بلغت دولة الموحدين في عهد خليفتها الثالث أبو يوسف يعقوب بن يوسف المنصور عصرها الذهبي وأوج ازدهارها، حيث امتد سلطانها إلى كامل شمال أفريقيا باستثناء، مصر وبلغ ملك المسلمين في عهده في بلاد الأندلس ما لم يبلغه من قبل.
كما بنى القلاع والحصون والمدن، وشيّد المساجد والمستشفيات وغيرها من مظاهر التطور، وأقام المدارس واعتنى بالعلم والعلوم، إلا أن خليفته محمد الناصر لم يحافظ على هذا الملك والتطور، ففي عهده بدأت الدولة في الانهيار نتيجة الهزائم الكثيرة التي تكبّدها.
تأزّم الوضع أكثر في عهد الخليفة الخامس للموحدين أبو يعقوب يوسف المستنصر، فخلال فترة حكمه القصيرة بدأت مظاهر الضعف تنخر أركان دولة الموحدين التي كانت قوة سياسية عظمى، واستغل الإسبان هذا الضعف بغرض السيطرة على الأندلس.
خلافة الموحدين
ما أن عاد خليفة الموحدين الرابع الناصر لدين الله إلى مركز الحكم بمراكش قادمًا من الأندلس إثر موقعة العقاب، حتى أخذ لابنه أبو يعقوب يوسف البيعة بولاية عهده، وكان ذلك في أواخر ذي الحجة سنة 609 هجري، حتى يجهزه لحكم دولة الموحدين.
بأشهر قليلة توفي الناصر لدين الله ولم يتجاوز 34 سنة (10 شعبان 610 هجري)، فتولّى ابنه أبو يعقوب يوسف كرسي الحكم وعمره آنذاك 10 سنوات، ويقول المؤرخ عبد الواحد المراكشي في كتاب “المعجب في تلخيص أخبار المغرب” إن عمره كان 16 سنة (أصغر الحكام في تاريخ الدولة الموحدية)، ومع ذلك كان يتقن فنون البلاغة والخطابة بدرجة كبيرة.
أول من أخذ البيعة الخاصة للخليفة الجديد، عمّ جدّه أبو موسى عيسى بن عبد المؤمن، وأبو زكريا يحيى بن أبي حفص عمر بن عبد المؤمن، ومن أشياخ الموحدين أبو محمد عبد العزيز بن عمر ابن أبي زيد الهنتاني، وأبو علي عمر بن موسى عبد الواحد الشرقي، وأبو مروان عبد الملك بن يوسف من أهل تينملل، ولم تكن هذه بيعة محبة وولاء إنما رغبة في التحكم والسيطرة على كرسي الحكم الموحدي.
بعد هذه البيعة تمّت البيعة العامة للخليفة، ومن ثم بيعة الأعيان والوفود القادمين من مختلف أنحاء بلاد المغرب والأندلس، واتخذ الخليفة الجديد لقب المستنصر بالله.
وما أن تولى المستنصر حكم البلاد حتى أعاد ترتيب الأمور في ولايات الموحدين في الأندلس والمغرب كعادة الخلفاء الذين سبقوه، فيما أبقى للوزارة وزير أبيه وهو أبو سعيد عثمان بن عبد الله بن إبراهيم بن جامع، فاستمر في الوزارة حتى سنة 615 هجري ثم عُزل وخلفه زكريا بن يحيى بن إسماعيل الهزرجى، وهو ابن بنت الخليفة يعقوب المنصور، أي ابن عمة المستنصر، فاستمر في الوزارة حتى نهاية عهده.
حكم الأوليغارشية
خلافة المستنصر كانت فجائية، وهو صغير السن لاهيًا محبًّا للمتعة، ويصف المؤرخ المصري محمد عبد الله عنان في كتاب “دولة الإسلام في الأندلس” الخليفة المستنصر قائلًا: “وكان الخليفة الجديد ميالًا إلى حياة الدعة والبطالة، مشتغلًا عن تدبير الأمور بما تقتضيه نوازع الشباب لا يعنيه شيئًا من مهام الملك، أو بعبارة أخرى لا يمكن من العناية بشيء منها…”.
