الأيام الماضية شهدت تفجر الأوضاع على الحدود السودانية الإثيوبية فقد وقعت اشتباكات مسلحة بين قوات الجيش السوداني ومليشيات إثيوبية على خلفية نزاع حدودي مستمر منذ سبعينيات القرن الماضي رغم أن الرئيس السوداني الإسبق جعفر النميري وقّع اتفاقًا مع نظيره الإثيوبي منقستو هايلي مريام عام 1974م على تبعية منطقة الفشقة للسودان وترسيم الحدود على ذلك الإطار لكن ذلك لم يحدث لعدم توفر الأموال اللازمة وعدم الاستقرار السياسي في البلدين.
وجرت العديد من الاجتماعات واللقاءات بين قادتي البلدين في الفترة الماضية كان آخرها خلال زيارة رئيس الوزراء الإثيوبي الحالي آبي أحمد مطلع مايو/ أيار الماضي التي التقى فيها الرئيس السوداني عمر البشير، حيث نال ملف الحدود قدرًا كبيرًا من النقاش بين الطرفين .
تسلل المزارعين الإثيوبيين من إقليم الأمهرا إلى الأراضي السودانية على الحدود بدأ منذ العام الذي تلى استقلال السودان 1957
ما هي “الفشقة” ؟
يُقصد بها المنطقة المتاخمة للحدود المشتركة بين السودان وإثيوبيا، تبلغ مساحتها 251 كلم2 تحد شمالاً بنهر سيتيت وشرقًا بنهر عطبرة، والفشقة كلمة محلية اشتقت من وضع المنطقة. إذ يقصد بها الأراضي التي تقع بين المصادر المائية كالأنهار والخيران والمجاري، وتنقسم المنطقة إلى قسمين:
1- الفشقة الكبرى: وتحد شمالًا بنهر سيتيت وجنوبًا بنهر باسلام أحد روافد نهر عطبرة، أرضها طينية مسطحة صالحة للزراعة في مجملها، ويغلب على سكانها أصل الحمران والفلاتة والهوسا، يوجد بها نقاط للشرطة في كل من اللكدي ، الهشابة، زهانة، حمدايين، الدرابي، ود الحليو.
2- الفشقة الصغرى (الفشيقة): هي المنطقة التي تحد شمالًا برافد باسلام وغربًا بنهر عطبرة وشرقًا بالحدود المشتركة بين السودان وإثيوبيا، وتتخللها العديد من الجبال والأودية.
هنا يتضح أن منطقة الفشقة محاطة بالأنهار ومصادر المياه المتنوعة، هذا فضلاً عن كونها تتميز بهطول الأمطار الغزيرة في فصل الصيف. فيما يميز موقعها هذا إغراء للمليشيات الإثيوبية للاعتداء عليها إذ لا يقف أمامهم أي مانع أو عازل يحول بينهم وبين الاستفادة من هذه الأراضي الخصبة، فهي أراضي متاخمة تماماً للأراضي الإثيوبية. كذلك تتميز منطقة الفشقة بخصوبتها وإنتاجها الكثيف لمحصولات السمسم والذرة والقطن قصير التيلة بجانب الصمغ العربي والخضروات والفواكه على ضفاف الأنهر الثلاثة عطبرة، سيتيت، باسلام.
قصة النزاع
تسلل المزارعين الإثيوبيين من إقليم الأمهرا إلى الأراضي السودانية على الحدود بدأ منذ العام الذي تلى استقلال السودان “1957، وقد حاولت سلطات الإدارة الأهلية في المنطقة المعنية تحصيل الضرائب منهم ، لكنهم رفضوا ورجعوا في العام التالي بآليات واستعدادات كاملة للزراعة في المنطقة الواقعة بين نهري سيتيت وباسلام التابعة لمجلس ريفي شمال القضارف المعروف الآن بمحلية الفشقة ، متجاهلين اتفاقيات الحدود بين البلدين ، وقد بلغت مساحة المشاريع الزراعية التي أقامها المزارعون الإثيوبيون حتى عام 1962م 300 فدان في المنطقة الواقعة بين جبل اللكدي وحمداييت.
كان رد فعل الحكومة السودانية آنذاك تجاهل الأمر بحجة الانشغال بحرب الجنوب وعدم الاستقرار السياسي والتنافس الحزبي حول السلطة التي تم تسليمها للفريق إبراهيم عبود في شكل إنقلاب عسكري أبيض، لم تهتم حكومة عبود هي الأخرى بمسألة الحدود مع إثيوبيا ، بل اهتمت بموضوع المياه ووقع السودان ومصر اتفاقية مياه النيل سنة 1959.
وهكذا توالت المفاوضات والاجتماعات والمؤتمرات بين السودان وإثيوبيا عبر اللجان المشتركة حول الحدود بين البلدين كل عام وكانت الوفود السودانية تصر على التمسك بحذافير مضمون اتفاقيات الحدود المبرمة.
ويقول أحد مزارعي منطقة الفشقة إن الاثيوبيين يعترفون في المداولات واللقاءات السياسية واللجان الوزارية المشتركة بأن الأراضي سودانية، وفي واقع هذا الاعتراف ممطالة وتسويف وضياع للوقت حسب تعبيره ، لأن الوضع على الأرض غير مطابق لذلك الاعتراف وأن المساحة المزروعة الآن من قبل الإثيوبيين داخل الأراضي السودانية في منطقة الفشقة تعادل نحو سبعين مشروعا.
