ترجمة وتحرير: نون بوست
لطالما كان النقاش حول تأثيرات الذكاء الاصطناعي متأثرا بعدة مواضيع مختلفة. لعل أولها خوف الإنسان من تفرد الآلة، حيث يتجاوز الذكاء الاصطناعي نظيره البشري ويخرج عن سيطرته، ما قد يؤدي إلى حدوث عواقب وخيمة. وثانيها، الخوف من أن تساهم الثورة الصناعية الجديدة في استبدال الآلات للبشر في كل المجالات تقريبا، على غرار النقل والأجهزة الأمنية والدفاعية ومؤسسات الرعاية الصحية.
أما الطريقة الثالثة، التي ستمكن تقنيات الذكاء الاصطناعي من السيطرة على العالم، فستكون من خلال استخدامها من قبل الحكومات لرصد سكنات مواطنيها وفهم سلوكياتهم والسيطرة عليهم على نحو غير مسبوق. وسيوفر الذكاء الاصطناعي بديلاً معقولا للديمقراطية الليبرالية بالنسبة للحكومات الاستبدادية، ليصبح بذلك البديل الأكثر نجاعة منذ الحرب الباردة. وبشكل عام، سيؤدي هذا الأمر إلى تجدد المنافسة الدولية بين النظم الاجتماعية.
الصين التي بدأت بالفعل في وضع أسس الدولة الاستبدادية الرقمية باستخدام أدوات المراقبة والأجهزة القائمة على تقنيات التعلم الآلي، للسيطرة على السكان المضطربين وخلق “نظام الائتمان الاجتماعي”
طوال عقود من الزمن، اعتقد المنظِّرون السياسيون أن الديمقراطية الليبرالية تقدم السبيل الوحيد للنجاح الاقتصادي المستدام، حيث كانت الخيارات مقتصرة على قمع الحكومات لشعوبها وملازمة الفقر أو تحرير هذه الشعوب وجني الفوائد الاقتصادية المنجرة عن ذلك. في المقابل، تمكنت بعض الدول التي تنتهج سياسة قمعية من تنمية اقتصاداتها لفترة من الزمن، لكن التسلط كان مرتبطا بشكل دائم بالركود الاقتصادي على المدى البعيد. ويعِد الذكاء الاصطناعي بتقسيم هذه الثنائية عن طريق توفير طريقة تمكن الدول الكبرى المتقدمة اقتصاديا من جعل مواطنيها أغنياء مع إحكام السيطرة على تحركاتهم.
في واقع الأمر، تتحرك بعض الدول في هذا الاتجاه، على غرار الصين التي بدأت بالفعل في وضع أسس الدولة الاستبدادية الرقمية باستخدام أدوات المراقبة والأجهزة القائمة على تقنيات التعلم الآلي، للسيطرة على السكان المضطربين وخلق “نظام الائتمان الاجتماعي”. وقد دفع هذا التمشي العديد من البلدان إلى التفكير بشكل مماثل والسعي لشراء الأجهزة الصينية أو صنع نسخ مطابقة لها. وتماما مثل المنافسة بين النظم الاجتماعية الليبرالية والفاشية والشيوعية خلال القرن العشرين، من المقرر أن يحدد الصراع بين الديمقراطية الليبرالية والاستبداد الرقمي ملامح القرن الحادي والعشرين.
الاستبداد الرقمي
ستسمح التكنولوجيات الجديدة ببلوغ مستويات عالية من الرقابة المجتمعية وفق تكلفة معقولة نسبياً، حيث ستكون الحكومات قادرة على مراقبة البيانات والسلوكيات بشكل انتقائي لكي تسمح بتدفق المعلومات بحرية لفائدة الأنشطة الإنتاجية الاقتصادية، مع ضمان الحد من المناقشات السياسية التي من شأنها أن تلحق الضرر بالنظام. وبالنسبة للحكومة الصينية، يوفر “جدار الحماية العظيم” عرضاً مبكرا لهذا النوع من الرقابة الانتقائية.
