تمكنت الدولة العثمانية من فرض سيطرتها على مناطق شاسعة من العالم لفترة زمنية طويلة، ومن أهم هذه الأماكن التي صنفت على أنها ولايات عثمانية هي دول البلقان التي خضعت للحكم العثماني تدريجيًا ولفترات متفاوتة، فعلى سبيل المثال كانت البوسنة والهرسك من أكثر الدول خضوعًا لإدارة وثقافة الإمبراطورية، فلقد حكمتها لمدة 400 عام أما كرواتيا بقيت تحت جناح العثمانيين ل 150 سنة فقط.
وبصفة عامة، استطاعت الدولة العثمانية أن تغير الكثير من ملامح هذه الدول وتضيف إليها طابعها الإسلامي، كما أنها أغنت لغاتها بالعديد من الكلمات التركية، إذ تشير بعض المصادر إلى أن اللغات المتحدثة في تلك المناطق تحتوي تقريبًا على نحو 3 آلاف كلمة من أصل تركي مع اختلاف بسيط في اللفظ، وبعض الكلمات الإيطالية نتيجة للتقارب الجغرافي.
اللقاء الأول على الأراضي الكرواتية
الكروات خلال معركة “كربافا” مع العثمانيين
في القرن التاسع الميلادي، رفع الملك تومبسلاف من شأن كرواتيا فحولها إلى مملكة لما يقرب قرنين من الزمن إلى أن دخلت في اتحاد مع مملكة المجر لمواجهة الفتح العثماني في معركة “كربافا” عام 1493، أي في الوقت الذي كان فيه بايزيد الثاني هو السلطان الحاكم في الإمبراطورية.
نجح الجيش العثماني بقيادة يعقوب باشا الخادم في هزيمة الجيش الكرواتي، ليس فقط بسبب مهارة الفرسان العثمانيين بل لانتشار أنباء مبكرة حول نجاح القوات العثمانية في اجتياح الأراضي الكرواتية؛ ما أحبط من عزم المقاتلين الكروات وسنح للعثمانيين السيطرة على بعض مدنها.
هذه المعركة الحاسمة تسببت بتغييرات ديموغرافية وسياسية وثقافية ومذهبية هائلة، فبالرغم من بداية هذه العلاقة بتجربة مؤلمة وعدائية إلا أن كرواتيا شهدت فترات طويلة من السلام الاجتماعي والتعاون التجاري
المعركة الثانية هي كليس عام 1524م، انتهت بانتصار الجيش الكرواتي على العثمانيين، لكن هذا الانتصار لم يؤت ثماره بسبب وفاة الزعيم الكرواني بيتر كروزيتش ما شجع الجيش العثماني على هزيمة الجيش الكرواتي والمجري واحتلال مناطق أخرى من البلاد. جدير بالذكر أن الدولة العثمانية لم تسيطر على جميع أراضيها خاصة المدن السياحية والجزر.
هذه المعركة الحاسمة تسببت بتغييرات ديموغرافية وسياسية وثقافية ومذهبية هائلة، فبالرغم من بداية هذه العلاقة بتجربة مؤلمة وعدائية إلا أن كرواتيا شهدت فترات طويلة من السلام الاجتماعي والتعاون التجاري بين الطرفين، ولا سيما في القرن التاسع عشر عندما فتحت الإمبراطورية العثمانية حدودها أمام رؤوس الأموال الأجنبية والخبراء والعمال، فبدأ الكروات الهجرة بأعداد كبيرة إلى المدن المركزية والكبيرة مثل إسطنبول بحثًا عن عمل.
ماذا بقي في كرواتيا من التاريخ العثماني؟
وثائق تاريخية عثمانية وجدت في كرواتيا
احتوت مدينة أوسيك على الأغلبية التركية خلال فترة الحكم العثماني، حتى أنها كانت تبدو كمدينة أناضولية وسط أوروبا، إلا أن جميع المباني ذات التراث المعماري العثماني دُمرت بعد دخول المدينة تحت الحكم النمساوي المجري، وبنيت على أنقاضها مبان جديدة.
