“إنها بارعة في التقاط التفاصيل، تلك التفاصيل الصغيرة التي تكفي لتضيء المشهد بأكمله، قادرة على إيجاد تلك الشهادة الواحدة التي تخبرك بالقصة كاملة”، كتب الروائي أورفين والاس في نيويورك تايمز عام 1966 في قراءة أنجزها لأعمال ليليان روس، طريقة روس في الكتابة الصحفية جعلتها مشهورة، هذه الريشة الصحفية المتألقة التي أفنت عمرها في كتابة أخبار العالم بأسلوب أدبي أنيق.
كانت ليليان روس تذهب حدّ كتابة خبر في قالب حوار مسرحي، الخبر لا خيال فيه، لكن الأسلوب يعطيه مذاقًا آخر وتأثيرًا مختلفًا وجمهورًا أوسع، غادرت روس الحياة في سبتمبر من العام الماضي عن سن 99 عامًا، تاركة وراءها إرثًا صحفيًا غنيًا وفريدًا.
كانت روس تعتمد على الحوار والبناء المشهدي وتقنيات أخرى من تقنيات الكتابة الروائية، فكانت تعتبر نفسها بمثابة قاصّة أدبية تشتغل على أحداث واقعية أو حتى كمخرج يحاول بناء مشاهد داخل أفلام قصصية صغيرة، عام 1999 اختيرت مجموعة مقالاتها التي نشرت في كتاب حمل عنوان “المراسل” من طرف خبراء في مجال الإعلام من بين 100 نموذج من أحسن ما تم إنتاجه في الصحافة الأمريكية في القرن العشرين، ورتبت مجموعة الخبراء مقالات روس في المرتبة الـ66 ضمن المقالات التي تعبر عن تيار “الصحافة الجديدة” ذلك التيار الذي ظهر في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي معتقًا في الأدب.
كانت روس على علاقة طيبة بهيمنغواي، لكن مقالها تعرض لانتقادات من طرف البعض، ولقي ترحيبًا من طرف البعض الآخر لأنه استطاع أنسنة أسطورة أدبية
روس وهيمنغواي
“كانت روس تبذل قصارى جهدها لتجعل القصص تتحدث بنفسها عن نفسها، وفي لحظات كانت تتدخل لتقطع إيقاع السرد/الإخبار”، يقول هيليل إيطالي المحرر الثقافي لأسوشييتد بريس، في نهاية أربعينيات القرن الماضي، زار هيمينغواي نيويورك من أجل الاستجمام والتسوق فلاحقته روس وتابعت حركاته وسكناته في المدينة، وهو يشرب النبيذ مع مارلين ديتريش، معشوقته، ولحظة اشترى سترة شتوية أو وهو يزور متحف العاصمة، كتبت روس “بروفايلاً” عن الكاتب الأمريكي المشهور قدمته فيه على أنه رجل متقلب المزاج وغير مستقر، يتحدث بلكنة آلية وأحيانًا يضرب بطنه بقوة ليبزر عضلاته.
كانت روس على علاقة طيبة بهيمنغواي، لكن مقالها تعرض لانتقادات من طرف البعض ولقي ترحيبًا من طرف البعض الآخر لأنه استطاع أنسنة أسطورة أدبية، “ليليان روس كتبت عني بروفايلاً شعرت بالصدمة وأنا أقرأه”، يقول هيمنغواي، مستدركًا “لكن بما أنها صديقة لي وأنا أعرف أنها لم تكتب البروفايل بسوء نية، فلها الحق أن تجعلني أبدو بالشكل الذي تريده”.
لم يمر وقت طويل بعدها، حتى اتجهت روس لهوليوود من أجل كتابة مقالات عن المخرج جون هوستون الذي كان يعمل على اقتباس سينمائي لرواية ستيفن كرين عن الحرب الأهلية “شارة الشجاعة الحمراء”، بسرعة بدا لروس أن عملية صناعة الفيلم في حد ذاتها أهم من أي شخص، فقد كانت شاهدة على كارثة؛ ما جعل تقاريرها في نيويوركر التي صدرت عام 1952 في كتاب بعنوان “الصورة” تمثل تسجيلاً غير مسبوق لخبايا عمل إستوديوهات هوليوود في وقت سيطرت فيه شركة “إم جي إم” على صناعة الفيلم وجعلت الأفلام لا تتجاوز 70 دقيقة.
