في إحدى جلسات النّقاش الجامعيّة العابرة للثقافات الّتي كان يتيحها لنا تخصصُنا – اللغة العربيّة – إذ يكثر وجود الطلّاب المبتعثين، خاصّة من شرق أسيا، والّتي لم تكن تخلو بطبيعة الحال من أسئلة الدّين والحضارة؛ باغتني صديقٌ يابانيٌّ، يعتنق البوذيّة، متسائلاً: “هل يعاني المسلمون من مرض انفصام الشخصيّة “١”؟”. لم يكن سؤاله جديًا بطبيعة الحال؛ وإنمّا هو استفهامٌ استنكاريٌّ، كما يسمّيه أهلُ اللّغة. ثم فصّل الشّاب متعجّبًا من انتكاس التزام المسلمين، فجأة، وبعد انتهاء “رمضان” مباشرةً؛ إذ تختفي صفوف الصلاة تمامًا، وتصبح صلاة الفجر سنّة مهجورة”، على حدّ قوله.
لم أجد عندي جوابًا لتساؤله هذا، ولا أنكر استشعاري حرجًا شديدًا منه، يبدو الأمر فعلاً غريبًا ومثيراً للاستفهام؛ إذ إنّ الصّلوات الخمس فروضٌ أيضاً، ولا يتطلّب قضاؤها – مجتمعةً – أكثر من “نصف ساعة”؛ فلم هذا النّكوص الغريب؟ هذا ما سنحاول معرفتَه في ضوء الركائز الرّئيسة لعلم النّفس؛ إذ تشتبك شعيرةُ الصّوم”، الإسلاميّ، مع أطروحات مركزيّة للمدرسة السّلوكيّة، وعلم النّفس الاجتماعي.
التّرك أيسر على النّفس من الفعل
الصّوم، لغةً، هو الإمساك والامتناع والتّرك. ويعتقد رائدو المدرسة السلوكيّة في علم النّفس أنّ (التّرك) والإقلاع عن شيءٍ ما، أيسر وأسهل على النّفس من الالتزام والفعل؛ إذ في التّرك معاناةٌ (سلبيّة)، بينما يتطلّب الالتزامُ بفعل سلوكٍ ما جهداً (إيجابيًا). فأن تمتنعَ عن الأكل والشرب (أيسر) على النّفس من أن تلتزمَ بفروضٍ، يوميّة، في أوقاتٍ مُعيّنة. وقِس ذلك على كل شيء!
الآداب الشعبيّة تعكس (عقيدة جَمعيّة) مترسّبة في لا وعي الجماعة، كما يقول المسيري، رحمه الله
سلطة الفعل الجمعي
إذا كان موضوع “علم النّفس” هو دراسة السّلوك الإنسانيّ، دوافعه، ومنشأه، ومآلاته، بشكل مجرّد. فإنّ “علم النّفس الاجتماعيّ” يبحث نفسَ الأمر تقريبًا؛ ولكن، حينما ينخرط الإنسان داخل مجتمع ليصبح جزءًا منه، فتذوب هُويته، وتُستلب إرادتُه، تحت ضغط سلطة الجموع. حتّى أنّ المناطقة قد اعتبروا (الاحتكام إلى الأكثريّة) والحِجاج بها لذاتها (مغالطةً). ترتبط هذه الأداة التّفسيريّة وتتضح نجاعتُها حينما نتبيّن الصّورة الذّهنيّة للصيام في الوعي الجمعي، والّتي تجلّت في الدّعابة الّتي يرددها الأطفال الصغار، والّتي تلقّاها جيلٌ بعد جيل بالقَبول والتّأييد: “يا فاطر رمضان، يا خاسر دينك، القطة السودا هتقطّع مصارينك!”.
لا يعاني المسلمون انفصامًا، إنما الأمر متعلّق – فقط – بطبيعة الشعيرة؛ فليس الصوم – نفسيًا – كالصّلاة، ولا مجال للمقارنة ابتداءً، إلّا في كونهما شعيرتين، فقط
فالآداب الشعبيّة تعكس (عقيدة جَمعيّة) مترسّبة في لا وعي الجماعة، كما يقول المسيري، رحمه الله. ولعلّ في الصّراع الموسميّ الّذي يتبنّاه اليساريّون لصالح حريّة الإفطار جهراً دلالةً واضحةً على نجاعة هذا التّفسير؛ إذ يسعى هؤلاء – باعترافهم – إلى كسر (التّابوهات) السوسيو- دينيّة، والّتي من بينها شرعنة قَبول الإفطار، تدريجيًا، في نهار رمضان. فقوّة الرّفض الاجتماعيّ، وشعور الفرد بالازدراء والرفض، في حال خروجه على ثوابت الجماعة، يسيران، جنباً إلى جنب، مع قوّة التّشريع المقدّس، وتعكس مكانته في قلوب أفراد الجماعة.
سلطة الصورة الذّهنيّة
الصورة الذّهنيّة لـ “رمضان” صورةٌ مفعمةٌ بالبهجة والأمل والسعادة والعطاء الاستثنائي. فمفردة “رمضان” تُترجم تلقائيًا في الذّهن إلى تمثّلات: الزينة، والألعاب الناريّة، وتبادل الزيارات، وصلاة التراويح مع الكبار، والسهر بعد السحور، والعطاء الاستثنائيّ. هذه الصورة الذهنية الإيجابية لا يحلّ محلّها صورةٌ سلبيّة في شعيرة “الصلاة”؛ ولكنها، في نفس الوقت، مُفتقَدة وغير موجودة. ليس ثمّة استثناءٌ في الصلاة؛ فلا تجد تجويدًا للآذان، ولا تقصيراً في الصلاة، ولا قُرّاءً ذوي أصواتٍ عذبة؛ كما أنّها تتكرر “خمس” مرات يوميًا، في حين أن رمضان استثناءٌ، لا يأتي إلا مرة واحدةً في “العام”. لا يعاني المسلمون انفصامًا، إنما الأمر متعلّق – فقط – بطبيعة الشعيرة؛ فليس الصوم – نفسيًا – كالصّلاة، ولا مجال للمقارنة ابتداءً، إلّا في كونهما شعيرتين، فقط.