بالتزامن مع الحديث عن وجود جهود مصرية قوية لتحريك عجلة المصالحة بين حركتي فتح وحماس، والتحضير للقاء قريب في القاهرة بعد قطيعة استمرت لشهور طويلة، مارست “إسرائيل” مهنتها المعتادة في اللعب بالحالة الفلسطينية الداخلية وحاولت تشتيتها وقلب ملفاتها بفرض عقوبات جديدة على قطاع غزة.
“إسرائيل” التي وقفت عاجزة أمام طائرة ورقية أحرقت عقول مسؤوليها السياسيين والعسكريين قبل أن تحرق محاصيلها ومستوطنيها، وجدت نفسها الآن قوية بفرض عقوبات صارمة ومشددة على سكان غزة الذين يعانون الأمرين من عقوبات الرئيس الفلسطيني محمود عباس، وقد تؤدي تلك العقوبات المجتمعة على رأس الغزيين بحسب مراقبين ومحللين إلى إشعال حرب رابعة.
واتخذت سلطات الاحتلال إجراءات عقابية اقتصادية جديدة ضد قطاع غزة المحاصر، بعد أشهر من إطلاق طائرات ورقية حارقة من القطاع باتجاه “إسرائيل” وإحداثها خسائر باهظة في الحقول الزراعية.
هذه الطائرات أُدخلت كسلاح جديد للمقاومة، ويصنعها الفلسطينيون من النايلون وفيها زجاجة مليئة بالقماش المنقوع بمواد مشتعلة، وتُوجَّه نحو المستوطنات الإسرائيلية على حدود غزة، وتسببت في حرائق بأكثر من 5 آلاف دونم من الأراضي الزراعية، وخسائر بلغت نحو مليوني شيكل إسرائيلي (نحو 554 ألف دولار)، بحسب الادعاءات الإسرائيلية.
انهيار اقتصادي
الإجراءات الجديدة التي اتخذها الاحتلال إثر ذلك، شملت تقنين دخول عدد كبير من البضائع إلى غزة من خلال معبر كرم أبو سالم التجاري (الوحيد الذي يربط القطاع بـ”إسرائيل”)، ابتداءً من أمس الثلاثاء، بالإضافة إلى إلغاء قرار توسيع الشريط البحري للصيادين.
معبر كرم أبو سالم، هو المعبر التجاري الوحيد لقطاع غزة، ومن خلاله يتم إدخال مواد البناء والسلع والمحروقات والمواد الغذائية التي يحتاجها القطاع
أعلن رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو عن العقوبات، قائلًا: “إسرائيل ستثقل يدها على حركة حماس في قطاع غزة بشكل فوري، وسنغلق اليوم معبر كرم أبو سالم”، وقال المتحدث باسم جيش الاحتلال أفيخاي أدرعي، على صفحته في “تويتر”: “قرار رئيس الحكومة ووزير الدفاع جاء بعد توصية قدَّمها رئيس هيئة الأركان بإغلاق معبر كرم أبو سالم لنقل البضائع، بدءًا من اليوم، مع استثناء نقل المساعدات الإنسانية”، وأشار أدرعي إلى إلغاء قرار توسيع مسافة الصيد بغزة، في الأشهر الثلاثة الماضية، وإعادته إلى 6 أميال بعد أن كان 9 أميال.
معبر كرم أبو سالم، هو المعبر التجاري الوحيد لقطاع غزة، ومن خلاله يتم إدخال مواد البناء والسلع والمحروقات والمواد الغذائية التي يحتاجها القطاع، ومن شأن إغلاقه، التسبب في أزمة اقتصادية ومعيشية كبيرة في القطاع.
“الإجراءات الجديدة ستؤدي إلى انهيار القطاع الاقتصادي في غزة، وإفلاس رجال الأعمال والشركات، وإهدار الأموال الفلسطينية”، وفق ما قاله محمد أبو جياب، رئيس تحرير صحيفة “الاقتصادية” الأسبوعية الصادرة في القطاع.
وبيَّن أبو جياب أن قطاع غزة سيشهد تراجعًا بتقديم الخدمات الصحية والتعليمية نتيجة لتراجع الإيرادات المحلية لوزارة المالية في غزة والتي ستصل إلى حد الإعدام شبه الكامل.