استغلت حاشيته هذا الوضع، فكانت أمور الدولة بذلك تجري وفقًا لما يراه ويبرمه الشيوخ الذين نصّبوا أنفسهم للوصاية على الخليفة، بداعي صغر سنه وعدم درايته بأمور الحكم وكيفية تسيير مؤسسات الدولة الكثيرة.
ترك الخليفة الموحدي حكم دولته لما يمكن أن نطلق عليه مجموعة من الأوليغارشية المكونين من أفراد الأسرة الأكبر سنًّا، مثل إخوة والده في الأندلس وابن عمه الأكبر أبو عبد الله محمد بن أبي حفص في أفريقيا، فضلًا عن بيروقراطيي قصر مراكش مثل الوزير أبو سعيد عثمان بن جامع وكبار شيوخ قبائل مصمودة والكومي.
استغلت هذه المجموعة قربها من الخليفة وتحكمها في سير دواليب الدولة للحصول على امتيازات جديدة، وتقريب بطانتها من قصر الحكم، وإبعاد المنافسين عن مراكش، وهو ما أثار حفيظة الكثير من شيوخ الموحدين وعامة الناس.
مع ذلك، كانت بداية عهد الخليفة الجديد هادئة بعض الشيء، إذ لم يحصل أي حادث ذي شأن يمكن ذكره، ولم تُحشد الجيوش الموحدية، ولم تنظَّم الغزوات، ولم يعبر الموحدون البحر إلى شبه الجزيرة الإيبرية، وفقًا لما جرى عليه الأمر منذ عهد الخليفة الأول للموحدين عبد المؤمن بن علي.
انتشار بني مرين
لم يبقَ الحال كما هو عليه لفترة طويلة، حيث اندلعت سلسلة من الفتن والتمردات في بلاد المغرب، والتي كان من الصعب على الأوليغارشية الحاكمة احتوائها، ما ساهم في زعزعة حكم الموحدين وتنامي مطامع الراغبين في السلطة.
ففي سنة 613 هجري، ظهرت طلائع بني مَرِين في أحواز مدينة فاس، وهم من شعوب بني واسين من بطون قبيلة زناتة الشهيرة التي ينتمى إليها عدة من القبائل البربرية التي لعبت أدوارًا بارزة في تاريخ المغرب، مثل مغراوة ومغيلة ومديونة وبني يفرن وبني دمر وزواغة وجراوة وبني عبد الواد وغيرهم، وفق المؤرخ التونسي عبد الرحمن بن خلدون.
لكن بنو مرين كغيرهم من الأسر الأمازيغية في ذلك العصر يُرجعون نسبهم إلى العرب، وتحديدًا إلى القبائل القيسية العدنانية، وحدث الأمر نفسه مع المرابطين، إذ ترجع صَنهاجة التي تنتمي إليها لمتونة نسبتها إلى العرب اليمانية، وكذلك الموحدين، حيث يدّعي الأب الروحي للدولة ابن تومرت نسبه إلى آل البيت، فيما يُرجع مؤسس دولتهم عبد المؤمن نسبته إلى قيس عيلان بن مضر بن نزار بن معدّ بن عدنان.
استغل بنو مرين ضعف وتفتت كيان السلطة المركزية لدولة الموحدين، وغادروا القفار وتفرقوا في جهات المغرب الأقصى فاكتسحوا بسائطه، وقبل ذلك كانوا قد استوطنوا الصحراوية الغربية من المغرب الأوسط بين جبل راشد وملوية وفيكيك إلى سجلماسة، وكانوا يعيشون حياة البداوة.