في المقابل، لا زالت تحتفظ البلاد بقريتي “إسلام غريك” و”إسلام لاتين” بالرغم من تبدل التوجه الديني للسكان من الإسلام إلى المسيحية الأردثوكسية والكاثولكية، ويعتقد بأنهما القريتان الوحيدتان اللتان تحملان اسم “الإسلام” في منطقة غابت عنها مظاهر الإسلام بعد خروج العثمانيين منها عام 1547.
لم تشهد هذه البقعة تحولات دينية فقط، فقد حدث فيها نزاعات طائفية بين الأردثوذكس والكاثوليك، فتم فصل المنطقة إلى قريتين لكل فئة من السكان
تتشكل حدود هذه المنطقة التي اسماها العثمانيون “سد الإسلام” مع مدينة البندقية الإيطالية، لذلك عندما سيطر أهل البندقية على المنطقة عام 1647 ساد فيها الدين المسيحي من جديد بعد أن كان السكان من الأغلبية المسلمة. حيث لم تشهد هذه البقعة تحولات دينية فقط، فلقد حدث فيها نزاعات طائفية بين الأردثوذكس والكاثوليك، فتم فصل المنطقة إلى قريتين لكل فئة من السكان، وهذا بعد سنوات من عيش المسلمين فيها على اعتبار أنها منطقة استراتيجية لحدودها الفاصلة بين الدولتين العثمانية والإيطالية.
كما تشير المصادر التركية إلى وجود منازل ومقابر ومسجد في هذه القرى التي رحل سكانها المسلمين عنها مع انتهاء الحكم العثماني فيها وبداية حكم الإمبراطورية النمساوية المجرية. وبالرغم من انتشار المباني والآثار العثمانية في فترة الحكم، لم يبق سوى 3 مساجد من أصل 250 مسجدًا، إذ تعرضت البقية إلى الهدم مثل مسجد “قاسم باشا” الذي كان يقع بالجوار من كنيسة “سانت ميخائيل أركانجيل”، ومن هنا تحدثنا المصادر التاريخية أن ما يميز هذا المكان هو اجتماع المسلمين والمسيحيين في ذاك الوقت لأداء شعائرهم الدينية في معبدين قريبين، وذلك حتى القرن السادس عشر.
بالنسبة إلى البقية الأخرى، فلقد تم تحويل بعضها إلى كنائس مثل “جاكوفا” و”كليس” و”درنيش”، إلى جانب خان سليمان الذي بات يُعرف بدير الفرنسيسكان، مع العلم أن معظم هذه المباني ظلت محافظة على طرازها العثماني على الرغم من التعديلات والإصلاحات المعمارية التي أدخلت عليها.
الإسلام يحظى باعتراف السلطات الرسمية بفضل قرار الإمبراطورية النمساوية المجرية، وذلك ما حول مسلمي كرواتيا إلى مجموعة إثنية قليلة بلغ تعدادها نحو 62.977 مسلماً وفقًا لإحصاءات عام 2011
جدير بالذكر، أن كرواتيا لديها العديد من المحفوظات التاريخية التي تحتوي على الآلاف من الوثائق العثمانية، ومنها مجموعة من القوانين التجارية التي حكمت القطاع في ذاك الوقت، وبعضها الآخر مراسلات بين السلاطين تتداول أخبار عن العلاقات الدبلوماسية بين الحكام في 4 آلاف وثيقة تقريبًا.
ومع غياب هذا الوجه التاريخي، إلا أن الإسلام يحظى باعتراف السلطات الرسمية بفضل قرار الإمبراطورية النمساوية المجرية، وذلك ما حول مسلمي كرواتيا إلى مجموعة إثنية قليلة بلغ عددها نحو 62.977 مسلماً وفقًا لإحصاءات عام 2011، 60% منهم ينتمون إلى القومية البوشناقية وهي ثاني أكبر أقلية قومية في البلاد.
وحاليًا، تجتهد الجمهورية التركية في المحافظة على علاقة تجارية ودبلوماسية ودية بينها وبين كرواتيا، إذ تعتبر تركيا ثالث أكبر مستثمر في كرواتيا التي تراها ملجاً للأهداف التركية الاقتصادية خلال السنوات القادمة.