على نحو أكثر أهمية، لن تتمكن الأنظمة المستبدة من تحقيق أي تناغم من دمج هذه البيانات مع المعلومات التي يمكن استخلاصها من وثائق الإقرارات الضريبية والسجلات الطبية والجنائية وعيادات الصحة الجنسية
من المتوقع أن يساهم الذكاء الاصطناعي والبيانات الضخمة في التنبؤ بهوية مخالفي القانون، فضلا عن مراقبة الخطابات بصورة رجعية. وسيكون هذا التوجه شبيهاً بتقنية السوق المستهدف التي تعتمدها كل من شركة غوغل وأمازون، لكنه سيكون أكثر فاعلية، حيث ستتمكن الحكومات الاستبدادية من الاعتماد على البيانات بطرق غير مسموح بها في الديمقراطيات الليبرالية. ولكن لا يحق لأمازون وغوغل الوصول لبيانات جميع الحسابات والأجهزة، بينما سيسمح الذكاء الاصطناعي المصمم للسيطرة الاجتماعية باستخلاص البيانات من الأجهزة التي يتفاعل معها الشخص في حياته اليومية.
على نحو أكثر أهمية، لن تتمكن الأنظمة المستبدة من تحقيق أي تناغم من دمج هذه البيانات مع المعلومات التي يمكن استخلاصها من وثائق الإقرارات الضريبية والسجلات الطبية والجنائية وعيادات الصحة الجنسية. والأمر سيان بالنسبة للبيانات المصرفية ونتائج الكشف الجيني والمعلومات المادية، مثل إحداثيات المواقع والقياسات الحيوية ومراقبة تحركات الأشخاص من خلال الدوائر التلفزيونية القائمة على تقنية التعرف على الوجه، بالإضافة إلى المعلومات التي يتم استخلاصها من العائلة والأصدقاء.
يمكن القول إن قدرة الذكاء الاصطناعي وجودته تتحدد بجودة المعلومات التي يمكنه الوصول إليها. ولسوء الحظ، ستكون كمية ونوعية البيانات المتاحة للحكومات حول كل مواطن كافية لتدريب أنظمة الذكاء الاصطناعي.
تكمن المشكلة في أن التواجد الجزئي لهذ النوع من الرقابة التنبؤية سيساعد الأنظمة المستبدة. ومن المرجح أن الرقابة الذاتية هي الآلية التأديبية الأكثر أهمية في شرق ألمانيا، ومن شأن الذكاء الاصطناعي أن يجعل هذه الرقابة أكثر فعالية بشكل كبير. وسيصبح الناس ملمين بحقيقة أن المراقبة الشاملة لنشاطاتهم المادية والرقمية سوف تستخدم للتنبؤ بالسلوك غير المرغوب فيه. ومن منظور تقني، لا تختلف هذه التنبؤات عن استخدام أنظمة الرعاية الصحية القائمة على تقنيات الذكاء الاصطناعي للتنبؤ بالأمراض لدى الأشخاص الذين يبدو أنهم أصحاء قبل ظهور الأعراض عليهم.
يؤدي دفع الأفراد لشرح موقف ما إلى جعلهم أكثر قدرة على دعمه، وهو أسلوب استخدمه الصينيون ضد أسرى الحرب الأمريكيين خلال الحرب الكورية
لمنع النظام من إجراء تنبؤات سلبية، سيبدأ العديد من الناس بمحاكاة سلوكيات عضو “مسؤول” في المجتمع لكي لا يثيروا الشبهات. وسيساعد هذا التغير السلوكي على تحسين الرقابة الاجتماعية، ليس فقط من خلال إجبار الناس على العمل بطرق معينة، ولكن عبر تغيير طريقة تفكيرهم أيضا. وعموما، تفيد بعض جذاذات الأبحاث في علم التأثير المعرفي بأن دفع بعض الأشخاص إلى القيام بسلوكيات معينة من شأنه أن يعودهم على تغيير مواقفهم وممارسة عادات تعزز نفسها بنفسها.