يذكر أن بداية ظهورهم السياسي كانت حين شاركوا في الجهاد ضدّ النصارى في بلاد الأندلس بقيادة محيو بن محمد بن حمامة، وخاضوا معركة الأرك الشهيرة إلى جانب الموحدين، وحينها أُصيب قائدهم بجراح وتوفي بعد عودته إلى المغرب، وتولى الزعامة من بعده ابنه عبد الحق.
أمام تعاظم أمر بني مرين، أرسل الخليفة المستنصر جيشًا من مراكش على رأسه أبو علي بن وانودين لقتالهم والقضاء عليهم، فالتقى الجمعان بوادي نكور لكن النصر كان حليف بني مرين تحت قيادة عبد الحق بن محيو.
فتح هذا الانتصار الباب لبني مرين للعبور في اتجاه الشرق، إذ زحفوا إلى رباط الفتح بعد أن انضمّت إليهم بعض القبائل القريبة منهم، فقُتل عامل المدينة الموحدي وهزموا من كان معه، وفي الأثناء جرت حروب عديدة بينهم وبين قبائل رياح من بني هلال المناصرين للموحدين وقبائل بني عسكر، خلالها قُتل قائد بني مرين عبد الحق محيو وكبير أولاده إدريس، وكان ذلك يوم 22 جمادى الثانية 614 هجري.
لم ينتهِ تمرد بني مرين عند مقتل زعيمهم، إذ بايعوا الأمير أبو سعيد عثمان قائدًا عليهم وأقسموا على الأخذ بالثأر، واستأنفوا القتال ضد الموحدين فأخضعوا عدة مدن وحصون وفرضوا عليها إتاوة سنوية، وعجز يوسف المستنصر عن التصدي لهم.
تمرُّد متواصل
شجّعت هذه الأجواء قبائل وشخصيات أخرى على الثورة وخلع الخليفة الموحدي يوسف المستنصر، ومنهم رجل اسمه عبد الرحمن، ويدّعي أنه من بني عُبيد وأنه ولد الخليفة العاضد بالله آخر خلفاء الدولة الفاطميين الشيعية.
يقول المراكشي واصفًا إياه: “وكان هذا الرجل كثير الإطراق والصمت، حسن الهيئة، لقيته مرتين، فلم أرَ في أكثر من شهدته من المشبهين بالصالحين، مثله في الآداب الظاهرة، من هدوء النفس، وسكون الأطراف، ووزن الكلام وترتيب الألفاظ، ووضع الأشياء مواضعها، مع الرياضة المفرطة”.
وقبل ثورته على ملك الموحدين، كان عبد الرحمن في سجون مراكش بأمر من الخليفة الناصر (سُجن سنة 596 هجري)، وتمّ إطلاق سراحه سنة 601 هجري بطلب من أبو زكريا يحيى بن إسماعيل الهزرجى، على أن يلتزم السكينة، وألا يشتغل بأي أمر غير مرغوب فيه.
بعد أن غادر سجنه واسترد حريته، توجّه عبد الرحمن إلى بلاد صَنهاجة، واجتهد في جذب الناس إليه فجمع حوله جمع غفير، فاتّجه صوب مدينة سجلماسة، فخرج إليه واليها أبو الربيع سليمان بن أبي حفص عمر بن عبد المؤمن، فهزم هذا الأخير واضطر أن يرجع إلى المدينة ويتحصّن وراء أسوارها.
واصل عبد الرحمن التنقل بين القبائل الأمازيغية، رغبة منه في جلبها إلى صفّه، لكن جهوده هذه المرة لم تثمر، إذ رفضت القبائل دعوته، ووصل به المطاف إلى أحواز فاس، حيث قُبض عليه وقُطع رأسه بأمر من الخليفة ليكون عبرة لمن يعتبر.
كما ثار على الخليفة يوسف المستنصر رجلان، أحدهما ببلاد جزولة من سوس المغرب وهي مكانة ولادة دولة المرابطين كان يُدعى بالفاطمي، قُتل وجيء برأسه إلى مركز الحكم بمراكش سنة 612 هجري، أما الآخر فمن صنهاجة قُتل سنة 618 هجري.
