انتهى مسار الديمقراطية فعليًا وفق الرؤية الأمريكية والإسرائيلية في فلسطين، فكل محاولات إنشاء الديمقراطية وتأثيثها فشلت بفشل مسار التنمية المتعارض تمامًا مع الديمقراطية في فلسطين. وفي ظل حراك جاريد كوشنير المبعوث الأمريكي لعملية السلام في الشرق الأوسط، فإن رزمة المشاريع الاقتصادية التي تدفع أمريكا لتنفيذها في غزة منفصلة عن الضفة يهدف لإنهاء إقامة دولة فلسطينية ذات سيادة سياسية واقتصادية، ويسعى لاستبدالها بمشاريع اقتصادية تقودها شركات خاصة في الضفة الغربية تحت حماية شركات أمنية خاصة، وفصل غزة بدولة مستقلة ذات امتداد مع مصر.
هنا يمكن القول إن الولايات المتحدة الأمريكية لا تبحث عن أي شراكة سياسية بين الاحتلال الإسرائيلي والسلطة الفلسطينية، فقد تم ترتيب تحويل الحياة السياسية إلى إدارة مدنية، بعيدًا عن المشاركة السياسية للفلسطينيين في الحياة الديمقراطية شبه المتوقفة بالضفة الغربية وغزة، بما يتضمن السيناريو القادم “عباس آخر رئيس فلسطيني، والسلطة ستتحول إلى شركات خاصة يقودها متنفذون سابقون في السلطة لتعزيز الحالة الاقتصادية بعيدًا عن طرح سيادة الدولة الفلسطينية”.
كيف يعمل النظام في الضفة؟
جيواقتصاديًا يمكن تقسيم الضفة الغربية إلى ثلاث بقع جغرافية، الشمال المتمثل بنابلس وجنين وطولكرم وما حولها حيث يعمل أكثر من 60% من العمالة الفلسطينية في الداخل المحتل، والجنوب المتمثل بأكبر المحافظات الفلسطينية (مدينة الخليل والقرى التابعة لها وما حولها) التي تربطها علاقة شراكة اقتصادية مع الاحتلال الإسرائيلي بعد ترتيب الوضع الاقتصادي بين العائلات والشركات الفلسطينية مع رجال أعمال وشركات تابعة للاحتلال الإسرائيلي، أما الوسط فهو مدينة رام الله والبيرة وبيت لحم، وهذه البقعة تمثل ثقل النظام السياسي في الضفة الذي تسيطر عليه السلطة ومنظمات المجتمع المدني، ويعمل غالبية الفلسطينيين فيها داخل مؤسسات السلطة الرسمية أو منظمات المجتمع المدني.
على مدار سنوات ما بعد الانقسام ظلت النخبة الاقتصادية المعولمة في الضفة الغربية في انفصال تام عن متطلبات الحالة السياسية الفلسطينية
جيوسياسيًا لا حضور في الضفة للمشاركة السياسية في أي انتخابات سياسية عدا انتخابات مجالس الطلبة في الجامعات، لكن شركات أمنية خاصة يقودها أحد أبناء الرئيس الفلسطيني محمود عباس تسيطر على الحالة الأمنية هناك، هذه الشركات تعمل بالتوافق مع المخابرات الإسرائيلية بما يضمن استقرار الحالة الأمنية على الدوام.
وقد شهدت الجامعات الفلسطينية اعتقالات متكررة لأعضاء مجالس الطلبة المنتخبين سواء من حماس والجهاد أم من اليسار بما يُوقِف أي نشاط سياسي داخلي للطلبة داخل الجامعات التي كانت تعتبر على الدوام خزان وقود الثورة الفلسطينية.
شركات وامتيازات خاصة منزوعة الدسم السياسي
على مدار سنوات ما بعد الانقسام ظلت النخبة الاقتصادية المعولمة في الضفة الغربية في انفصال تام عن متطلبات الحالة السياسية الفلسطينية، لصالح المصالح الاقتصادية الخاصة بها بالتعاون غير المشروع مع الشركات الاقتصادية الإسرائيلية، أو بعلاقات مشبوهة بين رجال أعمال في السلطة الفلسطينية مع رجال أعمال في الاحتلال الإسرائيلي.