في هذا الصدد، يؤدي دفع الأفراد لشرح موقف ما إلى جعلهم أكثر قدرة على دعمه، وهو أسلوب استخدمه الصينيون ضد أسرى الحرب الأمريكيين خلال الحرب الكورية. ويعرف مندوبو المبيعات أن دفع عميل محتمل إلى القيام ببعض السلوكيات الصغيرة من شأنه أن يغير هذه التصرفات ويحولها إلى طلبات لشراء المنتجات في وقت لاحق. وبشكل عام، أظهرت 60 سنة من العمل المخبري والميداني أن البشر يمتلكون قدرة هائلة على ترشيد سلوكهم.
على نحو مشابه للسيطرة الفعالة، يَعِدُ الذكاء الاصطناعي بالتوصل إلى تخطيط اقتصادي مركزي أفضل. وحيال هذا الشأن، بين مؤسس الشركة التكنولوجية العملاقة “علي بابا”، جاك ما، أن الكم الكافي من المعلومات من شأنه تمكين السلطات المركزية من توجيه اقتصادها على نحو فعال من خلال التخطيط الجيد والتنبؤ بقوى السوق. ويقدم الذكاء الاصطناعي استجابة سريعة ومفصلة لحاجيات العملاء، عوضاً عن الخطط البطيئة غير المرنة التي تناسب الجميع.
ليس هناك ضامن لنجاح هذا النوع من النظام الاستبدادي الرقمي على المدى البعيد، ولكنه قد لا يكون ضروريا، مادام هذا نموذج مقبولا من قبل بعض البلدان التي تسعى لتنفيذه. ومن المؤكد أن يكون ذلك كافيًا لخلق منافسة إيديولوجية جديدة. وإذا بدأت الحكومات في رؤية الاستبداد الرقمي كبديل عملي للديمقراطية الليبرالية، فلن تشعر بأي ضغط للتخلص من هذا النظام. وحتى لو فشل هذا النموذج في النهاية، فإن محاولات تنفيذه لفترة طويلة ستستمر. وتجدر الإشارة إلى أن النماذج الشيوعية والفاشية قد انهارت فقط بعد فشل محاولات تطبيقها في العالم الحقيقي.
أثبتت الصين أنها قادرة على تقديم مشاريع ضخمة لتكنولوجيا المعلومات تشمل المجتمع
إرساء دولة تملك القدرة على مراقبة كل شيء
بغض النظر عن مدى الفائدة التي قد يثبتها نظام الرقابة الاجتماعية لأحد أنظمة الحكم، فإن بناء نظام كهذا لن يكون أمرًا هينًا. ومن المعروف أن المشاريع الضخمة لتكنولوجيا المعلومات صعبة التنفيذ، ذلك أنها تتطلب مستويات عالية من التنسيق، والتمويل السخي، والكثير من الخبرة. ولمعرفة ما إذا كان هذا النظام قابلا للتطبيق، فيجب العودة إلى المثال الصيني، لأن الصين تعد من أبرز الدول غير الغربية التي قد تبني نظاما مماثلا.
فضلا عن ذلك، أثبتت الصين أنها قادرة على تقديم مشاريع ضخمة لتكنولوجيا المعلومات تشمل المجتمع، مثل مشروع جدار الحماية العظيم، مع العلم أن الصين حصلت أيضًا على تمويل لبناء أنظمة جديدة رئيسية. خلال السنة الماضية، بلغت ميزانية الأمن الداخلي للبلاد ما لا يقل عن 196 مليار دولار، محققة زيادة بنسبة 12 بالمائة مقارنة بسنة 2016.
