قبل أكثر من عام تقريبًا كشفت الحكومة السعودية النقاب عن خطتها لسعودة الوظائف، كأحد مفردات رؤية ولي العهد محمد بن سلمان (2030)، بهدف توفير فرص عمل لمواطنيها وتقليل الاعتماد على الوافدين خاصة بعد الأرقام الكبيرة التي يحصلون عليها من داخل السوق السعودي وتُحول للخارج (141.6 بليون ريال سنويًا) في الوقت الذي يئن فيه مواطنو المملكة من البطالة التي ارتفعت إلى 12.9% خلال الآونة الأخيرة.
البداية كانت مع قطاعات الاتصالات والذهب والمتاجر النسائية، وسط تصاعد سقف الطموحات في أن تؤتي هذه الخطة ثمارها بشكل فوري، لتُعمم على بقية القطاعات بنسب وصلت في بعضها إلى 100%، لكن بعد مرور أكثر من عام جاءت النتائج عكس التوقعات، فبعيدًا عن الفشل في تقليل نسب البطالة، فإن الاقتصاد السعودي نفسه بات في أزمة حقيقية جراء هذه السياسات التي أفرغت كثيرًا من القطاعات من عمالها دون تقديم البديل المؤهل.
هذا الأمر دفع وزارة العمل السعودية لإعادة النظر في إستراتيجية التوطين التي ثبت فشلها بعد عام من التجربة، ومن ثم بات دراسة مقترح التراجع عن قرارات “السعودة” لـ12 نشاطًا ووظيفة على مائدة النقاش، وذلك لصعوبة إيجاد الكفاءات السعودية المناسبة لها، حيث من المقرر تخفيض نسب التوطين في تلك الوظائف، ما يعني بصورة واضحة الاعتراف بشكل رسمي بفشل تلك السياسات.
عدد من رؤساء الغرف التجارية والصناعية طالبوا الحكومة بإعفاء القطاع الخاص من السعودة، خاصة الوظائف التي يصعب ملؤها، وسط مخاوف من كون العديد من الشركات ستغلق أبوابها
الهروب الكبير
في تقرير نشره موقع “بيزنس إنسايدر” كشف آمبروز كاري أن محمد بن سلمان وإن كان قد نجح في تسويق نفسه على أنه الأب الروحي للتحديث والتغيير في كثير من التابوهات الاجتماعية والسياسية في البلاد، لكنه يعاني في محاولته لإنعاش اقتصاد المملكة الذي يعاني من أزمة ثقة قد يكون هو شخصيًا من أوجدها.
معد التقرير الذي يعمل كمدير في “آلاكو” وهي شركة استشارية متخصصة في مجال الأعمال ومقرها لندن، أشار إلى أن ما قارب المليون (800 ألف) وافد غادروا السعودية خلال الفترة الأخيرة منذ تطبيق سياسة التوطين، مما خلق أزمة توظيف ألقت بظلالها على اقتصاد المملكة، كون الشباب السعودي من الجنسين كسالى وغير مهتمين بالعمل، مثلما اشتكت شركات سعودية.
الكاتب حمل ولي العهد مسؤولية ما أسماه “الهروب الكبير” الذي تزامن مع خروج الكثير من الاستثمارات الأجنبية، لافتًا إلى أن السعودية عانت بشدة من انهيار أسعار النفط (رغم كون ولي العهد السعودي من تبنى سياسة تخفيض الأسعار في حينه، حينما كان وليًا لولي العهد)، وهي تعاني الآن من هبوط حاد في الاستثمار الأجنبي وارتفاع مستويات هروب رؤوس الأموال إلى الخارج التي بلغت – وفق دراسات – 101 مليار دولار أي 15% من الناتج المحلي الإجمالي خلال 2017.
ما يقرب من مليون وافد غادروا السعودية في 2017
طموح غير مدروس
التقرير أوضح أن الخطط غير المدروسة لتحديث الاقتصاد التي اعتمدت عليها المملكة في إطار رؤيتها 2030 كان لها العديد من التداعيات السلبية، وهو ما اتضح مؤخرًا في معاناة الشركات والمؤسسات السعودية في ملء الوظائف في القطاع الخاص نتيجة الهجرة المتزايدة والمتسارعة للمغتربين.