وقد لقي الكتاب الجديد التنويه من عدة كتاب ضمنهم هيمنغواي، كما كان له كبير الأثر في كتابات تناولت هوليوود بالدرس والتحليل مثل كتاب جون غريغوري داني “ستوديو”.
سردت روس قصة حبها المشتعلة مع شون بكل التفاصيل الحميمية مع تركيز كبير على شخصية هذا الرجل الذي عشقته بقوة
الصحافية العاشقة
ظلت روس كتومة جدًا مع زملائها بنيو يوركر إلى أن خرجت على الجميع بكتاب مفاجأة بعنوان “هنا وليس هنا” تتحدث فيه بصراحة عن علاقة لطالما حاصرتها الشائعات مدتها 40 عامًا جمعتها مع محرر نيويوركر ويليام شون، “كنا منجذبين لبعضنا البعض بكامل القوى الخفية التي حاول البشر معرفة سرها منذ فجر الوجود”، تقول روس في كتابها.
سردت روس قصة حبها المشتعلة مع شون بكل التفاصيل الحميمية مع تركيز كبير على شخصية هذا الرجل الذي عشقته بقوة، ولأن شون كان متزوجًا، كانت علاقته مع روس خيانة في نظر الكثيرين رغم تشبث هذه الأخيرة بأنها قصة حب قبل كل شيء؛ لذا حين صدر الكتاب تعرضت روس لانتقادات حادة سواء في الصحافة أم خلال اللقاءات المختلفة مع زملاء المهنة بسبب ما اعتبروه “قسوة” و”لا إنسانية” أن تحكي تفاصيل هذه العلاقة بينما أرملة شون ما زالت على قيد الحياة.
غير أن روس، وفقًا لبروفايل تأبيني نشرته عنها “نيويورك تايمز”، لم تكن تعبأ كثيرًا بهذه الانتقادات وترى أن سببها محاولة البعض الاحتفاظ بشون كأسطورة في أذهانهم، بينما شون كان ليحب أن يتم تقديمه كما عاش، “عاشقا ورمانسيًا شخصًا يحب موسيقى الجاز ويحب الذهاب للمسرح والاستمتاع بأوقاته، وقيادة السيارات السريعة وأكل أطيب الأطباق”، كما كانت قد صرحت للصحافة حينها ردًا على موجة الانتقادات التي تلت إصدار كتابها.
وفي الوقت الذي كانت ترتبط فيه بعلاقة غرام بكل تلك القوة مع زميلها في المجلة، تبنت روس طفلاً سيقدم فيما بعد يد المساعدة لأمه في عدة مهام.
“لا تقف في طريق من تحاور”
رأت روس النور في سياركيوز بنيويورك ووجدت دائمًا متعة وراحة أكبر في ملاحظة وتتبع مجريات العالم من حولها، تخرجت من كلية “هانتر” بنيويورك ثم التحقت بالمجلة الثقافية الأمريكي العريقة نيويوركر في أواسط أربعينيات القرن الماضي، حينها كانت المجلة تبحث عن نساء كاتبات لأن كثيرًا من الرجال كانوا قد غادروا للخدمة في الحرب العالمية الثانية.
في مقدمة كتابها “التقارير الصحافية” تقول روس: “يجب أن يظل انتباهك مركزًا دومًا على الموضوع الذي تشتغل عليه، لا تنشغل أبدًا بنفسك”
قبل أن تلتحق بنيويركر كانت روس قد عملت صحفية بيومية “بي إم” الأمريكية التي كان يرأس تحريرها بيجي رايت، حين انتقلت كتب رايت لزميله بنيويروكر عن خصال روس قائلاً: “أرسلناها لتغطي قصصًا تتعدد من الشؤون السياسية إلى حمّالات الصدر النسائية، وقد أبلت البلاء الحسن فيهما معًا”، مضيفًا “من ميزاتها الأخرى أنها تحب العمل، وتعمل بالفعل، في كل ساعة من اليوم، وبالليل، ونهاية الأسبوع، بكل تركيز وعلى مواضيع مهمة”.