ربما يكون السبب الرئيسي وراء اتباع هذا الاتجاه هو الحاجة إلى منصات جديدة قادرة على تخزين عدد كبير من البيانات، وللصين الخبرة الكافية في مجال تكنولوجيا المعلومات. تعرف الشركات الصينية بكونها رائدة في مجال أبحاث الذكاء الاصطناعي، وكثيرا ما تغلّب مهندسو البرمجيات الصينيون على نظرائهم الأمريكيين في المسابقات الدولية.
يمكن أن تمثل التكنولوجيات مثل الهواتف الذكية المنتشرة على نطاق واسع، العمود الفقري لنظام المراقبة الشخصي. وفي الوقت الراهن، اقتربت نسبة الصينيين الذين يملكون هواتف ذكية من النسب المسجلة في دول الغرب وبعض الدول الأخرى. وعلى سبيل الذكر، تعد الصين دولة رائدة عالميًا في تقنية الدفع بواسطة الهاتف.
حاليا، تعمل الصين على وضع أسس النظام الاستبدادي الرقمي، حيث قامت السنة الماضية بتشديد نظام جدار الحماية العظيم الذي يتميز بتطوره. ولا شك في أن فريدم هاوس، وهي منظمة متخصصة في إجراء الأبحاث، تعتبر الصين من أسوأ منتهكي حرية الإنترنت في العالم.
لا يقتصر الاستبداد الرقمي على الصين فقط، التي تعمل حاليا على إنشاء نموذج خاص بها، بل يبدو أن نظام جدار الحماية العظيم قد انتشر على الإنترنت ليصل إلى تايلاند وفيتنام
في الوقت الحالي، تسعى الصين إلى إرساء نظام مراقبة مكثف في العالم الواقعي. وفي سنة 2014، أعلنت الحكومة الصينية عن خطة اعتماد نظام ائتمان اجتماعي، سيتحكم بشبكة مدمجة تعكس جودة سلوكيات كل مواطن. وقد تم تطبيق نظام المراقبة في الصين في مقاطعة سنجان، لرصد ومراقبة مسلمي الأويغور. ويقوم النظام بإقصاء الأشخاص من الحياة اليومية؛ حتى أنه يتم إرسال العديد منهم إلى مراكز إعادة التأهيل. وإذا أرادت بكين تطبيق هذا النظام، فيمكنها تطبيقه على مستوى البلاد.
من المؤكد أن القدرة على تطبيق هذا النظام تختلف عن نية تنفيذه، لكن يبدو أن الصين تتجه نحو تطبيق نظام استبدادي عوضًا عن الديمقراطية الليبرالية. وتؤمن الحكومة بأن الذكاء الاصطناعي والبيانات الضخمة سيكون لها دور هام في دعم هذا الاتجاه الجديد. وتكشف خطة الحكومة الصينية لتكنولوجيا المعلومات لسنة 2017، كيف يمكن للقدرة على التنبؤ والإدراك الجماعي أن تثبت أن تكنولوجيا المعلومات تجلب حقا فرصًا جديدة لبناء المجتمع.
لا يقتصر الاستبداد الرقمي على الصين فقط، التي تعمل حاليا على إنشاء نموذج خاص بها، بل يبدو أن نظام جدار الحماية العظيم قد انتشر على الإنترنت ليصل إلى تايلاند وفيتنام. ووفقا للتقارير الإخبارية، قدم الخبراء الصينيون الدعم للرقابة الحكومية في سريلانكا، كما تم تزويد كل من إثيوبيا وإيران وروسيا وزامبيا وزيمبابوي بأجهزة مراقبة مماثلة. وفي وقت سابق من هذه السنة، قدمت شركة “ييتو” الصينية لتكنولوجيا المعلومات كاميرات مزودة بتقنية التعرف على الوجه وتعتمد على تقنية الذكاء الاصطناعي، إلى السلطات الماليزية.