في أواخر عام 2016 فقط غادر ما يزيد على 800 ألف مغترب الأراضي السعودية، وهو رقم ليس بالهين وله تداعيات سلبية على الاقتصاد، حسبما أشار محللون، ناهيك عن إمكانية استبدالهم بعمالة وطنية سعودية مؤهلة، وهي المعضلة التي كشفت التجربة تضخمها بشكل يضع اقتصاد المملكة على المحك.
كاري يرجع هروب المغتربين إلى محاولة ابن سلمان فطم البلاد عن ريع النفط من خلال التنويع الاقتصادي الذي يتجسد أحد عناصره المهمة في تحويل اهتمام المواطنين ليكون منصبًا على وظائف القطاع الخاص عوضًا عن البطالة المقنعة التي هي محور اهتمامهم المهني من خلال العمل بالوظائف الحكومية فقط.
هذه السياسة وما تلاها من تضييق الخناق على العمالة الأجنبية، سواء بفرض رسوم جديدة وضرائب باهظة، فضلًا عن طرد المئات من قطاعات بعينها، تهدف السلطات السعودية من خلالها إلى توفير 450 ألف فرصة للمواطنين في شتى قطاعات الدولة بحلول عام 2020، لكن مع التطبيق الفعلي على أرض الواقع جاءت النتائج مناقضة تمامًا لما تم اعتماده على الورق نظريًا.
تشير الإحصاءات إلى أن معدل البطالة في الربع الأول من 2018 وصل إلى 12.9%، مقارنة بنسبة 12.8% في الربع الأخير من 2017 و12.3% في الأشهر الـ3 الأخيرة من العام 2016
السعوديون “كسالى”
في تقرير نشرته صحيفة “سعودي غازيت” الناطقة باسم الحكومة السعودية التي عادة ما تحتوي على قصص مشرقة عن الحياة داخل المملكة متجنبة الولوج إلى الجوانب السلبية، كشفت أن عددًا من رؤساء الغرف التجارية والصناعية طالبوا الحكومة بإعفاء القطاع الخاص من السعودة خاصة الوظائف التي يصعب ملؤها، وسط مخاوف من كون العديد من الشركات ستغلق أبوابها، ويرجع ذلك إلى فقدان تلك الشركة الثقة في العمالة الوطنية السعودية بحسب “بيزنس إنسايدر”.
حزمة من الصعوبات تواجهها الشركات السعودية عند توظيف أبناء المملكة الذين اعتادوا العمل المتعثر في القطاع الحكومي ومزايا البطالة المقنعة السخية، فيما تشير تقارير أخرى إلى أن نسبة كبيرة منهم يرفضون عروض القطاع الخاص بسبب ما يعتبرونه وظائف ضعيفة الأجور وذات وضع متدنٍ.
التقرير نقل عن الكاتب السعودي محمد البسناوي المخاوف التي تعتري القطاع الخاص بشأن السعودة المفروضة وعواقبها المحتملة، خاصة بعدما بات لدى أرباب العمل قناعة بأن الشبان والشابات السعوديين كسالى وغير مهتمين بالعمل، وبالتالي هم ليسوا بإنتاجية عالية ويفضلون البقاء في المنزل عوضًا عن العمل بوظيفة منخفضة الأجر ولا تليق بوضعهم الاجتماعي كسعوديين.
وأضاف أنه نتيجة لذلك لجأت بعض الشركات للتحايل على شرط السعودة من خلال توظيف السعوديين ودفع رواتب صغيرة مقابل ما هو في الواقع وظائف وهمية، وهو ما يطلق عليه “السعودة الوهمية” التي خلقت جيلًا من الشباب والشابات غير المهتمين بالعثور على وظيفة ويفضلون الحصول على أموال مقابل عدم القيام بأي شيء.
ما قارب المليون (800 ألف) وافد غادروا السعودية خلال الفترة الأخيرة منذ تطبيق سياسة التوطين، مما خلق أزمة توظيف ألقت بظلالها على اقتصاد المملكة
التراجع ليس سهلًا
رغم ما أثير بشأن التراجع عن إستراتيجية السعودة لما لها من تداعيات سلبية على الاقتصاد الوطني، فإنه من غير المحتمل القيام بذلك في الوقت الراهن، ويعود ذلك للأموال التي تجنيها المملكة من وراء القرارات الأخيرة التي تهدف إلى تقليل العمالة الوافدة، حيث يستهدف ولي العهد نحو 17.33 مليار دولار من خلال الرسوم على الوافدين بحلول عام 2020، للمساعدة في معالجة عجز الموازنة – المتوقع أن يصل إلى 52 مليار دولار في 2018 – وتمويل مشاريع اقتصادية جديدة.
