سيسير أحدهم في طرقات التاريخ وينادي “بلاد تائهة يا محسنين.. من عثر على بلاد تائهة اسمها تونس وقد كانت بلاد ثائرة حتى فقدت الطريق”، الصورة حزينة تفتح على جنازة تاريخية ولكنها ليست مجانبة للواقع الآن وهنا، فقد ضيعت الطبقة السياسية بلادها وهي تدفع شعبها إلى الإحباط الأقصى أو الجنون المدمر.
لنتذكر فقط أن حافظ قائد السبسي ابن الرئيس لم يكن شيئًا مذكورًا سنة 2011 وهو اليوم فاعل رئيسي يخرب المشهد ليكون رئيسه، فعدنا نقارنه بزوجة الرئيس السابق متندرين بأنها على الأقل كانت تملك صورة تلفزية يمكن ألا تزعج المشاهد في شريط الأنباء الرئيسية، أما الحرص المرضي على التحكم بالبلد بلا برنامج ولا رؤية فقد صار متلازمة (سندروم) ملازم للنخبة التونسية والفوارق بينها في الدرجة لا في المبدأ.
تفكك حزب النداء كارثة
من زمان غادرنا الوضع الثوري الذي كنا نحلم فيه بأن نرى المنظومة الحاكمة منذ ستين سنة قد دمرت تحت ضربات الثوار، لم يكن ذلك بهوى الثوار الذين خلخلوا النظام وقطفوا رأسه، لقد غدر بهم من طيبة أو من غفلة لا يهم فالنتيجة واحدة الآن وصلنا إلى مرحلة نتمنى فيها أن تظل المنظومة متماسكة وتشارك في الحكم حتى لا تتحول إلى ذئاب منفردة تخرب الإدارة وتبتز من قد تسول له نفسه الحكم بعدها.
خافت المنظومة فاختفت (لبست السفساري) ثم التفت وعادت فعاد إلينا الخوف، نحن نراها الآن تتفكك في شخص ممثلها الحزبي (حزب النداء) وعوض الإجهاز عليها صرنا نخاف عليها أن تذهب غبارًا في الريح، لقد حولت النخبة السياسية التي كانت ذات يوم تعارض هذه المنظومة عدوها القديم إلى شرط لبقاء الدولة بعد أن كانت تراه سببًا في خرابها، وهذا وضع درامي سيسجل التاريخ أنه قمة المهزلة.
من أسباب تفكك المنظومة عودة قيادتها وجملة مكوناتها في مختلف المواقع إلى طبيعتهم الحقيقية التي سأسميها الغنيمة
هناك أسئلة ضرورية هنا: لماذا تتفكك المنظومة؟ وما سينتج عن ذلك؟ ولماذا لا تغتنم الأحزاب المعارضة الوضع لتجهز عليها وتتقدم في بناء الديمقراطية دونها؟
أما عن أسباب تفككها فهي باختصار عودة قيادتها وجملة مكوناتها في مختلف المواقع إلى طبيعتهم الحقيقية التي سأسميها الغنيمة، فلا شيء جمّع التجمعيين وقبلهم الدساترة (حزب بورقيبة) غير الغنم من الدولة بدرجات وكل حسب الموقع الذي يحوزه في الإدارة ومواقع النفوذ، كان النظام يجازي بالولاء لا بالكفاءة وكان ذلك كافيًا ليجذب كل الطامعين في مكسب مهما قل، فمن عمل الفقراء المعدمين في حظائر التنمية إلى تملك الوزارات ومواقع القيادة كل غنم كان يمر بالشعبة الحزبية (انخرط في الحزب تكسب ذهب).
بعد الثورة وبعد أن تبين أن في البلد شركاءً قد يقسمون مع مكونات المنظومة أو في أضعف الإيمان يمنعونها من أن تحوز كل شيء قلّت الغنيمة فاختصموا، وخصوماتهم الآن هي خصومات على مواقعهم ومكاسبهم قبل أن تستولي عليها أطراف أخرى بدت لهم من القوة بحيث يرتعبون، هم الآن يسارعون إلى خلق وضع يعود لهم وحدهم بالفائدة التي ما زلت كثير من أسبابها بين أيديهم، فكيف يستقيم ذلك وهم يقسمون حزبهم الذي حكموا به بعد 2014.