ورغم الدور السابق للنخبة الاقتصادية الفلسطينية المعولمة في إتمام اتفاق أوسلو سياسيًا نتيجة لعلاقة كثير منهم بالشهيد الراحل الرئيس ياسر عرفات، أمثال منيب المصري وعبد المجيد شومان وحسيب صباغ، ظهرت ظروف نشأة النخبة الاقتصادية بعد أوسلو مختلفة تمامًا، فقد ولدت من علاقة غير شرعية بين السلطة والمال الفلسطيني مع الاحتلال الإسرائيلي، فكثير من قيادات السلطة الفلسطينية حاليًّا هم رجال أعمال ومسيّرين لصفقات مالية كبيرة مع الاحتلال الإسرائيلي، ابتداءً من شركة الإسمنت التي مولت مشروع جدار الفصل العنصري برئاسة أحمد قريع رئيس الوزراء الفلسطيني الأول وغيره، ويمتلك رجال من السلطة حاليًّا شركات وتجارة خاصة تتعاون مع الاحتلال الإسرائيلي يهدفون من خلالها لتعزيز الربح على حساب الحالة السياسية والاقتصادية الفلسطينية.
خطورة المشهد الفلسطيني في الضياع لا تقف عند نقطة الشركات الخاصة، بل تتعداه لارتباطات فردية من قيادات السلطة بأجهزة مخابرات عربية وأوروبية مختلفة
يعلم كثير من الفلسطينيين جيدًا علاقة رجال السلطة الفلسطينية بالمال، وتقاطعاته إسرائيليًا وعربيًا، وهو ما يؤهلهم للمرحلة القادمة من صفقة القرن عبر شركات اقتصادية خاصة مملوكة لهم في الضفة الغربية وعابرة خارج فلسطين، وهو ما تسعى له أمريكا والاحتلال الإسرائيلي، شركات اقتصادية خاصة وشركات أمنية خاصة، تقود حالة الإدارة المدنية القادمة بالضفة بعيدًا عن شكل السلطة ومتطلبات الفلسطينيين السياسية.
خطورة المشهد الفلسطيني في الضياع لا تقف عند نقطة الشركات الخاصة، بل تتعداه لارتباطات فردية من قيادات السلطة بأجهزة مخابرات عربية وأوروبية مختلفة، فكثير من رجالات فتح والسلطة في الضفة تربطهم علاقة شخصية بأجهزة مخابرات عالمية عربية ودولية، ويعملون ضمن أجندة محددة ومتفردة لا يخرجون عن مسارها.
أما عن قرار فتح فقد بات متفردًا بشخص الرئيس الفلسطيني محمود عباس، ولك أن تتخيل عدم مقدرة عضو في اللجنة المركزية لحركة فتح، أو في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير أن يتخذ قرارًا صغيرًا يقضي بتوظيف أحد أو رفع الحظر الإسرائيلي عن شخص فلسطيني، حيث أصبح دورهم وهميًا، لا يملكون من قراراهم شيئًا سوى اتباع مسار أمني واضح لضمان استمرارية مصالحهم الاقتصادية، كما تقول مصادر في داخل السلطة الفلسطينية نفسها لـ”نون بوست”.
يمكن الرجوع أكثر لدور النخبة الاقتصادية المعولمة في المشهدين السياسي والاقتصادي لكل من الكاتب ساري حنفي وليندا طبر في كتاب “بروز النخبة الفلسطينية المعولمة”، وكذلك الكاتب الخبير في التنمية الفلسطينية خليل نخلة في كتابه “فلسطين وطن للبيع”، لمعرفة دور النخبة الاقتصادية في المشهد السياسي، وكيف عزز الاحتلال الإسرائيلي النخبة الاقتصادية بمعزل عن السياسة لتأهيلها للمشهد الاقتصادي القادم.
