“للأسف غير موجود..” عبارة تتكرر بكثرة داخل الصيدليات في مصر، ردًا على الوصفات الطبية التي يطلب المرضى صرفها للحصول على العلاج المطلوب، وعند الاستفسار عن أسباب غيابه في الأسواق، فلا أحد يملك الجواب.
نقص الدواء، إحدى أكبر الأزمات التي تؤرق حياة المصريين، إذ تهدد صحتهم، لا سيما أصحاب الأمراض المزمنة الذين يتجاوز عددهم عشرات الملايين (20 مليون مريض قلب و11 مليون مريض سكري وأكثر من 9 ملايين مريض ربو “جهاز تنفسي”) ويمثلون نحو 84% من إجمالي الوفيات في مصر.
ومن يفلت من فخاخ الندرة يجد نفسه أمام مأزق الأسعار التي قفزت بنسب غير منطقية، وهنا يجد المريض نفسه بين خيارين أحلاهما مر: إما توفير ثمن الدواء عن طريق الاستدانة أو المزيد من التقشف في ضروريات الحياة، وإما الامتناع عن شراء العلاج حتى لو كان المقابل تعريض حياته للخطر.
وبين ندرة الدواء وارتفاع أسعاره لمستويات جنونية في ظل تهرب الجميع، حكومة وشركات أدوية وصيدليات، من المسؤولية وإلقاء كل طرف للكرة في ملعب الآخر، تتفاقم أزمة العلاج في مصر، الأمر الذي دفع الكثير من المرضى للبحث عن بدائل، أقل ما يقال عنها إنها مدمرة وكارثية، فمن يتحمل الفاتورة الباهظة لتلك الأزمة؟
من أين تبدأ الأزمة؟
تكمن أزمة الدواء بمصر في منظومة الصناعية لهذا العنصر الحيوي الذي لا يقل في أهميته عن سلع الأمن القومي التقليدية، وهو ما يمكن الوقوف عليه من خلال بعض المؤشرات المحورية العامة:
أولًا: اعتماد المنظومة بأكملها على الاستيراد من الخارج، فرغم الأرقام الرسمية التي تقول إن 90% من الأدوية يتم صناعتها في مصر بينما يُستورد 10% فقط، فإن الواقع يشير إلى أن الغالبية العظمى من المواد الداخلة في صناعة الـ90% من الأدوية المصنعة بمصر في حقيقتها هي مواد مستوردة من الخارج، ما يعني أن صناعة بهذا الحجم (بلغت تجارة الأدوية خلال عام 2023 نحو 140 مليار جنيه مصري ما يعادل 4.516 مليار دولار أمريكي) مرهونة في الأساس بالعامل الخارجي.
ثانيًا: يخضع الدواء في مصر لما يُعرف بـ”التسعيرة الجبرية” وهي عبارة عن سعر إجباري تضعه الحكومة للسلع الاستراتيجية المهمة التي لا يجوز التخلي عنها ولا تُترك لقوى العرض والطلب السوقية، وعلى شركات الأدوية الالتزام بتلك التسعيرة دون أي تجاوز، ومع تفاقم أزمة ندرة الدولار في البنوك المصرية والفجوة الكبيرة بين سعره الرسمي وسعره في السوق السوداء، فشلت الكثير من الشركات في توفير السيولة الدولارية لاستيراد الأدوية والمواد الداخلة في صناعتها من الخارج.
ثالثًا: حالة الصراع المستمرة والعلاقة التشابكية المعقدة بين الثلاثي المتحكم في تلك الصناعة، الحكومة وشركات الأدوية والصيدليات، حيث غياب التنسيق بين الأطراف الثلاث، وإلقاء كل طرف المسؤولية في ملعب الآخر، ومحاولة بعضهم اللعب منفردًا بين الحين والآخر لتقليل الخسائر وزيادة الأرباح.
الجميع عرضة للخطر
“من أصعب اللحظات التي تمر عليّ في حياتي حين يأتي مريض تبدو عليه علامات المرض والمعاناة، يسألني عن دواء معين ولا أستطيع توفيره، لا سيما أصحاب الأمراض المزمنة، فهم الأكثر ألمًا وقهرًا”، بهذه الكلمات عبّر الصيدلي إسلام حسين عن معاناته الشخصية بسبب عجز المرضى عن توفير الدواء، أحد الحدود الدنيا لحقوق الإنسان.