تعارض كل من الصين وروسيا الولايات المتحدة لتوفيرها شبكة إنترنت عالمية ومجانية وبلا حدود. وتستخدم الصين قوتها الدبلوماسية والسوقية للتأثير على المعايير التقنية العالمية وتطبيع فكرة أن الحكومات المحلية يجب أن تتحكم في الإنترنت بطرق تحد من حرية الفرد. وبعد أن اشتدت المنافسة لبسط النفوذ على نظام جديد من شأنه وضع معايير دولية لتكنولوجيا المعلومات، قامت الولايات المتحدة بتأمين الأمانة العامة مما يساعد على توجيه قرارات المجموعة.
عندما استضافت بكين أول اجتماع لها، خلال شهر نيسان/ أبريل، ترأس وائل دياب، وهو من كبار المديرين في شركة هواوي، اللجنة. وبالنسبة للحكومات التي تطبق هذا النظام، قد تبدو هذه التدابير دفاعية نوعا ما، لكنها ضرورية لضمان السيطرة المحلية، لكن ترى بعض الحكومات الأخرى أن هذه التدابير تهدد أسلوب حياتها العادية.
على الرغم من أن الديمقراطيات الراسخة ستجد نفسها في حاجة إلى بذل المزيد من الجهد من أجل إدارة الانتشار الواسع للتكنولوجيات الحديثة، إلا أن التحديات التي ستواجهها لن تتجاوز في صعوبتها تلك التي تغلبت عليها الديمقراطيات الأخرى
الرد الديموقراطي
يمكن أن يكون ظهور نموذج تقني استبدادي للحوكمة سببا في إعادة تطبيق الديمقراطيات الليبرالية. فطريقة استجابة الديمقراطيات الليبرالية للتحديات والفرص التي تفرضها تكنولوجيا المعلومات، تعتمد على كيفية تعاملها مع هذا البديل الاستبدادي داخليًا وخارجيًا، وفي كلتا الحالتين، هناك أسباب تدعو إلى التفاؤل مع توخي الحذر.
على الصعيد الداخلي، وعلى الرغم من أن الديمقراطيات الراسخة ستجد نفسها في حاجة إلى بذل المزيد من الجهد من أجل إدارة الانتشار الواسع للتكنولوجيات الحديثة، إلا أن التحديات التي ستواجهها لن تتجاوز في صعوبتها تلك التي تغلبت عليها الديمقراطيات الأخرى. ومن شأن نظرية “تبعية المسار” أن تكون أكثر الأسباب التي تستدعي إلى التفاؤل. ومن المرجح أن تنتهج البلدان التي اعتادت ممارسة الحرية الفردية مسارا واحدا فيما يتعلق باستخدام التكنولوجيا الحديثة؛ بينما ستتخذ الدول الأخرى التي لا تتمتع بالحرية نهجا مختلفا.
لطالما عمدت الجهات المؤثرة داخل المجتمع الأمريكي إلى التصدي إلى برامج التجسس الجماعية، التي كانت تحت إشراف الحكومة المحلية، رغم تباين معدلات نجاحها في ذلك. وفي مطلع هذا القرن، بدأت وكالة مشاريع البحوث المتطورة الدفاعية، في بناء برامج مراقبة على المستوى الوطني، تعتمد على “الشفافية المعلوماتية المطلقة” لجمع البيانات الطبية والمالية، بالإضافة إلى تلك المادية وغيرها. ودفعت صيحات الاستنكار، الصادرة من وسائل الإعلام والمدافعين عن الحريات الشخصية، الكونغرس إلى تعليق تمويل هذا البرنامج، رغم احتفاظه بسرية بعض المعطيات، التي لم يفصح عنها للجمهور في ذلك الوقت.
