ترجمة وتحرير: نون بوست
احتدت النقاشات في تونس حول جملة من الإصلاحات الاجتماعية، التي اقترحتها لجنة الحريات الفردية والمساواة. ومن بين هذه الإصلاحات، أثارت مسألة المساواة في الميراث بين الرجل والمرأة جدلا واسعا في أوساط المؤيدين والمعارضين. وفي ظل ردود الفعل العنيفة والقاسية، هل يُمكن أن تستمر مناقشة المواضيع الشائكة دون أن تنتج عنها اضطرابات اجتماعية أو ممارسات قمعية؟ في الآونة الأخيرة، بدأت تونس في طرح مواضيع “محرمة” لطالما تجنبت الخوض فيها.
هل يجب إقرار مبدأ المساواة بين الرجل والمرأة في الميراث؟ والحد من نفوذ الأب الذي يحتل مكانة “رب الأسرة”؟ وإلغاء تجريم المثلية الجنسية؟ وإعادة النظر في فترة العدة (وهي فترة التي يجب أن تنتظرها المرأة قبل أن تتزوج ثانية)؟ وإلغاء عقوبة الإعدام؟ في منتصف شهر حزيران/ يونيو، نشرت لجنة الحريات الفردية والمساواة، التي تضم مجموعة من الخبراء تم تكوينها بمبادرة من رئيس الدولة الباجي قائد السبسي، تقريرا تقترح من خلاله فتح الحوار حول بعض الممارسات التي تفرضها تقاليد البلاد.
منذ ذلك الحين، احتدت النقاشات حول هذه المسائل الحساسة. وقد سعت رئيسة هذه اللجنة المحامية والمدافعة عن حقوق المرأة، بشرى بلحاج حميدة، إلى شرح مضمون هذا التقرير ورفع كل لبس يحيط به، فضلا عن تبديد الشكوك المتعلقة بهذه الإصلاحات في كل حضور لها في منتديات أو برامج إعلامية تطرح هذا الموضوع.
المحافظون، الذين يمتلكون شعبية واسعة، فقد رفضوا هذه الإصلاحات وعارضوها باسم “الهوية الدينية لتونس”
في الواقع، رحب الليبراليون والتقدميون الذين يُمثلون نسبة هامة من التونسيين، بهذه المقترحات التي تستند إلى مبادئ دستور سنة 2014، المتمثلة في “حرية الضمير” (الفصل السادس) و”المساواة بين المواطنين أمام القانون دون تمييز” (الفصل 21).
أما المحافظون، الذين يمتلكون شعبية واسعة، فقد رفضوا هذه الإصلاحات وعارضوها باسم “الهوية الدينية لتونس”، مدعمين موقفهم بما ورد في الدستور مثل مبدأ “الدولة تحمي الدين” (الفصل السادس) وأن “الأسرة هي الخلية الأساسية للمجتمع” (الفصل السابع). وفي الوقت الذي يعترف فيه “بالنوايا الإيجابية للتقرير”، يشدد أستاذ الدين أحميدة النيفر، على ضرورة أن “تحترم الحريات الفردية الاحتياجات الاجتماعية”.
تلاعب
يحرض راديكاليو الشق المحافظ الأكثر تطرفا الرأي العام التونسي على مواقع التواصل الاجتماعي أو في المساجد من خلال إثارة مخاوفهم بشأن هذه الإصلاحات. وعادة ما يعمدون إلى تشويه مضمون الإصلاحات التي تقدمت بها لجنة الحريات الفردية والمساواة. وعلى الرغم من غياب كل الأدلة، إلا أن البعض يُسندون لهذه اللجنة مشروع خفيا ينص على منع الختان أو تقنين زواج المثليين.
حيال هذا الشأن، أفادت السيدة بشرى بلحاج حميدة، التي تعرضت إلى العديد من التهديدات، بأنه “يتم التلاعب كثيرا بهذا الموضوع. فأنا أتلقى رسائل تدعوني “بالكافرة”. وهناك دعوات لقتلي أو رجمي أو حتى إلقاء ماء النار علي”. وتخضع السيدة بلحاج حميدة لمراقبة أمنية بشكل سري، بينما خرجت الأسرة التقدمية التونسية من صمتها وبدأت في التعبئة الشعبية لصالحها.
أدى “الربيع” الثوري لسنة 2011، الذي كان نتاج تحركات شبابية اجتماعية، إلى تبني قضية الحقوق السياسية بشكل خاص
على الرغم من المبالغة، إلا أن المناقشات متواصلة في انتظار ترجمة هذه المقترحات إلى تشريعات، الأمر الذي لازال غير مؤكد في هذه المرحلة على الأقل. وفي الحقيقة، يبدو مثل هذا الطرح الجماعي العميق لمسألة العلاقات بين الفرد والمجتمع غير مسبوق في تونس.
