول نهاية سنة 2018، وهو ما يعني انضمام أربعة دول إضافية منذ سنة 2014.
ماذا لو قامت واشنطن بأي تصعيد؟
رئيس الولايات المتحدة، دونالد ترامب، أثناء جلوسه مع أعضاء حكومته خلال اجتماع مع الأمين العام لحلف الناتو، ينس ستولتنبرغ، في البيت الأبيض في واشنطن، خلال شهر آيار/مايو 2018.
في بروكسل، سيتطرق القادة إلى ملف التقدم عسكريا نحو جبهة واسعة وكبيرة، حيث لم يقف حلف الناتو ساكناً حتى بعد أن ظل أكبر أعضائه وأكثرهم نفوذاً غائباً إلى حد كبير خلال الثمانية عشر شهراً الماضية. فمنذ إنشاء حلف الناتو، لعبت الولايات المتحدة دورًا متميزا في مجلس شمال الأطلسي، الذي يعد الهيئة الرئيسية لصنع القرار السياسي للناتو.
في الواقع، ساهمت واشنطن في تطبيق أفكار جريئة ومبتكرة، بدءا من إبرام شراكات من أجل تحقيق السلام، التي ساعدت في استعداد أعداء حلف وارسو السابق إلى الانضمام إلى حلف الناتو، ووضع إستراتيجية الوجود الأمامي المعزز. لكن، منذ بداية سنة 2017، كان على حلف الناتو أن يتعامل مع الرئيس الأمريكي الذي قال إن الحلف قد “عفا عليه الزمن” وأصبح “سيئا شأنه شأن معاهدة نافتا”، والذي يبدو أنه غير قادر على مناقشة أي موضوع آخر غير تقاسم الأعباء الدفاعية.
مع ذلك، تخيلوا أن الولايات المتحدة يترأسها رئيس ملتزم بالحلف، واعترف خلال مناسبات عديدة بأن الناتو قد غيّر من إستراتيجيات العمل التي يضعها على ضوء التحديات الجديدة الذي تواجهه، فضلا عن أنه يقدر كل إمكانياته العسكرية والسياسية. فكيف ستبدو قمة 2018 على ضوء هذا السيناريو؟
في البداية، يمكن أن يقوم حلف الناتو بالاستعداد من أجل السيطرة على مجالات عسكرية جديدة. وكما لاحظنا في مقالنا التمهيدي السابق حول القمة القادمة، اتخذ حلف الناتو بعض الخطوات المهمة في السنوات الأخيرة في مجال الردع السيبراني. فخلال سنة 2017، قرر التحالف أن شن أي هجوم إلكتروني على إحدى البلدان الأعضاء قد يؤدي إلى استخدام المادة الخامسة من معاهدة حلف الشمال الأطلسي واعتبار الفضاء الإلكتروني بمثابة مجال عسكري.
يقوم خصوم الناتو بتطوير قدرات جديدة في مجالات الفضاء الإلكتروني والذكاء الاصطناعي بسرعة، في حين ظل الحلف متخلفا عن هذا الركب.
على الرغم من التزام الدول الأعضاء بتعزيز قدراتها الإلكترونية بشكل فردي وجماعي، يحتاج التحالف إلى نهج أكثر قوة وتطلعا، حيث يعمل خصومه على توسيع قدراتهم وتكتيكاتهم بسرعة في الفضاء السيبراني. وعلى سبيل المثال، من الضروري إيجاد عقيدة سيبرانية جديدة تحدد كيفية استجابة الحلفاء للهجمات التي لا ترقى إلى حد اعتبارها حربا. ولكن دون وجود حليف قوي مثل الولايات المتحدة يتسم بالبراعة ويمكنه قيادة الحلف، ستظل المبادرات المتعلقة بالمجال الإلكتروني تفتقر للطموح.
