قنابل موجهة ألقاها الرئيس الإيراني الإصلاحي الأسبق محمد خاتمي، وفجر بها المسكوت عنه في بلاده، نبش في عمق الأزمة السياسية التي تحياها إيران، منذ نهاية سبعينيات القرن الماضي، بعدما أضحت طوائف كبرى بالبلاد مثل المسيحيين والزرادشتيين واليهود، ممنوعة من التمثيل السياسي بأعلى المناصب وأدناها، بما أثر سلبًا على خطى سير التسامح والعدالة في البلاد.
عادت إيران مئة عام للوراء في مجالي الديمقراطية والعدالة، وغير المسلمين يتم منعهم من تمثيل طوائفهم من هنا انطلق خاتمي في تصريحاته التي حملت تصعيدًا خلال الساعات الماضية وتجريحًا في السلطة الحاكمة، وكشفت شطط الرئيس الأسبق في صراعه مع النظام الحاكم، بعدما كان متيقظًا طوال السنوات الماضية لتحصين ولائه الديني تجنبًا للمزايدة عليه.
ورغم مطالبة الرئيس الأسبق المحسوب على التيار الإصلاحي بالديمقراطية والعدالة، ففي النهاية لم يستدع نظامًا غربيًا للاستشهاد به في ترسيخ الديمقراطية والحريات، بل لجأ لإيقاظ ذاكرة النظام الإيراني وإبصاره بما كان يفعله رجل الدين آية الله النائيني منذ 100 عام مضت ودفاعه المستميت عن أحقية المسيحيين والزرادشتيين واليهود في المشاركة السياسية بالبرلمان، فضلاً عن أحقيتهم في نيل حقوقهم كافة، بينما تجر إيران اليوم أذيال التخلف والجهل، وتمنع وجود غير المسلمين من المشاركة حتى في “مجلس المدينة” بحسب خاتمي.
يعتبر خاتمي “الإصلاحيين” وهم أيضًا رجال دين، القوة الرئيسية في المجتمع الإيراني التي يجب الاعتماد عليها في إنقاذ البلاد
ما الذي يريده “خاتمي” في إيران؟
“جمهورية باريس الإسلامية دولة على منهاج الخميني” هذا جل ما يريده خاتمي، دولة إسلامية لا تغلق الفضاء السياسي في البلاد، ولا تضيق جوانب الطريق على الفئات الأخرى في المجتمع، وتحجم المؤسسات التي توحشت في الحياة الإيرانية مثل مجلس صيانة الدستور والسلطة القضائية، وتعيد العمل بمبادئ الثورة الإيرانية التي لم تكن قائمة على الفقه والشريعة الإسلامية، وإنما كانت تضع المساواة والحرية والعدالة والإصلاح نصب أعينها، وهي جملة المبادئ التي أزيلت تمامًا من قاموس الحياة السياسية الإيرانية، لصالح المراجع الدينية التي سيطرت على نظام الحكم بإيران.
يعتبر خاتمي “الإصلاحيين” وهم أيضًا رجال دين، القوة الرئيسية في المجتمع الإيراني التي يجب الاعتماد عليها في إنقاذ البلاد، وإحياء التفاعل مع جميع القوى الوطنية، وإحداث التغيير المنشود لإعادة المسار الديمقراطي المفقود بالبلاد إلى وضعه الطبيعي، خصوصًا بعد الفاتورة الكبرى التي دفعها هو نفسه بسبب سيطرة التطرف وروح الإقصاء على النظام الحاكم، الأمر الذي دعاهم لمحاصرته إعلاميًا، وحُظر نشر صوره أو اسمه في الصحافة ووسائل الإعلام داخل إيران.
وأعقب ذلك انحياز القضاء للسلطة، ومساهمته في حل حزب خاتمي “جبهة المشاركة”، ذو التوجه الإصلاحي الذي بنى أفكاره ومبادئه على منهاج الدكتور علي شريعتي الملهم الأكبر للثورة الإيرانية.
كان خاتمي قد وضُع على قوائم الحظر الإعلامي عام 2015، بسبب دعمه لما عرف بـ”الحركة الخضراء” الداعمة لمير حسين موسوي المرشح الرئاسي الأسبق، أمام الرئيس الإيراني السابق محمود أحمدي نجاد، في انتخابات الرئاسة عام 2009، وهو القرار الذي نُسب إلى المرشد الأعلى، بسبب عدم وضوح الجهة المسؤولة عنه، ومحاولة جميع أجهزة الدولة التملص منه سياسيًا.
