يمضي هروست زيهوفر وزير الداخلية الألماني في طريقه لاستنزاف سمعة بلاده الدولية والحقوقية، بسبب إصراره على فلسفته النازية في تأديب اللاجئين الذين تفرقت بهم السبل، وبعد إعلان ما يسمى بالخطة الشاملة للهجرة التي طرحها قبل أيام وأثارت ضجة كبرى حتى داخل الحكومة الألمانية، بسبب بنودها القاسية والصراع السياسي الذي تفجر بين حزبه وحزب ميركل المستشارة الألمانية ولجوء الطرفين للتهدئة، عاد ليؤكد في مناورة سياسية جدية أنه لا غنى عن الخطة وسيدخلها بالقوة الجبرية حيز التنفيذ.
بنظام حدودي جديد على الحدود الألمانية النمساوية، يضع زيهوفر أولى لمساته العنصرية لمنع دخول طالبي اللجوء الذين تختص دول أخرى في الاتحاد الأوروبي بإجراءات لجوئهم، ومن أجل ذلك قرر إنشاء مراكز عبور حصنها بالقوة والحسم العسكري والقانوني، لإعادة طالبي اللجوء بكل الطرق إلى الدول المختصة بهم، وكأنهم قطعان ماشية تتقاسمها دول أوروبا التي تتحمل النصيب الأكبر من تفجر هذه الأزمة، بسبب تآمرها وتوفيرها ملاذًا آمنًا للإرهاب وتمويله وفتح أسواق سوداء خلفية لتمرير ما ينهبه من خيرات الشعوب المكلومة.
يحاول وزير الداخلية الألماني الذي يحمل سيرة ذاتية تؤكد تمتعه بخبرة سياسية وتنفيذية طويلة، بداية من تولى منصب رئيس ألمانيا مؤقتًا خلفًا لكريستيان فولف، مرورًا بشغل منصب الوزير الاتحادي للصحة والضمان الاجتماعي خلال الفترة بين عامي 1992 و1998، ليصبح بين عامي 2008 و2014 الوزير الاتحادي للأغذية والزراعة وحماية المستهلك، وكان عام 2008 علامة فارقة في مسيرته بعدما أصبح رئيسًا لحزب الاتحاد الاجتماعي المسيحي، إلا أن كل هذه المناصب، فضلًا عن انتمائه لحزب ينتمي إلى قيم مسيحية عليا، لم تؤثر في تشكيل هويته الإنسانية، ودائمًا ما يكون سببًا في إثارة الجدل له ولحزبه الذي يدعمه هو الآخر لحسابات سياسية براجماتيه بحتة.
كان زيهوفر الذي يتحكم إلى جانب منصبه وزيرًا للداخلية في كرسي حكم ولاية بافاريا، هدد بإغلاق حدود البلاد الجنوبية في وجه طالبي اللجوء القادمين من دول أوروبية أخرى غصبًا عن ميركل
أسباب احتواء ميركل خلافها مع وزير داخليتها العنصري
لم تجد المستشارة صاحبة الحنكة السياسية بديلًا عن تسوية الأزمة مع وزير داخليتها الذي تغلب العجرفة والتسلط على طباعه وتفرض نفسها على مائدة التفاوض، واتفقت معه على تأجيل الفصل بخلافهما بشأن سياسة اللجوء في ظل تمسك ميركل برفض أي سياسة عنصرية قد تدمر سمعة بلادها، حتى لو تحول الخلاف مع زيهوفر وحزبه إلى كرة لهب كانت ستعصف باستقرار ألمانيا السياسي، وأقر الطرفان الانتظار إلى ما ستسفر عنه القمة الأوروبية المقررة نهاية الشهر الحاليّ.
كان زيهوفر الذي يتحكم إلى جانب منصبه وزيرًا للداخلية في كرسي حكم ولاية بافاريا، هدد بإغلاق حدود البلاد الجنوبية في وجه طالبي اللجوء القادمين من دول أوروبية أخرى غصبًا عن ميركل، ورغم تبريد الأزمة مؤقتًا وربط الخطة بتنسيق أوروبي متكامل سواء اعتمدوا عليها أم أقروا نظامًا جديدًا، فإنه خرج مرة أخرى محاولًا التربح سياسيًا وزيادة شعبية حزبه بالتهديد من جديد باتخاذ سياسات قوية إذا لم تتوصل ميركل لحل موحد لمشكلة اللجوء مع قادة حكومات ودول الاتحاد الأوروبي خلال قمتهم المقررة في 28 و29 من يوليو/تموز الحاليّ.
