قررت وزارة الشؤون الدينية والأوقاف الجزائرية تجميد عمل الجمعيات الدينية تحت حجة حماية المساجد من أفكار المتطرفين والمتشددين، لكن القرار أثار جدلًا بشأن خلفياته إن كان الأمر يتعلق فعلًا بصيانة عقيدة الجزائريين أم أنه رغبة من الوزارة في الحد من سلطة الجمعيات المسجدية التي تملك صلاحيات تسيير المساجد، وحتى الوقوف ضد قرارات الإمام المعين من طرف الوزارة في حال رأت أنه خالف المهمة المكلف بتنفيذها.
ووعدت الحكومة الجزائرية منذ 2012 بسن قانون جديد خاص بالجمعيات الدينية بعد تعديل قانون الجمعيات وقتها، إلا أن هذا الوعد بقي مجرد حديث يكرره مسؤولو وزارتي الداخلية والشؤون الدينية حتى اليوم.
بالنسبة لوزير الشؤون الدينية محمد عيسى الذي يخوض حربًا على جميع الجبهات منذ توليه هذا المنصب في 2014، فإن قرار التجميد جاء “من باب الحفاظ على هيبة المسجد التي قال بشأنها إنها خط أحمر” على حد وصفه.
وفي الوقت نفسه، أوضح عيسى أن “تجديد الجمعيات الدينية المسجدية باتَ يشكِّلُ خطرًا على السادة أئمة المساجد، وأصبح يتمُّ في جوٍّ من الفوضى والتجاذب وانتهاكِ حرمة المسجد وإذهابِ هيبة إمامه”. ولفت الوزير إلى أن الجمعية الدينية المسجدية أو اللجنة الدينية هي هيئة أنشأها القانون الجزائري، وتضطلع في المسجد بمهام ننزه عنها الإمام الذي نريده وريث منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
تحاول الجزائر في السنوات الأخيرة التصدي لما يسميه محمد عيسى “الحملات الخارجية التي تستهدف المرجعية الدينية لبلاده، في محاولة منها لعدم العودة لما عاشته في التسعينيات”
وأضاف الوزير قائلاً: “وإذا كانت محاولات اختراق هذه الجمعيات من طرف متشددين دفعتنا إلى تجميد تجديد ما انتهت عهدتها من هذه الجمعيات، إلى غاية وضع الضمانات الحقيقية التي تحمي السيّد الإمام وتحفظ كرامته وتصون هيبة مسجده”. مردفاً: “إننا مقتنعون أن إعادة رسم حدود الصلاحيات بين السيّد الإمام الذي يعتبر المسؤول الأول والأخير عن المسجد والجمعية الدينية المسجدية باعتبارها هيئة تضطلع ببناء وصيانة وتوسعة المسجد أصبح أمرًا لا بدّ منه، حتى لا تتغوَّلَ هذه الجمعيات على الإمام من جهة وحتى لا يضطر الإمام إلى التعامل مع أموال التبرعات ومواد البناء فيتجرأ عليه العامّة”.
وتحاول الجزائر في السنوات الأخيرة التصدي لما يسميه محمد عيسى الحملات الخارجية التي تستهدف المرجعية الدينية لبلاده، في محاولة منها لعدم العودة لما عاشته في التسعينيات أو ما أصبح يعرف باسم “العشرية السوداء” التي قتل فيها أكثر من 200 ألف شخص.
وخاضت البلاد منذ مطلع الألفية الحاليّة بعد تحسن الأوضاع الأمنية حربًا ضد جملة من الحملات التبشيرية التي تستهدف عقيدة شعب يشكل المسلمون السنّة فيه أكثر من 99% حسب إحصاءات غير رسمية.
وتعرضت الجزائر لحملة تنصير مع مطلع الألفية قادها الإنجيليون الجدد الذين كانت نظرتهم وقتها تتوافق مع نظرة الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن، وبعد خمود هذه الحملة ظهرت حملات طائفية تتمثل في تحريض الجزائريين على التشيع ثم ظهور جماعات الأحمدية والكركرية، وهي حملات تقول الحكومة إنها ليست بريئة إنما تحركها أطراف داخلية تستهدف المذهب السني للجزائريين.
لم يحدد وزير الشؤون الدينية التاريخ الذي سترفع فيه الوزارة التجميد عن نشاط هذه الجمعيات، وأوضح أن الأمر متروك إلى إشعارٍ لاحق
لكن تصدي الحكومة لهذه الحملات جعلها محل انتقاد من طرف منظمات غير حكومية ومن الخارجية الأمريكية التي تنتقد كل عام في تقريرها السنوي قانون الشعائر الدينية، بحجة أنه يحد من حرية المعتقد لغير المسلمين رغم أنه يطبق على المسلمين أيضًا.