في الواقع، يعتقد معظم مواطني الديمقراطيات الليبرالية أنه يجب في بعض الأحيان التجسس داخل البلاد وخارجها، عندما يتعلق الأمر بمكافحة الإرهاب، إلا أن إرساء التوازن في القوى قادر على تقييد ممارسات جهاز أمن الدولة. لكن اليوم، يتعرض هذا النوع من سياسات فصل السلطات للهجوم، إذ أنه في حاجة ماسة إلى التحصين والتعزيز، وسيكون هذا بمثابة تكرار للماضي أكثر من كونه تحديا جديدا يستدعي المجابهة.
تسبب عمالقة التكنولوجيا الرقمية في الإخلال بمبدأ التنوع في المحتوى المقدم للعامة من قبل وسائل الإعلام
في الغرب، لا تشكل الحكومات تهديدا للحريات الفردية. وتكتسب الاحتكارات التكنولوجية سلطتها عبر إنهاك منافسيها والضغط على الحكومات من أجل سن لوائح تتماشى مع إطار عملها وتصب في مصلحتها. ومع ذلك، تمكنت المجتمعات في الماضي من التغلب على هذا النوع من التحديات، على إثر الثورات التكنولوجية السابقة.
والجدير بالذكر أن “حل” الرئيس الأمريكي السابق، ثيودور روزفلت، للشركات الكبيرة أو ما يعرف بالاحتكارات خير مثال على التغلب على هذا التحدي، بالإضافة إلى حل شركة “إيه تي آند تي” خلال ثمانينيات القرن العشرين، والقوانين التي فرضتها الهيئات التنظيمية على شركة مايكروسوفت بعد ظهور الإنترنت في التسعينيات.
إلى جانب ذلك، تسبب عمالقة التكنولوجيا الرقمية في الإخلال بمبدأ التنوع في المحتوى المقدم للعامة من قبل وسائل الإعلام، وخلق أرضية تفتقر إلى الرقابة القانونية فيما يتعلق بالدعاية السياسية. لكن سبق أن طرحت التكنولوجيات الحديثة الراديكالية، على غرار الإذاعة والتلفزيون، مشاكل مماثلة، تصدت لها المجتمعات بعد ذلك.
في النهاية، من المرجح أن تستند الأطر القانونية على المفاهيم الجديدة لكل من مفهومي “الوسائط”، “والناشر” المستمدة من شبكة الإنترنت. وفي هذا الشأن، سبق أن رفض الرئيس التنفيذي لفيسبوك، مارك زوكربيرغ، اعتماد التصنيف ذاته الذي يُفرض على الدعايات السياسية في التلفاز، إلى أن أجبرته الضغوط السياسية على فعل ذلك خلال السنة الماضية.
من غير المرجح أن تنتصر الديمقراطيات الليبرالية على النظام الاستبدادي الرقمي. وتشير استطلاعات الرأي الأخيرة إلى أن نسبة متناقصة في المجتمعات الغربية تعتبر الديمقراطية أمرا “ضروريا”، ولكن هذا ليس كفيلا بزعزعة الديمقراطية في البلدان الغربية.
ربما سيساهم التحدي الخارجي المتمثل في وجود منافس سلطوي جديد، في تعزيز الديمقراطيات الليبرالية. وقد تساعد النزعة التي تتجه نحو تأطير المنافسة على أساس مفهوم “نحن ضد الآخرين” الدول الغربية على تحديد مواقفها تجاه الرقابة والمراقبة على الأقل، التي ستكون حتما مخالفة لتلك الخاصة بمنافسيها الجدد.
لن يكون الغرب قادرا سوى على فعل القليل من أجل تغيير مسار بلد بقوة وثقل الصين
يجد معظم الأشخاص التفاصيل الدقيقة المتعلقة بسياسة البيانات مملة، كما أنهم لا يكترثون بالمخاطر التي تشكلها على خصوصيتهم وحرياتهم. ولكن، عندما تصبح هذه المسائل ركيزة نظام بائس، فلن تعود بذلك مجرد تفاصيل مملة أو مجردة. حينئذ، سيتعين على الحكومات وشركات التكنولوجيا ضمن الديمقراطيات الليبرالية إثبات اختلافها عن البقية.
