قد يسعى الكثير من الآباء، بوعيٍ أو بغير وعي، الوصول لمرحلة من المثالية والتميّز في تربيتهم لأبنائهم وتنشئتهم إياهم، ويظهر ذلك جليًا من خلال علاقة الطفل بأبويه ونوعيتها، تمامًا كما من خلال العديد من القواعد والقيود التي يتم وضعها ويُطلب من الطفل اتباعها وطاعتها ليكونَ طفلًا “جيّدًا” وفقًا لمعايير المجتمع والمحيط من حوله، لينظر الأب والأم بالنهاية إلى نفسيهما بوصفهما أيضًا آباءً جيدين وأمهات جيّدات.
لكن كان لعالم النفس وطبيب الأطفال البريطاني دونالد وينيكوت في منتصف القرن العشرين وجهةَ نظرٍ مميزة، رأى من خلالها أننا في سنواتنا الأولى، نُحرم الفرصة لأن نكون أنفسنا بالكامل، نظرًا لأنّ والديْنا أو مقدّمي الرعاية يسعون دومًا لجعلنا متفقين تمامًا مع مطالبهم ورؤاهم وأساليبهم في التربية والتنشئة والالتزام بها من أجل أنْ نكون محبوبين ومقبولين من جهتهم ومن جهة المجتمع من حولنا.
عالم النفس وطبيب الأطفال البريطاني دونالد وينيكوت
كطبيب أطفال في مستشفى بادينغتون غرين في لندن، ثم في رحلته كطبيب نفسي واستشاري فيما بعد، تفاعل وينيكوت مع الآلاف من الأمهات وأطفالهنّ. واستخلاصًا لرحلته الزاخرة تلك، توصّل وينيكوت أنّ الأم الجيدة هي الأم “الجيدة بما فيه الكفاية” لأطفالها، وليست تلك التي تحاول التي تخضع لبعض المعايير المثالية وغير المحدودة للأمومة والتربية والتنشئة. ولهذا، فقد أشار وينيكوت إلى نقطةٍ مهمة قد نغفل عنها في كثيرٍ من الأحيان؛ أنّ الأم جيدة بما فيه الكفاية تحب طفلها لكن في أيّ لحظة ممكنة يكون لديها أيضًا مساحة لتكرهه، فهي ليست “غير محدودة” العطاء كما نعتقد، بل إنها “حقيقية” مليئة بالتناقض مثلها مثل أيّ فرد آخر.
اقترح وينيكوت أنّ سعادة الجنس البشريّ ورضاه لا يتوقفان على الأوضاع السياسية لمحيطه، بل على ما هو أقرب من كلّ ذلك؛ على المنزل والطريقة التي يربّي بها الوالديْن أطفالهما، كما ركّز على أنّ جميع الأمراض البشرية التي يشهدها العالم هي بالأصل نتاج فشل إعالة الأبوين واستيعابهما لأبنائهما.
أراد وينيكوت مساعدة الناس على أنْ يكونوا، حسب صيغته الشهيرة، آباءً “جيّدين بما فيه الكفاية” لأطفالهم، لا مثاليّين ولا مميّزين كما تدعو إليه العديد من جهات الدولة والمجتمع
فالفاشية والإجرام والغضب المُفرِط والكراهية والإدمان وغيرها من أمراض المجتمعات، وفقًا لوينبكوت، جميعها نتاج لطفولةٍ بائسة يدفع ثمنها المجتمع في نهاية المطاف. وبالتالي، فالطريق إلى مجتمع أفضل يبدأ من غرفة الطفل ومنزله. ولذلك يرفض وينيكوت الأفكار التي تقول إن الأطفال يبكون للفت الانتباه وأخذ الاهتمام، والأفكار الداعية إلى تجاهلهم وتجاهل احتياجاتهم، أو فكرة إرسال الأطفال إلى مدارس خارجية، وما يشابهها.
ولو أردنا اختصار أفكاره لأمكننا القول أنّ وينيكوت أراد مساعدة الناس على أنْ يكونوا، حسب صيغته الشهيرة، آباءً “جيّدين بما فيه الكفاية” لأطفالهم، لا مثاليّين ولا مميّزين كما تدعو إليه العديد من جهات الدولة والمجتمع. وهو بذلك يعزّز النظرة الواقعية للأسرة والتربية والتنشئة وعلاقة الأبوين بأطفالهما بعيدًا عن أيّ تزييفٍ أو مبالعة.
يقول وينيكوت: “أرى أنه لا بأس من تقسيم الناس في هذا العالم إلى فئتين: أولئك الذين لا ينخذلون أبدًا في مراحل طفولتهم، وهم الذين يَصلون إلى حد تأهيلهم للاستمتاع بالحياة بقدر الإمكان. وأولئك الذين قد عانوا من تجارب صادمة خلّفها خذلان من العالم المحيط، وهم أولئك الذين سيحملون ذكريات تجاربهم وحالاتهم تلك طوال حياتهم، فهؤلاء مؤهلون لحياةٍ متوترةٍ مرهقة، وربما سقيمة.