ويضيف حسين لـ”نون بوست” أنه في إحدى المرات عرض عليه مريض “رشوة” لتوفير أحد أدوية علاج الضغط غير المتوفرة، لدرجة أن الرجل بكى أمامه بسبب عدم العثور على هذا الدواء بالنسبة له والذي بسببه تستمر المعاناة والألم، لافتًا إلى أنه لولا تقديره لشعور المريض وحالته الحرجة لكان رد فعله مغايرًا، موضحًا أن الرجل أخبره بأنه منذ 12 يومًا لم يستطع سوى توفير علبة واحدة فقط من هذا الدواء رغم حاجته الشهرية لأكثر من 5 علب.
فيما يقسم المهندس السيد عيد أنه على مدار أسبوعين كاملين لم يستطع العثور على علبة واحدة من أحد أدوية علاج الغدة الدرقية التي تعاني منها زوجته، رغم ذهابه لكبريات الصيدليات في مصر ذات الأسماء الرنانة، ما اضطره في نهاية الأمر إلى مخاطبة صديق له في إحدى دول الخليج لشراء العلاج وإرساله إليه في مصر، مؤكدًا أن الوضع وصل إلى أصعب مراحله، فالمرء قد يتحمل الجوع والعطش لكن من المحال أن يتحمل المريض غياب الدواء اللازم خاصة إن كان مريضًا مزمنًا، هكذا يقول في حديثه لـ”نون بوست”
وأوضح المهندس المصري أن كل الصيدليات اليوم، بلا استثناء، تعاني من أزمة ندرة الدواء، وأن المعروض بداخلها حاليًا في معظمه مستحضرات تجميل ومواد طبية تكميلية غير حيوية، منوهًا إلى أن الأدوية التي كانت متوفرة بكثرة لعلاج الصداع وارتفاع درجات الحرارة والأمراض الجلدية، والأخرى الخاصة بالأطفال التي كانت تملأ أرفف الصيدليات، ما عادت موجودة، مضيفًا “إن لم يتحرك المسؤولون اليوم قبل الغد فالكارثة ستكون مفجعة”.
الدولار.. السبب الرئيسي لكنه ليس الوحيد
ليس هناك إحصاء رسمي عن حجم نقص وندرة الأدوية التي تعاني منها الصيدليات المصرية، لكن بعض التقديرات تشير إلى أن هناك نقصًا في 40% تقريبًا من الأدوية في السوق، وأن أكثر من 1000 نوع من أدوية السكر والضغط والمضادات الحيوية تعاني من غياب شبه تام، بحسب تصريحات رئيس شعبة الأدوية باتحاد الغرف التجارية، علي عوف.
يرجع هذا النقص في المقام الأول إلى الدولار، حيث الارتفاع الكبير أمام الجنيه، ونقصه بشكل دائم في البنوك لتمرير اعتمادات الاستيراد من الخارج، فقبل عام 2017 كانت شركات الأدوية تحصل على اعتمادات دولارية من البنوك بسعر الدولار 18 جنيهًا، ثم قفزت إلى 30 جنيهًا في 2018، وصولًا إلى 48 جنيهًا اليوم، وربما تصل في السوق السوداء إلى أكبر من هذا الرقم.
نتيجة لهذا الارتفاع الكبير في سعر الدولار، بسبب السياسات النقدية والمالية التي أدت إلى انهيار العملة المحلية لمستويات غير مسبوقة في تاريخها، زادت أسعار الأدوية بنسب تتراوح بين 30-70% في المتوسط، مع وجود طفرة هائلة في أسعار بعض الأدوية الأخرى التي وصلت نسب الارتفاع بها إلى أكثر من 200%، وهو ما انعكس بطبيعة الحال على المرضى واستهلاكهم للأدوية.
لم يكن الدولار هو السبب الوحيد وراء أزمة الدواء في مصر، فهناك محور آخر لا يقل أهمية، يتعلق بعدم قدرة الإنتاج المحلي المصري من الأدوية على تلبية احتياجات المصريين، رغم الطفرة التي شهدتها صناعة الدواء في مصر، بحسب ما ذكره أستاذ الصيدلة بجامعة جون هوبكينز، محمد درويش، لموقع “الحرة” حيث أشار إلى أن عدد مصانع الأدوية المرخصة في مصر ارتفعت من 130 مصنعًا بإجمالي 500 خط إنتاج في عام 2014، إلى 191 مصنعًا تمتلك 799 خط إنتاج في الفترة الحالية، بنسبة نمو 37% في عدد المصانع، و60% بخطوط الإنتاج، حسب هيئة الدواء المصرية، وهذا لا يكفي حتى لتغطية السوق المحلي، والأزمة الموجودة على الأرض هي أكبر دليل.
وأضاف الخبير الصيدلي الذي يعمل بين أمريكا ومصر: “قيمة الواردات المصرية من الأدوية والمستحضرات الصيدلية بلغت خلال الربع الأول من 2024 نحو 751 مليون دولار، في حين بلغت قيمة الواردات نحو 3.6 مليار دولار في 2023، بحسب بيانات نشرة التجارة الخارجية”، لافتًا إلى أن هذا التراجع بسبب سعر الدولار المرتفع أمام الجنيه وليس تراجع استهلاك المصريين من الدواء.