بلاد الأندلس
ألهت الفتن والثورات الداخلية خليفة الموحدين عن بلاد الأندلس، فبُعثرت الأوراق هناك وتهاوت سلطة الموحدين، إذ انتشرت الصراعات بين الموحدين على السلطة وبين أبناء الأندلس أنفسهم، وسط تربُّص النصارى بهم.
لكن من حسن حظ الموحدين، طلب ملك قشتالة الافرنجية سنة 612 هجري من الخليفة الموحدي عقد اتفاقية سلم، وبادر الخليفة يوسف المستنصر بالموافقة عليها، وضمنت هذه الاتفاقية سنوات من الهدوء والسلام لبلاد الأندلس.
لسائل أن يسأل لماذا يطلب ملك قشتالة السلام والنصارى لتوهم خرجوا من معركة حاسمة كان النصر حليفهم فيهم، والجواب أن خليفة الملك ألفونسو الثامن المنتصر في معركة العقاب كان ولده الصغير هنري إنريكى ذو الـ 10 سنوات وحتى أمه الملكة إليونور الوصية عليه قد توفيت، فخلفتها في الوصاية أخته دونيا برنجيلا، زوجة ألفونسو التاسع ملك ليون، ونتيجة ذلك عرفت قشتالة صراعًا على الحكم إلى أن تولى فرناندو ابن الملك برنجيلا حكم البلاد، وسيصبح اسمه لاحقًا فرناندو المقدس.
فضلًا عن ذلك، شهدت قشتالة في تلك الفترة -وهي أقوى المملكات الإفرنجية في الأندلس- عوامل ضعف كثيرة، إذ انتشر فيها الوباء وتوفي كثيرون نتيجة ذلك، كما انخفض الإنتاج الفلاحي وهلكت المحاصيل وانتشرت المجاعة بين السكان.
بمعنى آخر، كان النصارى في حالة ضعف، والفرصة كانت سانحة للموحدين حتى ينتقموا من خسارتهم الأخيرة في معركة العقاب، ويعيدوا الأمور إلى نصابها ويسترجعوا ملك المسلمين في بلاد الأندلس، إلا أن الملك يوسف المستنصر ضيّع الفرصة وضيّع معها ثغورًا أخرى.
مقابل ذلك، استغلت باقي المملكات النصرانية ركون الموحدين للسلم، وأغارت على عديد الحصون والقلاع وسيطرت عليها، ومنها قصر أبي دانس الذي سقط سنة 614 هجري، وتقع المدينة جنوب شرقي لشبونة على مصبّ نهر شطوبر على مقربة من المحيط الأطلسى.
رغم هذه الأخبار المحزنة القادمة من الأندلس، إلا أن بلاط الحكم في مراكش لم يتحرك ساكنًا، فالخليفة يوسف المستنصر مكبّ على حياة اللهو، وحاشيته الذين يسيّرون دواليب الدولة غير مبالين إلا بجمع الثروة وتحصيل امتيازات جديدة.
في 12 ذي الحجة سنة 620 هجري حدثت فاجعة في بلاط الملك، حيث توفي الخليفة المستنصر وهو في العشرينيات من العمر، وقد كان قوي البنية إلا أن حياة اللهو الصاخبة حطمت بنيته، ومهّدت الألعاب والرياضات العنيفة التي كان يشغف بها لوفاته الفجائية وفق المراكشي، ومن المؤرّخين من يقول إنه مات مسمومًا ومنهم من يقول إن بقرة ضربته في قلبه فمات على الفور.
الدولة الموحدية دخلت في عهد الخليفة يوسف المستنصر مرحلة جديدة من مراحل الانحلال والتهاوي والاقتتال على العرش، بسبب تفكُّك أسرة بني عبد المؤمن الحاكم لخدمة بطانة همّها الوحيد الامتيازات التي تُمنح لفرقتها، وهو ما عجّل بسقوط الدولة.