شواهد الأمور تؤكد أن خاتمي بحكم إمساكه بمقاليد السلطة من قبل، ومعرفته الدقيقة بخريطة ومراكز القوة فيها، يحاول تقريب وجهات النظر بين الإصلاحيين والحرس الثوري
الغريب أن محمد خاتمي نفسه، يتُهم من بعض أتباعه الذين انشقوا عنه، بالتلاعب بالتيار الإصلاحي خدمة لأهوائه، واستخدام المبادئ الإصلاحية فقط لتخليص حساباته مع النظام الحاكم، وبرهنوا على ذلك بدعم خاتمي للحرس الثوري الإيراني ومغازلته سياسيًا خلال خطاباته السياسية، رغم توحش دور الحرس في البلاد وتوغله في الحياة السياسية وتصديه لقمع أي حركة معارضة إيرانية داخلية تطالب بالإصلاح والتغيير، بجانب إشرافه على اعتقال وسجن المعارضين تحت لافتة الحفاظ على المصالح العليا للنظام الإيراني.
شواهد الأمور تؤكد أن خاتمي بحكم إمساكه بمقاليد السلطة من قبل، ومعرفته الدقيقة بخريطة ومراكز القوة فيها، يحاول تقريب وجهات النظر بين الإصلاحيين والحرس الثوري، لذا يحرص على تضمين خطاباته هذه الفرضية، وقال في أحد مشاركاته العام الماضي في تجمع للمعارضة عن الحرس الثوري: “لا يخطئون، ربما هناك خلافات في وجهات النظر في البلاد، لكن لا يوجد أي خلاف بشأن أساس النظام والمصالح الوطنية ومواجهة التهديدات الخارجية”، منتقدًا بذلك الضغوط الأمريكية على الحرس الثوري، وسعيها منذ أعوام لإدراجه في قائمة الإرهاب، لتسببه حسب زعمها في زعزعة الأمن الإقليمي والدولي ودعمه لميليشيات إرهابية في المنطقة.
ويبدو أن الرئيس الأسبق، يحاول جاهدًا استرضاء الحرس واللعب على المتناقضات الحاليّة والصراعات التي يتكشف أثرها بين الحين والآخر، بين الجهاز العسكري الأخطر في إيران والقصر الجمهوري، وهو ما تم تسريبه للإعلام خلال الأسابيع الماضية، والإيحاء لمؤسسات الحكم الفاعلة بالدور المتوحش والمتزايد للحرس، على حساب رئيس الجمهورية نفسه حسن روحاني وخصوصًا في الملفات الخارجية والصراع المفتوح في سوريا واليمن والعراق.
تتزايد صيحات التيارات المعارضة حاليًّا، ضد التوجه المتشدد لصقور الحكم في البلاد، خصوصًا أن السياسات تزداد غلوًا يومًا بعد الآخر
الديمقراطية في إيران.. أين كانت وكيف أصبحت؟
بعيدًا عن تناقضات “خاتمي” ومطالبته بالديمقراطية رغم دعمه الحرس الثوري، تذكر العديد من الدراسات أن متشددي الجمهورية الإسلامية، وراء تدمير أي محاولة جادة لإصلاح طريقة الحكم، ونظرته تجاه الآخر، الأمر الذي أدى إلى تعطيل وإضعاف مؤسسات المجتمع المدني بشكل غير مسبوق، وسيطرة رجال النظام على النقابات المهنية والجمعيات، بما قضى على أي محاولة لتشكيل تيار مستقل، يأخذ إيران إلى مكانة أفضل تستحقها.
كأي نظام ديني، يستحوذ رجال الدين في إيران على مقاليد الثروة والسلطة، وبشكل خاص “الاثنا عشرية” الذين يحتكرون قيادة الكيانات الشرعية التقليدية، المدعومة حكوميًا في جميع المجالات، وفي سبيل ذلك يعرقلون أي قوة اجتماعية أو اقتصادية قد تظهر على السطح بين الحين والآخر تؤمن بقيم مخالفة للنظام المتشدد في إيران الذي يرعى فيه هذه التقاليد ويحصنها من المرشد الأعلى نفسه الذي سبق له أن حذر الرؤساء السابقين والمغضوب عليهم حاليًّا، وعلى رأسهم محمد خاتمي، من تعيين الإيرانيين السنة في مناصب رئيسية بالبلاد.
