يلجأ علماء النفس والأطباء النفسيين لاستخدام “نظرية الارتباط العاطفيّ” كأفضل طريقة لتفسير كيفية تطوير القدرة على تكوين علاقات الفرد مع الآخرين والارتباطات بينهم. وتؤكد أن الأساليب التي نستخدمها للارتباط مع الآخرين والاتصال بهم وإدارة احتياجاتنا المتعلقة بهم والتعبير عن مطالبنا وتشكيل توقعاتنا منهم ومن العالم حولنا، جميع هذه الأشياء متجذرة بالأساس في علاقاتنا مع والديْنا، أو مع ما سمّاهم عالم النفس “جون بولبي” باسم “مقدّمي الرعاية” في وقتٍ مبكّر من مراحل حياتنا.
يولد الطفل عاجزًا فيحتاج الارتباط مع والديه كحاجةٍ أساسية ملحة توفّر له قاعدة آمنة لنموّه وخبرته، تُبنى عليها فيما بعد نظرته لنفسه ولما حوله وعلاقاته بالآخرين
ومن خلال هذه الأساليب، نتعلم كيف نوازن مشاعرنا وحالاتنا العاطفية مع الآخرين، كما نتعلّم كيف ننشئ درجات متفاوتة من الاستقلال والاعتماد والقوة والسيطرة، وتؤثر أيضًا على تقدير الذات ورؤية النفس وصورتها. يرى بولبي في نظريته الشهيرة أنّ الطفل يولد عاجزًا فيحتاج الارتباط مع والديه كحاجةٍ أساسية ملحة توفّر له قاعدة آمنة لنموّه وخبرته، تُبنى عليها فيما بعد نظرته لنفسه ولما حوله، وتساعده في استكشاف عالمه الخارجيّ بطرقٍ صحية ذهنيًا وعاطفيًا ونفسيًا.
وباختصار، هنالك ثلاثة أنماط أساسية للارتباط؛ الارتباط الآمن “secure attachment” حيث تكون علاقة الطفل بأبويه متزنةً ومستقرة بشكلٍ منظم، يلجأ إليهما متى ما احتاج إليهما فيجدهما أمامه. والارتباط القَلِق “anxious attachment” حيث تكون العلاقة مضطربة يحضر فيها الارتباط حينًا ويغيب أحيانًا أخرى، دون أنْ يحكم علاقة الطفل بأبويه استقرار عاطفيّ واستجابات مفهومة ومتوقعة. أما في الارتباط التجنّبي “avoidant attachment“، يغيب الوالدين أو الأم عن دائرة العلاقة التي تتسم بكونها باردة جافة، فيكونان عاجزيْن عن مدّ طفلهما بحاجاته النفسية والعاطفية الأساسية.
ونظرًا لأنّ السينما كوّنت علاقةً حميمةً مع علم النفس على مدى العقود الماضية، فلا عجبَ أنّ العديد من الأفلام نجحت نجاحًا كبيرًا في تناول أثر الارتباط العاطفيّ على شخصية الأفراد وعلاقاتهم الاجتماعية والعاطفية في مراحل حياتهم المختلفة. ففي “Fathers and Daughters” على سبيل المثال، وعلى الرغم من عنوان الفيلم، فهو يركّز فقط على أبٍ واحدٍ وابنة واحدة، من خلال طرح فكرةٍ واحدة: تجارب طفولتك وطريقة ارتباطك مع والديك يحدّدان الطريقة التي ستتشكّل فيها علاقاتك وأفعالك في مرحلة البلوغ، ولنكونَ أكثر دقةً فيمكننا القول أنهما يلعبان دورًا كبيرًا ورئيسيًا في تلك الطريقة.
فيلم “Fathers and Daughters”
أما فيلم “The Piano Teacher” لمايكل هانيكيه، فهو قصة عن علاقة مرضية بين الأم وابنتها نشأت بشكلٍ واضح نتيجة خللٍ في الارتباط العاطفيّ. “إريكا” عازفة بيانو تبلغ من العمر 36 عامًا تعيش في منزلٍ واحد مع والدتها التي أنجبتها عندما كانت في منتصف العمر، أيْ أنّ الأمّ كبيرة بما يكفي ليُعتقد أنّها الجدة وليست الأم. ناهيك عن غياب الأب بعد الولادة مباشرةً، لتأخذ الأم مكانه وتصبح الأب في نفس الوقت.
تصبح إريكا المعيل الوحيد للعائلة لاحقًا، لكنها لا تستطيع خوض أي مغامرة خارج نطاق العشّ الذي يجمعها مع والدتها. وجديرٌ بالذكر أنهما تتشاركان نفس السرير في البيت، كدليلٍ واضحٍ على عدم صحة العلاقة بين الأم وابنتها، فالأمّ لا تزال تتحكم بالابنة وتنظر إليها وكأنها ليست كائنًا مستقلًا عنها أبدًا، والابنة مربوطة بأمها بشكلٍ غير مفهوم يجعلك تتساءل عن السبب الذي يجعلها تحافظ على شكل حياتها هذا.
فيلم The Piano Teacher
تنعكس هذه العلاقة الغريبة على حياة إريكا بأكملها، بتصرفاتها وأفكارها وعواطفها وعلاقاتها الاجتماعية والجنسية لاحقًا كما يبان لنا بعلاقتها مع طالبها في المعهد. وعلى كلّ حال، فالفيلم يطول الحديث عنه، وقد نتطرّق إليه لاحقًا، لكنْ مما لا شكّ أنه واحد من الأفلام القوية الذي تناول استطاع أنْ يمسك بأحد أطراف نظرية بولبي في الارتباط العاطفي ومناقشتها، فهانيكيه يستطيع النجاح بذلك في النهاية.