التقرير يرى كذلك أن لجوء ابن سلمان إلى اعتقال الأمراء وكبار رجال الأعمال لزيادة رأس المال بزعم مكافحة الفساد كان له نتائج عكسية في زعزعة ثقة المستثمرين الحاليّين والمحتملين في الاقتصاد السعودي، وهو ما أدى لخروج عشرات المليارات من الريالات من الممكلة في أقل من 6 أشهر.
حتى جولاته الخارجية التي يسعى من خلالها إلى تسويق نفسه كـ”مصلح “اجتماعي واقتصادي وحامل لواء العصرنة”، لم تحقق العائد المنتظر منها على مجتمع المال والأعمال، السعودي والغربي على حد سواء، وهو ما تترجمه الأرقام التي تشير إلى تراجع الاستثمارات الأجنبية المباشرة من 7.5 مليار دولار في عام 2016 إلى 1.4 مليار دولار في العام الماضي، وهو أدنى مستوى في 14 سنة حسب أرقام الأمم المتحدة.
شركات القطاع الخاص تصف العمالة السعودية بـ”الكسالى”
ارتفاع معدلات البطالة
من البديهي أن تنعكس سياسات تضييق الخناق على العمالة الوافدة بالإيجاب على العمالة الوطنية، إلا أن الواقع يقول عكس ذلك تمامًا، فرغم هروب ما يقرب من مليون مغترب خلال العام الماضي، بنسبة تقترب من 6% من إجمالي الوافدين، تشير الإحصاءات إلى أن معدل البطالة في الربع الأول من 2018 وصل إلى 12.9%، مقارنة بنسبة 12.8% في الربع الأخير من 2017 و12.3% في الأشهر الـ3 الأخيرة من العام 2016.
وبحسب بيانات هيئة الإحصاء فقد تراجع عدد الموظفين الأجانب في المملكة إلى 7.71 مليون فرد نهاية الربع الأول من العام الحاليّ مقابل 8.495 ملايين نهاية 2016، في المقابل صعد عدد الموظفين السعوديين إلى 1.76 مليون فرد مقابل 1.68 مليون في 2016، بزيادة محدودة بلغت 80 ألف وظيفة فقط.
كان يهدف الرجل إلى تفريغ الساحة أمام السعوديين، إذ به يصدم بأزمة وظيفية تهدد مستقبل عشرات القطاعات السعودية
بعض التقارير ذكرت أن معظم العمالة الأجنبية التي غادرت السعودية كانت تعمل بقطاعات الإنشاءات والتجارة والصناعة، مشيرة إلى أن هذه القطاعات تعرضت لخسارة كبيرة بسبب عدم وجود بدائل محلية مؤهلة، إضافة إلى أن العديد من محلات تأجير وبيع السيارات ومتاجر المجوهرات والذهب ومواد الإعمار والبناء أغلقت أبوابها بسبب نقص العمالة الأجنبية وعدم وجود عمالة محلية مناسبة.
خبراء أشاروا إلى أن نظام سعودة سوق العمل لا يمكن أن ينجح، لأنه على مدار عقود فشل نظام التعليم السعودي في تقديم خريجين مؤهلين للوظائف المطلوبة بسوق العمل التي يشغلها الأجانب، وأن الشركات الخاصة المحلية والدولية بالمملكة لا تزال تفضل العمالة الأجنبية لأن رواتبها منخفضة ولديها مهارة وقدرات مهنية إنتاجية عالية، بخلاف العامل السعودي الذي يريد رواتب مرتفعة وفي ذات الوقت لا يملك الخبرة والمهارة الكافية التي يتطلبها سوق العمل.
ومن ثم بات من الواضح أن سياسات ابن سلمان باتت تؤتي ثمارها بالشكل الذي يخالف كل توقعات المقربين منه، فبينما كان يهدف الرجل إلى تفريغ الساحة أمام السعوديين، إذ به يصدم بأزمة وظيفية تهدد مستقبل عشرات القطاعات السعودية، وهو ما يعني جرس إنذار لاقتصاد المملكة، دفع الحكومة ممثلة في وزارة العمل إلى دراسة خفض نسبة توطين العمالة في 12 نشاطًا مزمع توطينها اعتبارًا من سبتمبر المقبل من 100% إلى 70%.