شكّلت آسيا الوسطى، أو بلاد ما وراء النهر كما كانت تُعرف في فترة الخلافة الإسلامية، قلبَ العالم النابض لعقود طويلة وصرة طريق الحرير القديم الذي كان يربط الشرق بالغرب والشمال بالجنوب. وتعدّ هذه المنطقة الموطن الأصليّ للشعوب التركية، كلٍّ لها إقليمه وتاريخه وثقافته المميزة والعريقة الضاربة في القِدَم.
وتبعًا للتاريخ القديم لهذه الشعوب، فمّما لا شكّ فيه أنّ ثمّة ثقافة عريقة نحتها الزمن وبناها قطعةً قطعةً إلى أن وصلت إلى ما هي عليه اليوم، لا سيّما مع كلّ الأحداث والاختلافات التي مرّت على المنطقة من قبائل ودول وخلافاتٍ، واتصالها بمن حولها من شعوبٍ أخرى، وأخيرًا سيطرة الاتحاد السوفييتي عليها لعدة سنين.
وحين يتعلّق الأمر بالموسيقى في آسيا الوسطى، فنجد أمامنا العديد من الأضرب الموسيقية والغنائية التي جلبها لنا التاريخ وحافظ عليها أبناؤها أيما محافظة، لكن ربما نستطيع القول بإيجازٍ أنّ الموسيقى البدوية التي تأثرت لاحقًا بالموسيقى الصوفية الإسلامية العثمانية هي أكثر ما يميّزها.
الموسيقى الكازاخية: جناجُ الشعب الأصيل
ثمّة مثل قديم عرفته التقاليد الكازاخية وتناقلته الأجيال عبر الأزمان العديدة، تقول كلماته أنّ “الأغاني والخيول هما جناحا الشعب الكازاخي”، في دلالةٍ واضحة وصريحة إلى ولع الشعب بالموسيقى والغناء والرقص تمامًا كولعه بالخيول التي شكّلت عنصرًا أساسيًا من الحياة البدوية القديمة للمنطقة على مدى العصور الغابرة.
ترتبط الموسيقى الكازاخستانية ارتباطًا وثيقًا بتقاليد رواية القصص والأساطير الشعرية والملاحم الروائية
وعلى الرغم من النفوذ السوفييتي ومحاولاته الشتى لتغيير الثقافة الكازاخية في مختلف مجالاتها، إلا أنّ الموسيقى حافظت على أصالتها وتقاليدها العريقة التي استمدتها على مدى عقودٍ طويلة متأثرةً بثقافات آسيا الوسطى من جهة وبالثقافة العثمانية والتركية من جهةٍ أخرى. كما يتمتع كلٌّ من الموسيقى والرقص الكازاخستاني بالعديد من المميزات الفريدة من نوعها التي تميّزه عن غيره، ولكن في الوقت نفسه لديها العديد من الصفات والسمات المشتركة مع أشكال الموسيقى والرقص في دول منغوليا وآسيا الوسطى نظرًا للترابط الجغرافيّ العميق.
ترتبط الموسيقى الكازاخستانية ارتباطًا وثيقًا بتقاليد رواية القصص والأساطير الشعرية والملاحم الروائية، وقد غُنيت الأشعار والقصائد برفقة آلة الدومبرا “dombra” التي تُعتبر الحارس الفريد لثقافات الشعوب البدوية في في دول شرق آسيا لعدةٍ قرون، إذ يُقال أنّ عمرها يرجع إلى أكثر من 4000 عام، لذلك فينظر إليها الشعب وكأنّها الحافظ لتاريخ وقصص وحكايا الأرض والطبيعة والبشر الذين تعاقبوا عليها عبر الأجيال المختلفة.
تُعتبر آلة “الدومبرا” الحارس الفريد لثقافات الشعوب البدوية في دول شرق آسيا والحافظ لتاريخ وقصص وحكايا الأرض والطبيعة والبشر
وتروي الكتب التاريخية أنّ قبائل الساكا التي استوطنت آسيا الوسطى ما بين القرنين الرابع والسابع للميلاد، كانت أول القبائل التي تركت تراثًا روحيًا غنيًا في المنطقة، لا سيما فيما يتعلق بالفن التطبيقي والتقاليد الشفوية والموسيقية، والعديد من الأدوات الشعبية الكازاخية تعود إلى تلك الحقبة، مثل الدومبرا والألحان والإيقاعات الحديثة.
والدومبرا هي آلة شبيهة بالعود الشرقيّ غير أنها تحمل وترين فقط لا غير. أما عن أصل الكلمة، فيفترض أحمد زوبانوف، المؤلف الموسيقي الكازاخستاني الشهير، أن كلمة “dombra” جاءت من اتحاد الكلمتين العربيّتين “dunbah” و “burra” بمعنى “ذيل أو ذنب الحمل”، ما يعني أنّ الآلة حملت اسمها الحالي لاحقًا بعد انفتاح دول وسط آسيا على الدولة العثمانية والدول العربية.