المستشارة الألمانية من ناحيتها استثمرت سياسات زيهوفر التي يمكن أن تعصف بالوجه السلمي لألمانيا وتعيدها للنزعات النازية التي دمرتها قبل 8 عقود من الآن وجعلتها مكروهة في العالم، وجددت رفضها لأي تهديد بإغلاق للحدود الألمانية دون توافق أوروبي، وهددت باستخدام صلاحيتها لعرقلة أي محاولة لوزير الداخلية بهذا الشأن، خاصة أنه يصر على الاستعراض أمام الرأي العام وإخراج المفاوضات السرية للعلن، وإبراز اللغة التي يستخدمها مع رئيس الحكومة وصاحبة القبضة الحديدية التي أهلتها للبقاء في منصبها لمدة 4 ولايات متتالية.
أخطر البنود التي أغضبت ميركل ودعتها للصدام مع وزير داخليتها البند المتعلق بإغلاق الحدود الذي وفر أرضًا خصبة لسلسلة من التصريحات الهجومية لكل منهما
بحسب وسائل الإعلام الألمانية التي كشفت البنود الـ63 لوزير الداخلية، جاء أكثرها تشددًا على الإطلاق إغلاق الحدود بوجه طالبي اللجوء الذين سبق رفض طلباتهم بألمانيا، وبشكل خاص اللاجئون المسجلون منهم في دول أوروبية أخرى، بجانب عمل تصنيفات متباينة لبعض الدول العربية الآمنة التي ينبغى رفض أي طلب لجوء منها، وبصفة خاصة تونس والجزائر والمغرب، كما حوّل مساعدات اللاجئين من مالية إلى عينية، وربطها بالبقاء 36 شهرًا بدلا من 15 حسب السياسة المطبقة حاليًّا.
أخطر البنود التي أغضبت ميركل ودعتها للصدام مع وزير داخليتها، البند المتعلق بإغلاق الحدود الذي وفر أرضًا خصبة لسلسلة من التصريحات الهجومية لكل منهما، وبسببه توعد زيهوفر رئيسته بتنفيذ خطته دون حاجة لموافقتها، ما أجبرها على الرد والتهديد بإقالته فورًا إذا ما أقدم على ذلك، حتى توصلا في النهاية إلى حفظ ماء وجهيهما وحزبيهما عبر انتظار الرأي الأوروبي في القضية والآليات الموحدة التي سيضعها لتجاوز الأزمة حتى لا تنهار الحكومة الألمانية وتدخل البلاد في نفق مظلم وتضطر إلى إجراءات انتخابية جديدة، قد يتعرض الطرفان فيها لتصويتات عقابية بسبب ضغط الإعلام الإلماني وكشفه كواليس لا علاقة لها بألمانيا ومصالحها، بل المصالح السياسية لميركل وزيهوفر.
الألماني لاجئًا.. كيف تصرف العالم مع ضحايا النازية؟
في الوقت الذي يتخذ فيه زيهوفر إجراءات قاسية ضد إناس ضاقت بهم الحياة، يزخر تاريخ بلاده بالمآسي، ويبدو أنه نسى ما كانت عليه ألمانيا خلال تداعيات الحكم النازي الذي شرد الألمان في أكثر من 80 دولة حول العالم وبأعداد تجاوزت النصف مليون لاجئ، بعدما تسببت الحروب المتتالية لهتلر في قتل وتشريد وهروب الملايين، وكانت هذه التجربة المؤلمة وراء قرار المجلس البرلماني لألمانيا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية بتبني نهج متساهل بشأن حق اللجوء.