المكسب الثوري المتأني رغم كل العثرات هو أن وضع الاستقرار صار يهدد مكونات المنظومة لأنه وضع يتدرج في بناء مؤسسات، كان هذا واضحًا قبل الانتخابات البلدية، فقد بذلت جهود كثيرة لتخريب المسار الانتخابي المؤدي إليها ولكنها فشلت فأنجزت الانتخابات وتبين أن الناس رغبوا عن المنظومة وأسقطوها في مواقع كثيرة.
إن وقوف حزب النهضة حتى الآن وبقوة مع بقاء حكومة الشاهد رغم صعوبات الحكم والنتائج غير المرضية يؤدي إلى المزيد من الاستقرار المفضي إلى المزيد من تركيز المؤسسات الديمقراطية
خسران المنظومة لأحد مواقع الغنيمة الوفيرة (البلديات) قرأته المنظومة قراءة سليمة، فالاستقرار السياسي النسبي أدى إلى خساراتها (ومعناه بالاستنتاج أن الاستقرار الكامل يجهز عليها)؛ لذلك لم يبق لها إلا معاودة الكرة للتخريب وهنا وصل التخريب إلى داخل المنظومة نفسها، فانقسمت على نفسها وتبين أن بعض مكوناتها يريد أن يغنم بالاستقرار ما قد يستحيل أن يغنمه بالفوضى والتخريب.
لماذا انقسمت؟ ببساطة لأنه صار بالبلد شركاء أو شريك بالتحديد لا يمكن إلغاؤه هو حزب النهضة، لقد دخل عليهم حزب النهضة الباب، فوجدوا أنفسهم يختصمون حوله، ووجد بعضهم أنه صار ضمانة استقرار جيدة وقابلة لقسمة الغنائم أو على الأقل توزيعها على قاعدة من قانون أي طبقًا لعمل المؤسسات.
إن وقوف حزب النهضة حتى الآن وبقوة مع بقاء حكومة الشاهد رغم صعوبات الحكم والنتائج غير المرضية يؤدي إلى المزيد من الاستقرار المفضي إلى المزيد من تركيز المؤسسات الديمقراطية بما يعني قطع كل طريق على الفوضى والتدرج ولو بزمن طويل (أطول مما يحتمل التونسيون دون شك) إلى حالة من التقدم (غير مهم السرعة هنا إذا لم تكن رجوعًا إلى الوراء).
ماذا سينتج عن تفكك النداء؟
بعض خير وشر كثير؛ أما الخير فهو أنه بعد تجمع الندائيين في النداء ثم فشلهم في تحويله إلى حزب يحكم على مدى طويل لن يكونوا قادرين على التجمع ثانية، فقد صار بأسهم بينهم شديد وسيذهبون فلولاً متناثرة وكل تشتت للمنظومة هو مكسب للثورة وإن تأخر ودفع فيه ثمن كبير.
أما الشر فهو أنهم سيتحولون في مواقعهم المكتسبة بعد إلى أداة تعطيل للدولة وليس فقط للنظام السياسي، فما نسميه بالإدارة العميقة لا يزال تحت سيطرة الكادر التجمعي القديم (الندائي لاحقًا) الذي يعرف أن هذه آخر أيام مكاسبه من الإدارة ولن يسمح لأحد بالحكم إذا لم يتصدر هو مواقع الفائدة والغنم.
أخذت النقابة البلد رهينة منذ لم تجد نفسها فاعلة بعد انتخابات 2011 فعطلت كل مسار ممكن وأخيرًا وجدناها تقف في صف ابن الرئيس ضد كل احتمالات الاستقرار
ويجب أن نركز الانتباه هنا إلى انكشاف جزء مهم من المنظومة كنا نعتقد أنه قيادة ثورية، إنه الاتحاد العام التونسي للشغل الذي طالما روج أنه نقابة تقدمية تعمل على تثوير المجتمع والتقدم به نحو العدالة، فالاتحاد اليوم يقف مع شق الفوضى الداعي لإنهاء المسار الانتخابي، لقد خدع الكثيرون في الاتحاد والحمد لله لم نكن من ضمنهم، فانكشف كمنظمة تعمل على مصالح قيادتها المتهمة بالفساد.