وهناك آلة موسيقية أخرى تسمى “كوبيز” وهي تشبه الربابة، وتلك الآلتان هما عماد الفرقة الموسيقية الكازاخية التقليدية. أما أشهر الملحنين هو كرمان غازي، والذي عاش في القرن التاسع عشر. وأشهر المطربين بالحقبة السوفييتية كانت روزا ريمبافا، وقد لمع اسمها حتى أصبحت واحدة من النجوم المشهورين عبر النطاق السوفييتي ككلّ، إذ جمعت ما بين موسيقى الروك الحديثة والموسيقى الكازاخية تقليدية.
تتواجد الآلات الموسيقية في أجزاء مختلفة من الحياة البدوية اليومية؛ بما في ذلك طقوس الشامان السحرية، والتي ترتبط بعالم الأرواح وتهدف إلى دعوة أرواح أفراد العائلة الأموات بالأغاني والموسيقى، والمناسبات العسكرية ومواسم الصيف والحصاد، ولا عجب أنْ تقوم العائلة أثناء اجتماعها وسهرها ليلًا بالعزف والغناء كفعالية يومية أو شبه يومية يلجؤون إليها كتعبيرٍ عن البهجة والسعادة التي يستمدونها من الموسيقى ومن ثقافتهم التقليدية التي يعتزون بها ويقدّرونها أيما تقدير.
حديثًا، وفي فترة قصيرة نسبيًا من الزمن، أتقنت كازاخستان مع بدايات القرن العشرين العديد من الأشكال الموسيقية الحديثة، ومع حفاظها على تراثها التقليديّ العريق، استلهمت مجموعةً واسعة من الموسيقى الأوروبية الكلاسيكية وكوّنت بنيةً متفرّعة من الثقافة الموسيقية في الدولة. كما لم تختلف عن غيرها من البلدان في استلهامها للأشكال الحداثية للموسيقى الغربية مثل البوب والجاز والروك وغيرها الكثير.
موسيقى الإيغور: رحلة المقامات في شرق الصين
عُرف شعب الأويغور بموسيقاهم والرقصات العرقية النابضة بالحياة منذ وقت طويل جدًا، إذ تحتلّ الموسيقى والرقص مكانًا هامًا في حياة هذا الشعب، وكما هو معروفٌ فلا توجد عطلات وحفلات وأعراس بدون موسيقاهم ورقصاتهم وأغانيهم التقليدية العريقة. والنوع الأكثر شهرةً وأعمق رسوخًا في الموسيقى الأويغورية يُعرف باسم “مقام”، تطوّر في القرن السادس متأثرًا بالموسيقى العربية والفارسية العريقة.
النوع الأكثر شهرةً وأعمق رسوخًا في الموسيقى الأويغورية يُعرف باسم “مقام”
وبالمجمل، هناك 12 مقامًا مختلفًا، ويتكوّن هذا النوع من أغاني تتكون من كلماتٍ تحتوي على القصص الشعبية والأساطير القديمة والحكايات الملحمية التي كتبها أسياد الشعب قديمًا. وهكذا، تعكس الأغاني مجموعة واسعة من الأساليب مثل الشعر والأمثال والسرد الشعبي والموضوعات الشعبية مثل الحب والمدح والتأمل في الحياة.
وقد حافظ شعب الإيغور على خصائص مقاماتهم الموسيقية التقليدية، فآلاتهم ما زالت على سيرتها الأولى تتميز بطابعها البدوي وتفرد ألحانها، وهي ميزات زادت من إقبال الجمهور على الاستماع إليها رغم اختلاف لغة الغناء عبر الزمان. ولعلّ صور المرأة الإيغورية الجميلة وهي ترقص على الألحان التقليدية هي من أكثر الصور شيوعًا عن هذا الشعب.
ينظر الإيغور إلى الموسيقى على أنها وحيٌ إلهيّ وتسامٍ روحيّ عميق، لذلك فهنالك دائمًا تقاطعٌ كبير بين الروحيّ والدنيويّ في كلمات أغانيهم
ويمتدّ أثر الصوفية على الموسيقى الإيغورية التقليدية بشكلٍ واضح وصريح. إذ لا تزال الحفلات النقشبندية والقادرية والقشتية نشطة في مدينة شينجيانغ المعاصرة، ويحضر أعضائها إلى مهرجانات المزارات ويؤدون شعائرهم التي تدمج ما بين التقاليد الصوفيّة مع البوذيّة والممارسات والطقوس ما قبل الإسلاميّة الأخرى. وتمامًا مثل الصوفية، نظر الإيغور إلى الموسيقى على أنها وحيٌ إلهيّ وتسامٍ روحيّ عميق، لذلك فهنالك دائمًا تقاطعٌ كبير بين الروحيّ والدنيويّ في كلمات أغانيهم التي تتطرّق معظمها إلى الحبّ الإلهي والحنين إليه استلهامًا من كلمات التصوّف العثمانية والفارسية القديمة.