ويل جود هانتينغ: يمكن للعاطفة الآمنة لاحقًا أن تغيّر الارتباط غير الآمن
“ويل جود هانتينغ” مثال رائع على الكيفية التي يؤثر بها أسلوب الارتباط العاطفيّ على حياة الفرد بأكملها، ومع ذلك يمكن تغييره عن طريق بناء ارتباطات آمنة في البيئة المحيطة له. وقد يكون أهمّ ما يصل إليه الفيلم هو أنّ أنماط الارتباط العاطفي التي نصّت عليها النظرية وتطوّرت فيما بعد، لا تميل لأنْ تكون ثابتة ومستقرة طوال مراحل الحياة
“ويل” لديه اضطراب الارتباط الكلاسيكي، أساء والداه معاملته عندما كان صغيرًا وبالتالي فيجد في شبابه صعوبةً في تطوير علاقات ذات معنى ومعزى وتتصف بالاستقرار مع البالغين من حوله، سواء العلاقات الاجتماعية أو العاطفية. ليس لديه أي تعاطف مع أشخاص خارج مجموعة أصدقائه المقربين جدًا، ولا يستطيع إدارة مشاعره الأساسية مثل الغضب، والوسيلة الوحيدة لحلّ خلافاته مع الآخرين هي الهجوم والاعتداء الجسديّ أو اللفظيّ.
وبالتالي، فإنّ غضبه هو واحد من العديد من أساليب الدفاعات النفسية التي يلجأ إليها لإخفاء مشاعره الداخلية وحماية ذاته ونفسه ممّا حوله. إذ يعتقد العقل الباطن لويل بأنّه من خلال استخدام هذه الأساليب، فلن يتمكن أحد من اختراق دفاعاته وإيذائه مرةً أخرى كما اعتاد على أنْ يؤذى في طفولته. وعندما يطلب منه معالِجه النفسيّ تسمية أصدقائه والأشخاص الذين تربطه بهم علاقات قوية، يبدأ “ويل” بذكر أسماء شكسبير ونيتشه وعدة مفكّرين وفلاسفة آخرين. فبالنهاية فهؤلاء “الأصدقاء” لن يستطيعوا النهوض من القبر ومحاولة إيذائه.
Will Good Hunting
في الفيلم، يسعى شون من خلال جلسات العلاج إلى الوصول إلى علاقة ارتباط إيجابية مع “ويل” ليكون بإمكانه تكوين صورة ذاتية أكثر تماسكًا والتفاعل بشكل أكثر إيجابية مع الآخرين من حوله. وبكلماتٍ أخرى، يقوم المعالج بتقديم بدائل لأسلوب الارتباط الذي عجز عن تقديمه والديْ “ويل” له. وكما يشير شون، فإنّ “ويل” لم ير أو يشهد أي حميمية حقيقية بين رجل وامرأة لذلك فهو يجد صعوبةً في التعامل بطريقة صحيّة مع حبيبته وعلاقته العاطفية معها.
يستخدم شون في علاجه أسلوب “الانتقال” أو “التحويل”، وهي الظاهرة النفسية التي يقوم فيها اللاوعي بإعادة توجيه المشاعر والمواقف التي ربطوها في شخصٍ ما في مرحلة من مراحل حياتهم المبكّرة بأشخاص آخرين لاحقًا. لذلك يسعى شون إلى نقل تلك المشاعر إلى شخصه، ولم تكن مجرد مصادفة أن يختار شون بدء العلاج في حديقة بوسطن العامة، وهو المكان الذي يصطحب فيه الآباء أطفالهم الصغار للتنزّه واللعب وركوب الدراجات.
وفي مشهدٍ رئيسي بالفيلم، يطمئن “شون” “ويل” أنّ سوء المعاملة والرفض اللذين عانى منهما في الطفولة لم يكونا خطأه، وأنّ إن إساءة معاملة طفل من قبل شخص بالغ ليست أبداً خطأ الطفل، لذلك فإنّ أيّ تطوّر في علاقاته الاجتماعية والعاطفية الحالية ليست ذنبه هو ولا يتحمّل خطأها. ويمكننا القول أنّ العلاج يؤتي ثماره عندما يبدأ “ويل” بتطوير الثقة الكافية لقبول الحبّ والعاطفة التي تكنّه حبيبته تجاهه، وبالتفكير بالتقدّم بالعلاقة خطوة للأمام بعد قبوله الانتقال والعيش معها خارج بوسطن.
من الواضح أن نظرية الارتباط العاطفي إذن شغلت مكانةً هامة في عالم السينما، ولعلّ الرسالة التي يطمح صناع الأفلام إلى إيصالها هي أهمية دور الأبوة والأمومة في حياة الأفراد وعلاقاتهم العامة بمختلف أشكالها وأنواعها. وعلى الرغم من اختلافهم في تناول الأسباب التي تؤدي إلى تلك الأنماط والأساليب، إلا أنّ النقطة التي يحاولون إيصالها دائمًا هي التحذير من عواقب الحياة دون حبٍ ومودة، بين الآباء وأبنائهم من جهة، وبين الأفراد كافة من جهة أخرى.