اكتشاف الطفل لطبيعته ونفسه تحتاج إلى تحدي شخص ما أو شيء ما من حوله، لذلك فهو يحتاج في بعض الأحيان لأن يغضب أو قد يكره ويشتم ويعبّر عن حنقه وعدم رضاه بطريقةٍ عنيفة نوعًا ما
والفئة الثانية هذه هي التي حاول وينيكوت إنقاذها من خلال أعماله ونظرياته ودراساته، مقترحًا أنّ الأمّ أو الأب “الجيدين بما فيهم الكفاية” لأطفالهم يدركون أنّ طفلهم هو كائن ضعيف بالدرجة الأولى، لا يستطيع التواصل مع نفسه ولا مع من حوله، يعيش في سنواته الأولى صراعًا دائمًا وكفاحًا مستمرًّا للبقاء على قيد الحياة والتكيّف مع محيطه. ولذلك فهو معرّض في أيّ مرحلة للعديد من الأمراض والاختلالات النفسية التي تنشأ أساسًا عن ذلك المحيط، كاكتئاب الأم أو غضب الأب وعصبيّته على سبيل المثال وغيرها من الأمثلة جميعها قد تؤدي إلى خلق طفلٍ وحيدٍ خائف غير قادر على التعبير عن نفسه ومشاعره وعواطفه.
فسر وينيكوت أنّ المشاعر العنيفة الذي قد يأتي بها الطفل ضد والديه أو ما حوله، كالغضب، باعتبارها جانبًا طبيعيًا من عملية النضج، فمن وجهة نظره أنّ اكتشاف الطفل لطبيعته ونفسه تحتاج إلى تحدي شخص ما أو شيء ما من حوله، لذلك فهو يحتاج في بعض الأحيان لأن يغضب أو قد يكره ويشتم ويعبّر عن حنقه وعدم رضاه بطريقةٍ عنيفة نوعًا ما. وبالتالي فهو أمرٌ حيويٌّ بالنسبة للوالدين لكي يسمحوا لطفلهما بالغضب والتعبير عن ذلك. فهذا النوع من المشاعر يقوّي إلى حد كبير قدرته على رؤية أنّ ما يشعر أنه صحيح ليس بالضرورة حقيقيّ، وبالتالي ثمة العديد من الطرق التي يمكن من خلالها تعليمه حقيقة مشاعره بعيدًا عن قمعه أو توبيخه أو ضربه.
توجّس وينيكوت من فكرة “الطفل الجيّد” أو “الطفل المطيع” ومن محاولة الآباء لإخضاع أبنائهم لقواعدهم
ومن هنا، توجّس وينيكوت من فكرة “الطفل الجيّد” أو “الطفل المطيع” ومن محاولة الآباء لإخضاع أبنائهم لقواعدهم. فهذا، وفقًا لصياغة وينيكوت، يؤدي إلى ظهور “النفس الزائفة”، وهو المصطلح الذي استخدمه لوصف الشخصية التي تكون جيدة ظاهريًا ولكنها تعمل على قمع غرائزها الحيوية داخليًا، وبالتالي فهي لن تكون قادرة على معرفة أيّ من المشاعر الإيجابية كالحبّ والكرم والتسامح والتعاطف لأنه لم لم يُسمح له تمامًا باستكشاف نقيضها مثل الأنانية والكراهية وغيرها. ولهذا لن يتمكّن الطفل من توليد “الذات الحقيقية” إلا من خلال التوعية المناسبة واليقظة الحقيقية للمشاعر بكافة تناقضاتها.
لن يكون الطفل قادرًا على معرفة أيّ من المشاعر الإيجابية كالحبّ والتعاطف لأنه لم لم يُسمح له تمامًا باستكشاف نقيضها مثل الأنانية والكراهية وغيرها
وفقًا لنظرية وينيكوت، فإنّ البالغين غير القادرين على الإبداع والتطوّر والنموّ النفسيّ والعاطفيّ السليم، هم غالبًا أبناء لآباءٍ حاولوا تحويل أطفالهم إلى “أبناء جيّدين” وفقًا لمعاييرهم وقواعدهم الصارمة، وبالتالي فقد قتلوا قدرتهم على أنْ يكونوا “جيدين” بشكلٍ صحيح وسليم في مراحل حياتهم التي تلت الطفولة.
ولتوضيح الصورة أكثر، فقد يحاول الوالدان، بقصدٍ أو بدونه، إجبار الطفل على أن يكون مبتهجًا للغاية مما لا يمنحه الوقت الكافي لمعالجة مشاعره الكئيبة. أو قد يسعان إلى خلق شخصيةٍ مرتبة ومتزنة وفقًا لمزاجهما، دون السماح لمزاجه الفوضويّ بالخروج للسطح لاستكشافه وتجربته لعلّه يجد ذاته فيه.
عندما يُمنح الطفل الفرصةَ لاستكشاف ذاته الحقيقية وتجربتها، فلن يحتاج في كلّ مناسبة إلى التمرّد واللجوء إلى العنف والغضب للتعبير عن نفسه ورغباته
وبالنهاية، يمكن أنْ تقدّم نظرية وينيكوت لنا بعضًا من الرضا والواقعية بافتراضه أننا جميعًا سنمرّ عبر مراحل من الأنانية والكراهية والغضب وبعض المشاعر السلبية لاستكشاف نقيضاتها الإيجابية، لأنه ببساطة لا توجد طريقة أخرى لذلك. وإذا لم يتمّ لنا السماح بالمرور بهذه المرحلة، فقد تكون النتيجة التي وصلنا إليها غير مُرضية، فنصبح غير متوازنين وغير قادرين على التعامل مع العالم الخارجيّ من حولنا بطريقةٍ صحية وواعية. وعندما يُمنح الطفل الفرصةَ لاستكشاف ذاته الحقيقية وتجربتها، فلن يحتاج في كلّ مناسبة إلى التمرّد واللجوء إلى العنف والغضب للتعبير عن نفسه ورغباته واحتياجاته ومحاولته لتحقيقها وإشباعها بطرقٍ سلبية.