وتتزايد صيحات التيارات المعارضة حاليًّا، ضد التوجه المتشدد لصقور الحكم في البلاد، خصوصًا أن السياسات تزداد غلوًا يومًا بعد الآخر، بسبب إصرار رجال الدين على إفشال أي مبادرة جديدة تطالب بالإصلاح، لإبقاء الامتيازات في يد الطبقة الدينية الشيعية، ووأد أي صعود للتيارات الليبرالية في إيران للقضاء على الثقافة المتأصلة في الفرس التي تعامل الأقليات العرقية بصورة سلبية وتجرحهم وتشككك في ولائهم عبر وسائل الإعلام والأعمال التليفزيونية والسينمائية المحلية، مما نتج في الكثير من الأحياء عن تصادمات عرقية عنيفة.
لا يعاني الآذريون وحدهم من التهميش والعنصرية، بل ينطبق ذلك على بقية الأعراق والأقليات في إيران، بسبب روح الطائفية المتفشي في إيران
يعتبر البعض محاولات التيار الإصلاحي، لإبعاد إيران عن الانزلاق في فخ الفوضى، مجرد حرث في ماء، في ظل استحالة ترسيخ قيم الديمقراطية وسط هذا المناخ العنصري الذي تدعمه فئات ليست قليلة في المجتمع الإيراني نفسه، التي تتمسك بنظام ولي الفقيه والمؤسسة الدينية أكثر من الدولة نفسها، بغض النظر عن الاختلاف على بعض الإجراءات الاقتصادية، وهي الحقائق التي ظهرت واضحة بشدة خلال انتخابات عام 2009، عندما كان يوجه أنصار أحمدي نجاد إهانات وشتائم عنصرية ضد المرشح الآخر مير حسين موسوي الذي ينتمي إلى الأقلية الآذرية بغض النظر عن تشربه ثقافة فارسية أصيله وعمله في ظلها.
ولا يعاني الآذريون وحدهم من التهميش والعنصرية، بل ينطبق ذلك على بقية الأعراق والأقليات في إيران، بسبب روح الطائفية المتفشي في إيران، على حساب الانتماء للوطن بأكمله، بما يمنع أي تيار إصلاحي ـ إذا ما وصل بالفعل إلى سدنة السلطة ـ من ترسيخ قواعد الديمقراطية في البلاد، بعدما تم زرع هواجس المؤامرة من رجال الدين في الوعي الجمعي للمجتمع، وتشكيكهم في نوايا العرب والأتراك الذين قد يسعون إلى الانفصال عن الإيران والانضمام إلى تركيا أوأذربيجان حال تمكن أي قوة ديمقراطية من حكم البلاد، وكذك الأكراد الذين يحلمون بإنشاء دولتهم الخاصة منذ انهيار الدولة العثمانية في بدايات القرن الماضي.
المثير أن أغلب المراجع السياسية على تجذر الديكتاتورية في البلاد، حتى من قبل تملك الثورة الإسلامية من دفة الحكم، فالبلاد طوال تاريخها الحديث، لم تخض أي تجربة ديمقراطية حقيقية إلا في خمسينيات القرن الماضي، من خلال حكومة الدكتور محمد مصدق التي أطيح بها 1953 في انقلاب مدبر، رغم سعي مصدق الدؤوب وقتها إلى ترسيخ العدالة والديمقراطية في إيران، للتخلص من الصراعات القومية، وتمكين الأقليات الإثنية والمذهبية، وهو الانقلاب الذي كشفته الوثائق الأمريكية، وأكدت أنه كان مدبرًا بواسطة أمريكا بسبب سعي مصدق لتأميم شركات النفط، الأمر الذي دعا مادلين أولبرايت وزير الخارجية الأسبق، إلى تقديم اعتذار تاريخي للشعب الايراني، بسبب دور جهاز السي أي إيه في الإطاحة بالحكومة الديمقراطية الوحيدة في تاريخ البلاد.