جرى الاتفاق بين الرئيس البشير ورئيس الوزراء الإثيوبي السابق ديسالين قضى بانسحاب الوحدات الإثيوبية المتمركزة داخل الأراضي السودانية منذ التسعينيات ثم تخطيط الحدود فى المنطقة المتنازع عليها في الفشقة
التطورات الأخيرة
في أواخر العام الماضي، اتخذ السودان خطوة جريئة حققت تقدمًا نوعيًا دفعت الجانب الاثيوبي إلى الجلوس على طاولة المفاوضات لمناقشة قضية الفشقة، فقد دخل الجيش السوداني المنطقة المتنازع عليها، وكادت أن تحدث مواجهة بين الجيشين السوداني والإثيوبي، لكن تم تدارك الأمر بسرعة عندما رفع القادة العسكريون الملف للقيادات السياسية للبلدين.
فجرى الاتفاق بين الرئيس البشير ورئيس الوزراء الإثيوبي السابق ديسالين قضى بانسحاب الوحدات الإثيوبية المتمركزة داخل الأراضي السودانية منذ التسعينيات ثم تخطيط الحدود في المنطقة المتنازع عليها في الفشقة وهي منطقة بطول أقل من 120 كيلومتر مع تأمين المزارعين السودانيين لزراعة أراضيهم.
ولكن مع بداية الموسم الزراعي الحالي حدثت مناوشات عندما حاول بعض المزارعين الإثيوبيين التوغل بالمنطقة تساندهم مليشيات ضخمة لكن قوات الدفاع الشعبي وقوات الدعم السريع السودانية كانت مستعدة لهم فتصدّتا للهجوم. وقيل إن قيادة الجيش الإثيوبي بالمنطقة أجرت اتصالات بنظيرتها السودانية وأكدت لهم أن “تلك القوات التي تهاجمكم ميليشيات لا علاقة لها بالجيش الإثيوبي فردوا عليهم سنقضي على المهاجمين أيًا كان نوعهم”.
وكانت أنباء تسربت عن مشاركة الجيش الإثيوبي في الهجوم على الأراضي السودانية لكن هذا الاحتمال مستبعد تمامًا لصعوبة اتخاذ قرار كهذا في وقتٍ لا يزال فيه البلدان مرتبطان باتفاقية عسكرية وقوة مشتركة لتأمين سد النهضة. غير أنه ليس من المستبعد مشاركة أفراد من الجيش الإثيوبي في المعركة لدوافع قبلية خاصة.
يعتقد نشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي أن الهجوم الإثيوبي الأخير هدفه إيقاف خطوات الحكومة الإثيوبية بتسليم المناطق المتنازع عليها إلى السودان
إثيوبيا ترسل وزير خارجيتها للسودان
فور تفجر الأوضاع على الحدود السودانية الإثيوبية، قام وزير الخارجية الإثيوبي ورقينيه قيبيو، بزيارةً خاطفةً للخرطوم، عقد خلالها جلسة مباحثات مع الرئيس عمر البشير، تناولت التوترات التي شهدتها الحدود بين البلدين، وأفادت التقارير بأنها أدت إلى سقوط قتلى وجرحى وسط مزارعين سودانيين. وأبلغ المبعوث الإثيوبي رسالة شفاهية من رئيس الوزراء آبي أحمد تتعلق بالعلاقات الثنائية والقضايا الإقليمية.
وفي أول تعليق رسمي للحكومة السودانية على الأحداث التي شهدتها الحدود بين البلدين، وصف وزير الخارجية السوداني الدرديري محمد أحمد، في تصريحات صحافية، عقب اللقاء، تلك الأحداث بالطبيعية التي تحدث خلال موسم الأمطار في كل عام.
وكشف أن رئيس الوزراء الإثيوبي أكد عزم بلاده على تجاوز مثل هذه الأحداث، ونقل المسؤول السوداني للصحافيين أن الرئيس البشير أكد عزم السودان على تجاوزها والعمل على معالجتها عبر التنسيق والتعاون حتى لا تؤثر على مستوى العلاقة بين البلدين، على حد قوله.
هل سيتطور الأمر إلى مواجهة عسكرية شاملة؟
يعتقد نشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي أن الهجوم الإثيوبي الأخير هدفه إيقاف خطوات الحكومة الإثيوبية تسليم المناطق المتنازع عليها إلى السودان ويذهب هؤلاء أن هذا الهجوم موجه ضد حكومة آبي أحمد وتوجهاتها الرامية إلى حسم المشكلات مع دول الجوار.
ليس من مصلحة السودان أو إثيوبيا اندلاع حربٍ بينهما، في وقتٍ تجنح فيه دول المنطقة إلى إحلال السلام ونبذ التوترات
بينما يؤكد المهتم بالشأن الإثيوبي عبد القادر الحيمي في حديثٍ لـ “نون بوست” أن الأوضاع على الحدود السودانية ـ الإثيوبية الآن في أحسن حالاتها، وأنه لا يوجد قوات إثيوبية في الفشقة. مستبعدًا تورط الجيش الإثيوبي في الهجوم الأخير. ولفت الحيمي إلى أن إقليم الأمهرا الإثيوبي يوجد به ما لا يقل عن 3 ملايين قطعة سلاح وأن أي تاجر بإمكانه تشكيل مليشيا عسكرية.
وبالفعل ليس من مصلحة السودان أو إثيوبيا اندلاع حربٍ بينهما. في وقتٍ تجنح فيه دول المنطقة إلى إحلال السلام ونبذ التوترات. وبصورة أخص إثيوبيا التي تسعى لإكمال سد النهضة الواقع على الحدود مع السودان ويلعب الأخير دورًا كبيرًا في تأمينه، غير أنه من الأفضل للجميع حل القضية جذريًا بترسيم الحدود والقضاء على المليشيات المتفلتة ووضع قوة مشتركة من الجانبين، فإذا لم يتم ذلك يمكن أن تتجدد الاشتباكات والتوترات في أي وقت.