فياض اختفى لفترة طويلة عن المشهد السياسي الفلسطيني، لكن فكره الليبرالي في خصخصة المؤسسات الفلسطينية تلاقى تمامًا مع ما يطرحه ترامب في خطة السلام الاقتصادي الجديدة
عاد فياض سريعًا بأمر أمريكي أوروبي
عاد فياض بشكل مفاجئ للمشهد السياسي الفلسطيني بعد لقاء جمعه بالرئيس عباس بعد أكثر من 8 أعوام من القطيعة، وطرح الرئيس الفلسطيني محمود عباس أن يقود سلام فياض حكومة الوفاق الوطني في 2012 لكن فيتو حمساوي حال دون حضور جديد لفياض في المشهد السياسي الفلسطيني بعد موقفه من الانقسام المضاد لغزة والوحدة الفلسطينية، والمعروف عنه صاحب مشروع “مارشال فلسطين” الذي فشل لعدم سيطرة السلطة سياديًا على الحدود لإنماء حركة الصادرات والواردات.
فياض الذي تولى وزارة المالية في يونيو 2002 حتى نوفمبر 2006، وعين رئيسًا للوزراء في مارس 2007 حتى مايو 2009، اختفى لفترة طويلة عن المشهد السياسي الفلسطيني، لكن فكره الليبرالي في خصخصة المؤسسات الفلسطينية تلاقى تمامًا مع ما يطرحه ترامب في خطة السلام الاقتصادي الجديدة عبر تحويل السلطة إلى شركات خاصة كرافعة للوضع الاقتصادي في الضفة وغزة، بعد نزعها من إطارها السياسي للسلطة الفلسطينية أو العملية السياسية، لكن اللقاء الأخير الذي جمعه بالرئيس الفلسطيني محمود عباس طارحًا عليه الأزمات الاقتصادية التي تعاني منها السلطة قد يظل في مهب الريح في ظل عدم موافقة حماس على أن يتولى الشخص أي منصب سياسي.
لن يخلو المشهد الاقتصادي القادم لفلسطين من باثولوجيا الشركات الخاصة التي ستفرض سيطرتها على الوضع بشكل تام، بما يتوافق مع الاستقرار الأمني للاحتلال الإسرائيلي
على المستوى الاقتصادي سعى فياض لخصخصة مؤسسات السلطة، وقد نجح في تقليل الدين العام للسلطة في عهده على حساب الدين الخاص للأفراد “المديونية الفردية”، الذي ارتفع مع تسهيلات الإقراض الممنوحة للفلسطينيين هناك، التي لعبت دورًا سلبيًا في إغراق الأُسر والأفراد بقروض تفوق قدرتهم على السداد.
في الختام لن يخلو المشهد الاقتصادي القادم لفلسطين من باثولوجيا الشركات الخاصة التي ستفرض سيطرتها على الوضع بشكل تام، بما يتوافق مع الاستقرار الأمني للاحتلال الإسرائيلي، وتحويل الفلسطينيين هناك إلى عمالة دائمة داخل مصانع ومقرات الشركات الاقتصادية الجديدة العابرة بشكل من الإذلال الجديد بعيدًا عن الطموح السياسي ومتطلبات السيادة والتحرر، وبشكل استعماري جديد يلعب فيه الفلسطيني الجديد ما بعد مشروع دايتون الأمني، إلى مشروع كوشنير الاقتصادي بعقلية دايتون التي تم بناؤها في الضفة على مدار سنوات سابقة.
إذًا لا سلطة ولا ديمقراطية ولا سيادة اقتصادية أو سياسية بل شركات اقتصادية خاصة يعمل فيها الفلسطينيون كموظفين وعمال في المصانع ويذوبون فيها بعيدًا عن الطموح السياسي، وإدارة الأزمات الاقتصادية بمكابح المشاريع الاقتصادية بما يمنع انهيار الضفة كما غزة، وتحويلها إلى كارثة إنسانية تفجر الوضع هناك.