من المؤكد أن الأوضاع تشهد تغيرا مستمرا. أدى “الربيع” الثوري لسنة 2011، الذي كان نتاج تحركات شبابية اجتماعية، إلى تبني قضية الحقوق السياسية بشكل خاص. وقد صرف الهوس ببناء المؤسسات النظر عن قضايا أخرى تتعلق بالحياة الخاصة والأسرية، علاوة على الحق في سلامة الجسد. وبعد سبع سنوات، توسعت دائرة النقاش في مجال بالحقوق الفردية والتمييز بين الجنسين.
المساواة في الميراث
كانت تونس رائدة بالفعل في هذا المجال، فقد جعل الحبيب بورقيبة، “أبو الأمة”، البلاد في صدارة العالم العربي الإسلامي في مجال حقوق المرأة من خلال فرض مجلة الأحوال الشخصية الشهيرة منذ استقلال البلاد سنة 1956. كما ألغى تعدد الزوجات وسنّ الطلاق القضائي، ليحل محل الطلاق اللفظي. كما وضع الحد الأدنى لسن الزواج (15 سنة بالنسبة للمرأة الذي أصبح فيما بعد 18 سنة) فضلا عن فرض الحصول على موافقة الزوجين قبل العقد.
على الرغم من أنه أسس لما يُطلق عليه “نسوية الدولة” ( كما مثل وضع المرأة التونسية الضامن الدولي الذي حمى أنظمة بورقيبة وبن علي الاستبدادية) إلا أن هذه المجلة قد فقدت إشعاعها على مر السنين. وقد انتقدت المدافعات عن حقوق المرأة المنتميات للجيل الجديد هذه النصوص القانونية، لأنها غير مكتملة. ويعود ذلك لسبب تنظير هذه المجلة لمفهوم “رب الأسرة”، وعدم تطرقها لمبدأ المساواة في الإرث. وقد مثل هذا المبدأ، الذي ترث بموجبه النساء نصف نصيب الرجال الذين تربطهم بهن نفس صلات القرابة، ثمرة الاجتهاد في تفسير القرآن الكريم.
تُفيد سلوى الحمروني، أستاذة القانون وعضوة في لجنة الحرية الفردية والمساواة، بأن “الأمر يتعلق بتقديم مقترح بأخف الأضرار، في حال عدم وجود اتفاق سياسي على المساواة المطلقة”
يرغب رئيس الدولة الحالي في إكمال ما بدأه بورقيبة. ويبدو أن السبسي، البالغ من العمر 91 سنة، الذي بدأت رئاسته للبلاد في نهاية سنة 2014، يريد أن يُخلد التاريخ اسمه من خلال ترك إنجاز مبتكر أكد مقربون منه أنه يتعلق بمسألة المساواة في الميراث.
لكن كيف سيتم التوصل إلى إجماع في الآراء مع المحافظين حول هذه القضايا التي تهز التقاليد الإسلامية؟ فرضت الحسابات البرلمانية التعاون بالفعل مع حزب حركة النهضة، ذو الخلفية الإسلامية. وإذا كان هذا الحزب قد نفض الغبار عن هويته الأصلية، فلا يُمكن لقيادته تجاهل كره أو عدائية قاعدته الانتخابية العامة للفكر الذي تضمنه تقرير لجنة الحريات الفردية والمساواة.
خطى بطيئة
من أجل تجنب انسداد سبل الحوار، قام فريق بشرى بلحاج حميدة بإيجاد خيارات بديلة، حيث اقترح المساواة في الإرث بين الابن والابنة والأب والأم والزوج والزوجة. وفي الوقت الذي يبدو فيه التوصل إلى اتفاق سياسي بشأن هذا الموضوع أمرا مستحيلا، نص تقرير اللجنة على أن هذا المبدأ لن يُطبق إلا في حال قرر الموصي ذلك. وتحل هذه الحرية في الاختيار (الموكلة للمورث) محل قاعدة المساواة العالمية، حتى تتجنب إثارة حساسيات المحافظين في تونس.
خلافا لذلك، رفض بعض التقدميين هذا البديل الذي اعتبر حلا وسطا لدرء الخلافات على الأقل، واعتبروه تراجعا من قبل “دولة تتخلى عن مسؤوليتها”، من خلال تأسيسها لعلاقات قوة داخل العائلة. وتُفيد سلوى الحمروني، أستاذة القانون وعضوة في لجنة الحرية الفردية والمساواة، بأن “الأمر يتعلق بتقديم مقترح بأخف الأضرار، في حال عدم وجود اتفاق سياسي على المساواة المطلقة”. وتنطبق أطروحة “أفضل من لا شيء” على هذا الأمر. وعلى الرغم من العراقيل، إلا أن تونس تتقدم بخطى بطيئة. ولهذا السبب يحلم بعض المتطرفين برجم بشرى بلحاج حميدة.
المصدر: لوموند