وأضاف: “كذلك سيكون هناك عجز في صرف رواتب موظفي الحكومة بغزة، وتدمير المستوى الاقتصادي والإنساني، وتراجع في إيرادات الهيئات المحلية، وانهيار خطير بالقطاعات المحلية والبلديات”.
الرئيس الفلسطيني محمود عباس، اتخذ سابقًا إجراءات عقابية بحق غزة، قال إنها ردًا على تشكيل حماس لجنة لإدارة غزة
واعتبر أن الخطوات الإسرائيلية ستزيد من الضغط على الجبهة الداخلية في غزة بما يحقق تهديدًا للأمن والسِّلم الاجتماعي. وجاء إطلاق الفلسطينيين الطائرات الحارقة خلال مسيرات العودة الكبرى التي بدأت في 30 من مارس الماضي، مطالبةً بالحقوق الفلسطينية والعودة، وأدى قمعها من الاحتلال إلى استشهاد 135 شخصًا، وإصابة أكثر من 15 ألف آخرين، حسب آخر إحصائية صادرة من وزارة الصحة في غزة.
وجدير بالذكر أن الرئيس الفلسطيني محمود عباس، اتخذ سابقًا إجراءات عقابية بحق غزة، قال إنها ردًا على تشكيل حماس لجنة لإدارة غزة، ومنها وقف التحويلات المالية للقطاع وخفض رواتب موظفي السلطة والتوقف عن دفع ثمن الكهرباء التي تزوِّد بها “إسرائيل” القطاع. وتدير حركة حماس غزة منذ 15 من يونيو 2007، عقب فوز حركة حماس بالانتخابات في القطاع، لتفرض بعد ذلك قوات الاحتلال حصارًا مشددًا أسفر عن أوضاع اقتصادية وإنسانية صعبة جدًا.
جريمة جديدة
اعتبرت حركة حماس هذه الإجراءات جريمة جديدة ضد الإنسانية، وقالت: “الصمت الإقليمي والدولي على جريمة الحصار الخانق المفروض على غزة منذ أكثر من 12 عامًا شجَّع العدو الإسرائيلي على التمادي في إجراءاته الإجرامية المخالفة لحقوق الإنسان والقوانين الدولية”.
اعتبرت لجنة المتابعة للقوى الوطنية والإسلامية في قطاع غزة أن إجراءات الاحتلال لتشديد الحصار وفرض عقوبات جماعية على الشعب الفلسطيني بمثابة خرق واضح لاتفاق الهدنة التي تم توقيعها عام 2014 وإعلان حرب جديد
ودعت المجتمع الدولي للتحرك الفوري “لمنع هذه الجريمة وتداعياتها الخطيرة، ومغادرة الموقف السلبي الصامت، والعمل على إنهاء حصار غزة ووقف جرائم الاحتلال وانتهاكاته بحق غزة وسكانها”.
كما اعتبرت لجنة المتابعة للقوى الوطنية والإسلامية في قطاع غزة، أن إجراءات الاحتلال لتشديد الحصار وفرض عقوبات جماعية على الشعب الفلسطيني بمثابة خرق واضح لاتفاق الهدنة التي تم توقيعها عام 2014 وإعلان حرب جديد على شعبنا في القطاع.
وقالت: “قطاع غزة تحول في ظل الإجراءات الجديدة إلى قنبلة قابلة للانفجار في أي لحظة، محملة المسؤولية عن النتائج المترتبة عن هذه السياسات الإسرائيلية العنصرية المتطرفة لحكومة الاحتلال”. وطالبت اللجنة، الراعي المصري الذي أشرف على اتفاق التهدئة بعد العدوان الغاشم في 2014 الذي نص بشكل واضح على إنهاء الحصار وضمان استمرار فتح المعابر وتدفق السلع والبضائع إلى قطاع غزة للتدخل الفوري لوقف الإجراءات الغاشمة.
وأكدت أن كل الإجراءات الفاشية “الإسرائيلية” لن تثني شعبنا عن مواصلة كفاحه الوطني حتى التحرير والاستقلال والعودة، مشددة على أن الرد الأمثل على تلك الممارسات الاحتلالية هو تصعيد المسيرات الشعبية في مواجهة الحصار وصفقة القرن وقرارات الاحتلال الجديدة.