إلى إشعار لاحق
لم يحدد وزير الشؤون الدينية التاريخ الذي سترفع فيه الوزارة التجميد عن نشاط هذه الجمعيات، وأوضح أن الأمر متروك إلى إشعارٍ لاحق. وأضاف أنه “وفِي انتظار إصدار نص جديد يضبط هذه العلاقة، فإن النص الساري به العمل منذ 1999، وهو قرار وزاري مشترك بين وزارة الداخلية والجماعات المحلية ووزارة الشؤون الدينية صدر في نفس الظروف التي نعيشها اليوم، وإليه يتم الاحتكام في حال تداخل المهام والصلاحيات”.
ويراهن الوزير على إصدار قانون الجمعيات الدينية الذي يخرج جمعيات المساجد من الإجراءات العادية المتعلقة بإنشاء الجمعيات، وذلك بتضمين القانون مواد تحدد خصوصية الجمعية التي تقوم بتسيير شؤون المسجد.
وتحدد القوانين الحاليّة على أنه لا يُبنى أي مسجد إلا بعد إنشاء جمعية تتابع عملية إنشائه من اختيار الأرضية إلى بداية إقامة الصلاة فيه، وتضطلع الجمعية بجمع التبرعات وتوزيع الصدقات كزكاة الفطر. ويتخوف مراقبون من أن يعرقل هذا التجميد للعمل الخيري للمساجد، إلا أن الوزير أكد أن “أبناء الجزائر لن يتوقفوا عن تشييد بيوت الله، ولن تمنع الدولة جمع التبرعات في المساجد”.
برأي مراقبين، فإن تجميد نشاط الجمعية المسجدية لن يوقف الفوضى التي تحدث في بعض المساجد، وتسببت أحيانًا في الاعتداء على أئمة كلفتهم حياتهم، لأن سبب ذلك يعود في الأساس إلى الفتاوى التي يلتقطها الجزائريون من هنا وهنا
وإن كانت الوزارة تأمل من هذا الإجراء أن يضع حدًا للتصادم بين الأئمة والجمعيات المسجدية، فإن الكثيرين يتخوفون من أن يكون للقرار نتائج عكسية تتمثل في إبعاد المسجد عن مكانته وسط الجزائريين، وأن يتسبب في تقليص دور المجتمع المدني، بالنظر إلى أن هذه الجمعيات تقوم في كثير من الحالات بالصلح بين المتخاصمين والاحتفال بالمناسبات الدينية مع المواطنين خاصة في المدن المحافظة والريفية.
فوضى الإفتاء
برأي مراقبين، فإن تجميد نشاط الجمعية المسجدية لن يوقف الفوضى التي تحدث في بعض المساجد، وتسببت أحيانًا في الاعتداء على أئمة كلفتهم حياتهم، لأن سبب ذلك يعود في الأساس إلى الفتاوى التي يلتقطها الجزائريون من هنا وهناك، في غياب هيئة رسمية ذات مصداقية تعنى بالإفتاء للجزائريين.
ولا يعرف الجزائريون إلى أي جهة يتوجهون للسؤال عن أمور دينهم ودنياهم، في ظل عدم وجود مفتي للجمهورية، فيتبع بعضهم ما يفتى به في دول أخرى، لكن تعيب الحكومة على هؤلاء أنهم يأخذون الفتوى من شيوخ ليسوا مطلعون كما ينبغي بواقع الجزائريين، ويعتمد البعض الآخر على فتوى أئمة المساجد الذين توجه لبعضهم اتباع فكر أو جهة معينة سلفية أو إخوانية أو إباضية وغيرها.
ورغم رفع وزراء الشؤون الدينية المتعاقبون على هذا المنصب في السنوات الأخيرة مشروع مفتي الجمهورية للرئيس بوتفليقة في أكثر من مرة، فإن طلبهم ظل حبيس الأدراج. وحاول الوزير الحاليّ محمد عيسى إيجاد صيغ أخرى لحل مشكلة الإفتاء بتنشيط مجالس العلم الولائية، وإعلان إنشاء مجلس علمي وطني يتكون من مجموعة من علماء الجزائر يصدر فتاوى بشأن القضايا التي تهم الشأن العام، إلا أن هذه الخطوة لم تجد مصيرًا للتجسيد حتى الآن.
وحتى يجد هذا المشروع التنفيذ، تبدو خطوة وزارة الشؤون الدينية في إيقاف حملات المتشددين على المساجد بتجميد الجمعيات غير فعالة في زمن اتخذ المتطرفون من منصات مواقع التواصل الاجتماعي منبرًا لنشر أفكارهم، ومن ثم بات التصدي لهذه الأفكار يتطلب آليات جديدة لا تتوقف عند تجميد نشاط جمعية ما.