في المقابل، يقوم خصوم الناتو بتطوير قدرات جديدة في مجالات الفضاء الإلكتروني والذكاء الاصطناعي بسرعة، في حين ظل الحلف متخلفا عن هذا الركب. وتجدر الإشارة إلى أنه ليس كل حليف للناتو يتمتع بالخبرة أو القاعدة الصناعية التي تخول له قيادة المبادرات في هذه المجالات. ولذلك السبب، يحتاج التحالف إلى الولايات المتحدة أو مجموعة صغيرة من الدول الأعضاء القادرة على المساعدة في دمج هذه التقنيات الجديدة، ليس في الأنظمة الدفاعية للدول الأعضاء فحسب، بل على المستوى التخطيطي لحلف الناتو وعقيدته.
في هذا الإطار، من شأن إنشاء مركز للذكاء الاصطناعي تابع للناتو في الولايات المتحدة أن يساهم في قطع شوط طويل في إدماج الذكاء الاصطناعي في عمل حلف الناتو. ومن المرجح أن تقوم الولايات المتحدة النشطة والملتزمة ببذل المزيد من الجهود من أجل توجيه الأنظار نحو بعض المناطق في أوروبا وحولها، التي تحتاج إلى تدخل دبلوماسي وعسكري مستمر.
الجدير بالذكر أنه لم يحظ لا البحر الأسود ولا البلقان بنفس المستوى من الاهتمام الذي أولاه حلف الناتو لدول البلطيق منذ سنة 2014، حيث تم التركيز على أمن هذه الدول نظرا لموقعها الجغرافي وتعرضها للاعتداء المستمر من قبل حملات التضليل الروسية، فضلا عن الهجمات الإلكترونية، واستخدام القوة القسرية.
تطلب بيئات العمل المحفوفة بالمخاطر على عدة مستويات، اليوم، من حلف شمال الأطلسي التخلص من النماذج التقليدية التي كان يعتمدها في عملياته العسكرية والتفكير في طرق جديدة جريئة للقيام بجدول أعماله.
أما في الوقت الراهن، فقد حان الوقت لأن ينظر التحالف إلى الدول الأخرى الضعيفة، بما في ذلك بعض الدول الذين ليسوا أعضاء في حلف الناتو مثل صربيا والبوسنة. فعلى مر التاريخ، كان للولايات المتحدة سجل حافل في الجمع بين البلدان للتشارك معا في مواجهة التحديات الإقليمية. ويمكن أن تلعب هذا الدور، اليوم، في البحر الأسود والبلقان.
نتيجة لذلك، تتطلب بيئات العمل المحفوفة بالمخاطر على عدة مستويات، اليوم، من حلف شمال الأطلسي التخلص من النماذج التقليدية التي كان يعتمدها في عملياته العسكرية والتفكير في طرق جديدة جريئة وجديدة للقيام بجدول أعماله. وتتمثل إحدى الأفكار في استضافة قمة مشتركة بين الاتحاد الأوروبي ومنظمة حلف الناتو تسمح لهاتين المؤسستين بالجمع بين قوتهما الناعمة والصلبة للتركيز على مواجهة تحدٍ مشترك.
في حال فهم ترامب نقاط القوة التي تتمتع بها هاتان المؤسستان وقضى الأشهر الثمانية عشر الأخيرة في تطوير العلاقات الشخصية الضرورية مع القادة الأوروبيين الآخرين، فقد تتمكن الولايات المتحدة من إقناع المؤسستين بالتحالف معا لمواجهة تحدٍ مشترك؛ على غرار الاضطرابات التي تشهدها منطقة شمال أفريقيا والشرق الأوسط. ولكن، تتمثل الأخبار الجيدة حول قمة حلف الناتو لسنة 2018 في أن التحالف ما زال قادراً على المضي قدماً حتى عندما يتخلى أقوى أعضاءه عن موقفه القيادي التقليدي. أما الأخبار السيئة، فهي أن هناك حدودا لما يمكن أن يحققه الحلف في ظل لعب الولايات المتحدة دورا جانبيا.
المصدر: فورن أفيرز