أما نقيب صيادلة الجيزة، نجوى هاشم، فترجع الأزمة إلى طبيعة عمليات توزيع الأدوية في مختلف أنحاء مصر، لافتة في تصريحاتها لـ”بي بي سي” إلى أن الشركات المنتجة لا توزع الأدوية على الصيدليات لبيعها للجمهور، لكن على مخازن الأدوية الكبرى، التي تحتكر أغلبها ولا توزعها إلا عبر وسائل خاصة بها مثل صفحات الإنترنت، أو عبر السوق السوداء لتحقيق عائد ربحي أكبر، وذلك في غيبة عن رقابة الدولة، مبرئة بذلك الصيدلي من مسؤولية تفاقم الأزمة، حسب ما يردده البعض.
وأضافت هاشم: “حتى ما تقوم بتوزيعه على الصيدليات توزعه دون نسبة خصم، أي أن الصيدلي يشتري الدواء بسعره، ويقوم ببيعه بالسعر نفسه، دون الحصول على هامش ربح”، موضحة أن تلك الأزمة وهذا السبب أسفر في النهاية عن “إغلاق عشرات الصيدليات في نطاق عملها بمحافظة الجيزة، بسبب تراكم المديونيات وتآكل رأس المال”.
إدارة مثيرة للجدل لهذا الملف
دومًا ما تلجأ الحكومة المصرية في تعاملها مع مثل تلك الأزمات إلى الحل السهل، رفع الأسعار وإلغاء الدعم، فتلك هي الاستراتيجية التي تتعامل بها منذ عقد تقريبًا، حيث ارتفعت أسعار السلع والخدمات لمستويات وصلت في بعض الأحيان أكثر من 1000%، وذلك جراء السياسات الاقتصادية المتبعة التي تصر عليها الحكومة رغم ثبوت فشلها والزج بالملايين من المصريين إلى مستنقعات الفقر والعوز.
خلال الأشهر الماضية خرج رئيس الوزراء المصري، مصطفى مدبولي، ليؤكد أن حل أزمة الدواء في مصر يتطلب أولًا رفع أسعار الدواء وتسعيره بالشكل العادل الذي يرضي شركات الأدوية، حيث أعلن عن رفع سعر نحو 3 آلاف صنف، تمثل نحو 90% من حجم سوق التداول الدوائي بالسوق المصرية، ودخل بالفعل هذا القرار حيز التنفيذ يونيو/حزيران الماضي، على أن تستمر تلك الزيادات بشكل تدريجي خلال الأشهر المقبلة، وذلك وفق اتفاق بين هيئة الدواء المصرية المسؤولة عن التسعير، وغرفة صناعة الدواء المسؤولة عن الصناعة.
وفي خضم الأزمة، فوجئ الجميع بوزير الصحة والسكان، خالد عبد الغفار، يعلن عن تصدير مصر الأنسولين المحلي لأمريكا الجنوبية، مبررًا ذلك بأن الكمية التي تم تصديرها عبارة عن شحنة واحدة فقط، وهو ما يتناقض مع تصريحات الوزير ذاته في مارس/آذار الماضي حين كشف عن تصدير ما بين 12 إلى 18 مليون ڤيال سنويًا إلى 11 دولة إفريقية (بالإضافة إلى كوبا)، وهو ما أدى إلى رفع قيمة الصادرات المصرية من الأدوية ومستحضرات الصيدلة خلال شهر فبراير/شباط 2024 بنسبة 28.8% لتسجل 30.3 مليون دولار، مقابل 23.5 مليون دولار خلال نفس الشهر من العام الماضي، وفقًا لنشرة التجارة الخارجية الصادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء.
أثارت تلك الخطوة سخط وغضب المصريين، إذ كيف للحكومة، وقرابة 11 مليون مريض سكري في البلاد يعانون من نقص الأنسولين، أن تقوم بتصديره حتى لو كانت كميات قليلة؟
يعكس هذا المشهد كيفية إدارة الدولة لهذا الملف وتجاهلها لمعاناة الملايين من المرضى المصريين مقابل حفنة من الدولارات تدخل خزانة الدولة لسد جزء من العجز الناجم عن السياسات الخاطئة الممارسة على مدار سنوات، وهو الأمر ذاته المطبق في قطاعات الكهرباء والغاز وغيرها، ليجد المواطن، المريض والمحتاج من محدودي ومتوسطي الدخل، نفسه من يدفع فاتورة الفشل على المستويات كافة.