بدوره رأى الكاتب والمحلل السياسي شرحبيل الغريب، أن فرض الاحتلال عقوبات على غزة ومنع الاستيراد والتصدير قرار خطير جدًا سيدفع الأوضاع لمشهد لا يحمد عقباه، وهذه الخطوة تشكل تشديدًا للحصار الإسرائيلي على قطاع غزة .
دعا كاتب إسرائيلي إلى تشديد الخناق والحصار على قطاع غزة، مشيدًا بالضغط الاقتصادي الذي تمارسه واشنطن على إيران
وذكر الغريب أن هذه العقوبات تضع المجتمع الدولي أمام مسؤولياته لإنقاذ الحالة قبل تدهور الأوضاع الإنسانية، ويتحمل مسؤولية تجاهله لمعاناة أكثر من مليوني فلسطيني محاصر. وعن ربط الاحتلال العقوبات بملف الجنود الأسرى، قال الغريب: “ربط الاحتلال قضية الأسرى بأي مبادرات ستفشل، فملف الأسرى لدى المقاومة له استحقاقه”، ونوه أن الرد الأمثل على هذا القرار زيادة الضغط الشعبي على الاحتلال وتحشيد أكبر لمسيرات العودة.
نموذج إيران
وعلى الجانب الإسرائيلي دعا كاتب إسرائيلي إلى تشديد الخناق والحصار على قطاع غزة، مشيدًا بالضغط الاقتصادي الذي تمارسه واشنطن على إيران، وعدّ الكاتب روبين باركو في مقال له بصحيفة “معاريف” أن النتائج ذاتها يحققها الحصار الإسرائيلي وإجراءات السلطة الفلسطينية في قطاع غزة.
وقال باركو: “في الوقت الذي ألغى الرئيس الأمريكي ترامب الاتفاق النووي مع إيران واستأنف العقوبات ضدها، بدأت الجماهير الإيرانية تهيج وتهدد بقاء نظام آيات الله”، وأشار الكاتب الإسرائيلي إلى أن واشنطن نسقت زيادة إنتاج النفط، لا سيما مع السعودية، لعلمهم أن هبوط أسعار النفط سيضر بالاقتصاد الإيراني، وبالتالي سيضغط الشعب الإيراني على النظام”.
وأضاف: “لم تسمع في الولايات المتحدة احتجاجات إنسانية ضد خطوات ترامب ولا على عدم الأخلاقية في العقاب الجماعي”، وتابع: “الشعب الذي انتخب الطغاة هو الذي يسقطهم، وهذه الإستراتيجية القديمة تنجح جيدًا” وفق تعبيره.
يرى الكاتب الإسرائيلي أنه “ليس صدفة أن رئيس السلطة محمود عباس بالذات، الذي يعرف الغزيين جيدًا، يفرض عقوبات على قطاع غزة”
كما انتقد باركو دعوات تخفيف الحصار عن غزة وقال: “القوة، الألم، الدمار والضغط؛ هي الروافع الوحيدة لتغيير السياسة وإخضاع منظمات الإرهاب ووحوش الشمولية كإيران وغزة”، حسب وصفه.
وأكد أن “تصريحات الضائقة التي يطلقها النظام الإيراني وتهديدات مسؤولية أنه في حال لم تسوق إيران نفطها فلن تسوقه أي دولة أخرى، تشهد على الضغط المتزايد، وعلى أن هذه هي الطريقة المجربة لإحداث التغيير وتقليص قدرة التمويل لدى النظام الإيراني لمساعديه في اليمن وسوريا والعراق ولبنان وفي باقي أرجاء العالم”.
وعن الإجراءات التي اتخذتها السلطة الفلسطينية ضد غزة، يرى الكاتب الإسرائيلي أنه “ليس صدفة أن رئيس السلطة محمود عباس بالذات الذي يعرف الغزيين جيدًا، يفرض عقوبات على قطاع غزة”. ويختم: “يفهم الرئيس عباس بأن استمرار حكم حماس هو نهاية فكرة الدولة الفلسطينية المستقبلية، ولهذا فهو مصمم على إسقاطها بطريقة تاريخية مجربة، حصار حقيقي يؤدي إلى عصيان مدني ومن ثم إسقاطها”