في مقدمة كتابها “التقارير الصحافية” تقول روس: “يجب أن يظل انتباهك مركزًا دومًا على الموضوع الذي تشتغل عليه، لا تنشغل أبدًا بنفسك”، كانت روس تحصل في بدايات عملها، في أربعينيات القرن الماضي مع نيويوركر، على 70 دولارًا كل أسبوع، وخلال عملها الصحفي كانت تكتفي بأسئلة قليلة ولم تستعمل يومًا آلة التسجيل، كانت تدون ملاحظاتها وأجوبة محاوريها في مذكرات.
“عليك أن لا تقف في طريق الفرد الذي تحاول أن تحكي قصته”، تقول روس موضحة أسلوبها في كتاب لها عن تجربتها الصحفية، مضيفة “عليك أن تحاول متابعة تدفق الشخص الذي تحاوره، وأن تتفاعل معه عوض أن تمطره بمجموعة من الأسئلة المحضرة مسبقًا، عليك أن لا تشوش عليه، عليك أن تكون مستمعًا رفيعًا، إن الأمر كله يتصل بالاستماع”.
وقد ظلت مقالات روس شاهدة على أنها رائدة الصحافة الجديدة لستينيات القرن الماضي، التي تميزت بتقديم المواد الواقعية في ثوب وقوالب روائية، مثلاً مقالها المعنون بـ”الحافلة الصفراء” المنشور في 1960 له ملامح القصص القصيرة التي تنشرها نيويوركر، فالمقال المكتوب برشاقة أسلوبية بالغة وبتعاطف ودفء، يحكي قصة أول زيارة لـ18 تلميذًا من تلامذة الثانوي القادمين من قرية “بين بلوسوم” بإنديانا إلى نيويورك.
في المقال تتابع روس اكتشافات هؤلاء التلاميذ وتلك المسافة الفاصلة بين الريف والحضر الأمريكي من خلال عيون التلاميذ وأسئلتهم، فمثلاً تحكي روس: “لا أحد من التلاميذ سبق له أن تحدث إلى يهودي، أو التقى أكثر من مسيحي واحد، أو سمع بالكنيسة الأسقفية”.
ظلت روس تكتب لنيويورك حتى القرن الـ21 (كانت قد غادرت المجلة بعدها تم إعفاء ويليام شون، صديقها، من مهامه عام 1987 لكن سرعان ما عادت بعدها)
“كتب سمينة.. كتب رفيعة”
ولدت روس، واسمها الفعلي ليليان روسوفسكي، في 8 من يونيو 1918 بسيراكيوز بولاية نيويورك، من إدنا ولويس روسوفسكي، وهما أبوان مهاجريَن من روسيا، ترعرت بين مدينتي سيراكيوز وبروكلين بأمريكا، شعرت دائمًا أنها تريد أن تكون كاتبة، ففي مستهل كتابها “تقارير متواصلة” تحكي كيف كانت متشوقة جدًا لترى مقالاً كان أحد أساتذتها في الإعدادي طلب منها إنجازه من أجل الصحيفة المدرسية ينشر، المقال كان يتحدث عن مكتبة مدرسية جديدة، تتذكر أن مدخل المقال كان يبدأ بالشكل التالي “كتب سمينة، كتب رفيعة، كتب جديدة، كتب قديمة”.
ظلت روس تكتب لنيويورك حتى القرن الـ21 (كانت قد غادرت المجلة بعدها تم إعفاء ويليام شون، صديقها، من مهامه عام 1987 لكن سرعان ما عادت بعدها)، وآخر المقالات التي كتبتها لفائدة موقع المجلة على الإنترنت نشر عام 2012، وآخر مقال نشر في الورقي يعود لعام 2011 عن الممثل الكوميدي الأمريكي روبين ويليامز.
التقارير التي حررتها لنيويوركر جمعت في مجموعة كتب أحدثها “تقارير متواصلة” (Reporting Always)، قبل رحيلها، فكرت روس في ترك عصارة تجربة صحفية ثرية وغنية راكمتها طيلة عقود للجيل اللاحق، في كتابها “مذكرات صحفية” الصادر في 2002، قدمت تقييمًا لما يصنع صحفيًا ممتازًا: “الصحفي المحترف هو من يجعل الموضوع يبدو سهلاً، في المتناول، هو من لا يتكلّف الكلمات، من لا يترك أثرًا يدل عليه، غير عمله، تحفته”