وقد أخذت النقابة البلد رهينة منذ لم تجد نفسها فاعلة بعد انتخابات 2011 فعطلت كل مسار ممكن وأخيرًا وجدناها تقف في صف ابن الرئيس ضد كل احتمالات الاستقرار، فإذا أضفنا إليها قدرة الإدارة العميقة على التعطيل فإن أطراف التخريب قد اجتمعت في سقيفة واحدة منذرة بالمزيد من التخريب لما يمكن أن ينتج عن انتخابات 2019، يوجد هنا منطق عدمي يظهر في تعبيرات ابن الرئيس وشقه من النداء، إما أن أحكم أو أحرق البلد، وليست صدفة أن يكون اليسار التونسي واقفًا الآن في صف ابن الرئيس متخفيًا في قيادة الاتحاد، وهذا يمهد للإجابة عن السؤال الأخير: لماذا لا تتحد معارضة النظام السابقة للإجهاز على المنظومة؟
الوضع مفيد للنهضة.. إذن لن نجهز على المنظومة
في تطور الأحداث الحاليّ تحول حزب النهضة إلى عنصر رئيس في المشهد، فلا يمكن إبرام أمر دون موافقته، وكلما استمر الاستقرار السياسي زاد نفوذ الحزب وتمكن من مواقع تأثير إضافية، وقراءة المعارضة لذلك هي أن تفكك النداء يصب في مصلحة النهضة وعليه فإن النداء يصبح ضحية النهضة (لم يعد التونسيون ضحية المنظومة التي يقودها النداء)، تم نقل المشكل فصار النداء ضحية وصارت المعارضة تتهم النهضة بتخريب المرحلة.
أما السؤال: لماذا الحرص على مصلحة النداء؟ الإجابة أن المعارضات القديمة التي لم تفلح في حوز قدر من السلطة في انتخابات 2011 و2014 لا تزال عاجزة عن نيل شيء ذي بال في 2019 وعليه فإن قراءتها قادتها وتقودها إلى الهروب من النهضة (الحزب الحاكم القادم) إلى الحزب الحاكم السابق أي أنها رغم الغلاف التقدمي واليساري والعروبي التقدمي تتحول فجأة إلى كتل وبؤر محافظة لن يبقى لها من خيار إلا التجميع من فلول النداء ومعها التي زعم بعضها مقاطعته في الانتخابات البلدية ورفض التنسيق معه في المجالس المنتخبة، وستتحول إلى قوة تعطيل وراء النقابة وليس قوة بناء بجوار النهضة.
آخر الأمل أولئك الأفراد الذي لم يسمحوا للدولة بالانهيار وسيدفعون بجهدهم القليل والفردي غالبًا إلى مزيد من المكاسب، خاصة بعد أن غسلوا أيديهم من الحزيبات النخبوية الكافرة
بلد تائه ونخبة تموت
حسم الجمهور الناخب رغم ضعف المشاركة في مصير المنظومة وسيحسم في 2019 في مصير المعارضة التي لا تعالج ولا تسمح للمريض بالشفاء، أمور كثيرة من أمور الثورة تتم بهدوء وبنسق أقل من طموح الناس ولكنها في الأخير تتم في مفاصل كثيرة من الدولة توجد إرادات خيّرة تدفع إلى التغيير ونحن نكتب هذا والأخبار تترى من محاكم القصرين وبوزيد وقابس عن محاكمة قتلة شهداء الثورة وممن سبقهم من ضحايا المنظومة.
آخر الأمل أولئك الأفراد الذي لم يسمحوا للدولة بالانهيار وسيدفعون بجهدهم القليل والفردي غالبًا إلى مزيد من المكاسب خاصة بعد أن غسلوا أيديهم من الحزيبات النخبوية الكافرة بالتغيير رغم الخطاب الثوري، وإن غدًا لناظره قريب.