نماذج للغرب
لن يكون الغرب قادرا سوى على فعل القليل من أجل تغيير مسار بلد بقوة وثقل الصين. ومن المرجح أن تظل الحكومات الاستبدادية الرقمية قائمة لفترة أطول. ودون شك، ستحتاج الديمقراطيات الليبرالية إلى اعتماد استراتيجيات واضحة لمنافسة هذه الحكومات. أولاً، ينبغي على الحكومات والمجتمعات الحدّ من المراقبة والتلاعب على المستوى المحلي.
لتحقيق هذه الغاية، يجب حل عمالقة التكنولوجيا وإعادة تنظيمهم من جديد. ويتوجب على الحكومات ضمان بيئة إعلامية متنوعة وسليمة، من خلال الحرص على عدم السماح لعمالقة على غرار فيسبوك، بالحد من التعددية الإعلامية؛ أو تمويل خدمات البث الحكومية، أو تحديث اللوائح التي تغطي الدعايات السياسية حتى تتناسب مع عالم الإنترنت.
فضلا عن ذلك، يجب سن قوانين تمنع شركات التكنولوجيا من استغلال المصادر الأخرى التي تعنى بالبيانات الشخصية، مثل السجلات الطبية الخاصة بعملائها، والعمل على الحد من عمليات جمع البيانات في مختلف المنصات التي يستخدمها العامة. وفي الحقيقة، يجب منع الحكومات أيضا من استخدام مثل هذه البيانات إلا في حالات نادرة، على غرار مكافحة الإرهاب.
مما لا شك فيه، ستكون العديد من الأنظمة القائمة على الذكاء الاصطناعي هشة وعرضة للخلل، ورغم تهافت الحكومات عليها بشكل متزايد من أجل ضمان الأمن، إلا أنه عليها الحرص على ألا تخرج الأمور عن سيطرتها
ثانياً، يجب على الدول الغربية أن تحاول التأثير في طرق اعتماد الدول التي تفتقر إلى ديمقراطية صلبة أو تلك التي ليست مستبدة للغاية للنظم القائمة على الذكاء الاصطناعي والبيانات. وفي هذا الصدد، لابد من تقديم المساعدة لهذه الدول من أجل تطوير البنية التحتية المادية والتنظيمية واستغلال هذه الفرصة لمنع حكوماتها من استخدام البيانات المشتركة. كما يجب عليهم تعزيز المعايير الدولية التي تضمن الخصوصية الفردية وسيادة الدولة في الآن نفسه. إلى جانب ذلك، ينبغي عليهم رسم حدود تنظم استخدام تقنية الذكاء الاصطناعي والبيانات الوصفية من أجل حماية الأمن القومي بطرق قانونية، وليس لقمع حقوق الأفراد.
أخيراً، يتحتم على الدول الغربية أن تستعد للتصدي إلى النظم الرقمية الاستبدادية. ومما لا شك فيه، ستكون العديد من الأنظمة القائمة على الذكاء الاصطناعي هشة وعرضة للخلل، ورغم تهافت الحكومات عليها بشكل متزايد من أجل ضمان الأمن، إلا أنه عليها الحرص على ألا تخرج الأمور عن سيطرتها. و ستخلق الأنظمة التي تفرض بدورها رقابة انتقائية على الاتصالات، نوعا من الإبداع الاقتصادي ولكنها سترفع الحجاب عن العالم الخارجي أيضاً. ولن يكون التغلب على الحكومات المستبدة رقمياً أمرا مستحيلًا، طالما أن الديمقراطيات الليبرالية تملك الإرادة السياسية اللازمة للكفاح من أجل هذه الغاية.
المصدر: فورين أفيرز