مع زيادة ضغوط الإعلام والرأي العام عُدل الدستور بالفعل عام 1993، وبدلًا من حق اللجوء الذي نُص عليه دستوريًا أصبحت القضية تعرف باسم “تسوية اللجوء”
وفر المجلس إطارًا قانونيًا عادلًا يحمي اللاجئين ويضمن تحصينهم عبر إدراجه ضمن الدستور عام 1949، ونصت المادة 16 من دستور ألمانيا الغربية وقتها على حق الأشخاص المضطهدين لأسباب سياسية في اللجوء الفوري لألمانيا، وكان ذلك سببًا في تزايد أعداء اللجوء بشكل غير مسبوق، الأمر الذي أثار غضب الحزب المسيحي الديمقراطي، وكشف الكثير من رموزه رفضهم لهذا القانون وطالبوا بتعديل المادة 16 من الدستور وتقييد حق اللجوء، إلا أن تمرد ألمانيا على اللاجئين ونسيان المحنة الألمانية قوبل برفض تام وغاضب من أحزاب الخضر والديمقراطي الحر والاشتراكي الديمقراطي.
تنازل الحزب المسيحي عن ملاحظاته واستمرت الحياة، ومعها تزايدت الأعداد التي تطلب اللجوء، إلى أن وصلت في مطلع التسعينيات إلى نحو 500 ألف طلب أغلبهم أوروبيين، وخصوصًا ضحايا الحرب الأهلية في يوغوسلافيا، وتسببت الزيادة غير المسبوقة في التشديد على طلبات اللجوء وإطالة فترات الفحص، كانت هذه الفترة بداية ما عرف في ألمانيا بإساءة استخدام حق اللجوء، وبدأت الصحف في عمل استطلاعات رأي لإجراء تعديل دستوري للمادة التي تفتح البلاد على مصراعيها لطالبي اللجوء، وكانت المفاجئة بموافقة نحو 74% من المشاركين في الاستطلاع على تعديل دستوري يقلل عدد طالبي اللجوء.
مع زيادة ضغوط الإعلام والرأي العام عُدل الدستور بالفعل عام 1993، وبدلًا من حق اللجوء الذي نُص عليه دستوريًا أصبحت القضية تعرف باسم “تسوية اللجوء”، ورغم موضوعية الطلب وتفهم دوافعه لحماية المجتمع الألماني، فإنه أسس سريعًا لتفشي جرائم كراهية ضد الأجانب ووقعت حوادث قتل في 7 مدن مختلفة بجميع أنحاء ألمانيا على مدار أشهر متتالية، ولم تستطع السلطات معرفة حقيقة عنصرية تلك الجرائم إلا في 2006.
ولا يمكن إنكار مساهمة القوانين الجديدة لتقنين اللجوء في ألمانيا بحسب العديد من الدراسات في توجيه أنظار طالبي اللجوء إلى دول أخرى بما أثر على انخفاض معدلات الجريمة، بل وانعكست هذه التسوية على أوضاع باقي المهاجرين المقيمين بالفعل، وهو ما دعا المحكمة الدستورية الاتحادية إلى اعتماد التعديلات الدستورية، ورفض طعون نشطاء حقوق الإنسان وبعض الأحزاب ذات النزعة الاشتراكية الرافضة للتعديلات بعدما شككت في دستورية وإنسانية المواد الجديدة، وهو ما يتحقق فعليًا بعدما أصبحت تجر نفس الإجرءات ألمانيا الآن إلى ما هو أسوأ إنسانيًا وحقوقيًا على جميع المستويات.
وحال إقرار خطة زيهوفر، سواء من القمة الأوروبية أم بقرارات ألمانية فردية لتجنب الأزمة السياسية المندلعة حاليًّا، ستصبح مراكز الاحتجاز المزمع إنشاؤها ضمن بنود الخطة الشيطانية لوزير الداخلية وإجراءات الترحيل المهينة والمخالفة للاتفاقيات والقوانين الدولية نقطة تحول خطيرة نحو سيادة النزعة الترامبية الأمريكية، ونقل الفيروس كاملًا إلى المجتمع الأوروبي، بما يضع العالم بأكمله على فوهة بركان بسبب التمحور والتمركز حول الذات، بما يعيد الكرة الأرضية وسكانها إلى كوارث أخطر من تلك التي جرت بسبب نفس المقدمات في بدايات القرن الماضي.