باتت الحوادث اليومية بشتى أنواعها الضيف الأكثر حضورًا على موائد المصريين، فما كادوا يخرجون من حادثة إلا ويستيقظون على أخرى، حتى باتت وردًا يوميًا، ما عاد يؤرق القابعين فوق كراسيهم داخل مكاتبهم المكيفة من كبار المسؤولين وصغارهم.
ما بين انفجار مخزن مصنع للبتروكيماويات بالقرب من مطار القاهرة ليلًا، إلى انقلاب عربات مترو الأنفاق بمنطقة المرج “شرق القاهرة” عصرًا، وصولاً إلى خروج عربات قطار متجه من القاهرة إلى الصعيد ظهرًا، عاش المصريون 24 ساعة من الصمت المريب الذي خيم على أجواء الضربات المتتالية.
حادثة القطار رقم 986 المتجه من القاهرة لقنا التي وقعت بالقرب من قرية المرازيق بالبدرشين بمحافظة الجيزة إثر سقوط 4 عربات وخروجهم عن الشريط الحديدي وأسفرت عن 55 إصابة، هي حلقة في سلسلة طويلة من نزيف الدم المراق على قضبان السكك الحديدية المصرية طيلة عقود ماضية، ورغم الكوارث التي تقع بين الحين والآخر، في مقابل مليارات الدولارات المقدمة من مختلف دول العالم كمنح وقروض لتحسين مستوى هذا المرفق، فالمحصلة واحدة: شلالات من الدماء ومزيد من الأرواح، في ظل الإبقاء على هذا المستوى المتدني من الخدمة التي تفتقد في كثير منها إلى الاستخدام الآدمي بحسب الشهادات الرسمية.
حزمة من التساؤلات تطل برأسها مع كل حادثة من هذا النوع، لعلها تجد إجابة شافية تحل هذا اللغز الذي بات كابوسًا يؤرق مضاجع المسافرين المصريين في حلهم وترحالهم، فمن المسئول عن تكرار تلك الكوارث؟ وهل تتم محاسبته بصورة تردع غيره أم تعطي الضوء الأخضر للأجيال القادمة من متخذي القرار بالسير على نفس الدرب من التقصير واللامبالاة ليدفع الفقراء وحدهم فاتورة هذا الفساد؟
بالفيديو.. بعد يومين من حادث مترو المرج في #مصر.. عشرات الإصابات في حادث انقلاب 3 عربات من قطار "القاهرة قنا" في #البدرشين pic.twitter.com/qVOE6SY7S6
— الجزيرة مباشر (@ajmubasher) July 13, 2018
حادث كل 6 ساعات
كشفت إحصائية رسمية أنه خلال الـ14 عامًا الأخيرة فقط بلغ عدد إجمالي حوادث قطارات السكك الحديد في مصر نحو 16 ألفًا و174 حادثًا، كان عام 2017 الأعلى معدل إذ بلغت فيه عدد الحوادث 1657 حادثًا بينما كان 2012 الذي شهد 447 حادثًا هو الأقل.
الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في تقرير له في 17 من ديسمبر/كانون الأول الماضي كشف أن عدد حوادث القطارات في النصف الأول من عام 2017 بلغ 793 حادثًا بما يزيد على 4 حوادث يوميًا، مقابل 590 حادثًا في الفترة نفسها عام 2016، بزيادة بلغت 34.4%، فيما كانت 1235 حادثًا في 2015.
التقرير أشار إلى أن متوسط معدل حوادث القطارات بالنسبة لعدد السكان بلغ 0.1% لكل 1000 من السكان “بحسب عدد السكان في كل عام من الفترة المذكورة”، عدا الفترة من 2006 – 2009 التي بلغ معدل الحوادث بها 0.2% لكل ألف من السكان، مضيفًا أن أكثر حالات حوادث القطارات هي اصطدام المركبات ببوابات المنافذ (المزلقانات)، حيـث بلغت 606 حالات، بنسبة قدرها 76.4% من إجمالي عدد حالات الحوادث في النصف الأول من عام 2017.
“نون بوست” في تقرير له يستعرض أبرز حوادث القطارات التي وقعت في مصر خلال ربع القرن الأخير وأخذت منحنى تصاعديًا على عكس مختلف دول العالم، مما أثار الجدل وفرض العديد من التساؤلات التي لم تجد لها إجابة حتى الوقت الراهن.
حادثة قطار الصعيد عن منطقة العياط – 70 كيلومترًا جنوبي القاهرة – التي وقعت في فبراير 2002 كانت الأكثر دموية، إذ أسفرت عن مقتل 350 مواطنًا، بعد أن استمر القطار في سيره مشتعلًا بالنيران مسافة قدرها 9 كيلومترات، ورغم العدد المعلن للقتلى لا توجد إحصائية رسمية بعدد الضحايا، وإن كان البعض يشير إلى تجاوز العدد حاجز الألف قتيل.
مرفق المترو كذلك كان له نصيب من سلسلة حوادث القطارات
البدرشين.. علامة استفهام
الملفت للنظر أن أكثر المناطق تعرضًا لحوادث القطارات منطقة البدرشين التابعة لمحافظة الجيزة، وليس حادث أول أمس الأول من نوعه في هذه المنطقة، ففي يونيو/حزيران الماضي اصطدم قطار ركاب بدراجة بخارية مُحملة بأنابيب بعدما اقتحمت شريط السكة الحديد من منطقة غير مُعدة للعبور، مما أدى إلى تعطل القطار دون حدوث إصابات بين الركاب.
وفي مايو/أيار 2017 خرجت 3 عربات لقطار بضاعة عن القضبان، لم يسفر عن أي خسائر أو إصابات بشرية، وفي يناير/كانون الثاني 2013 لقي نحو 19 شخصًا مصرعهم وأصيب ما لا يقل عن 117 إثر خروج العربة الأخيرة من قطار مجندين عن القضبان بالقرب من المزلقان.
يوليو/تموز 2012 اصطدم القطار رقم 990 الإسباني المتجه من القاهرة إلى سوهاج مع القطار 162 الفيوم الذي كان يقف بمحطة البدرشين لحظة التصادم، وأسفر الحادث عن إصابة 15 مواطن، وفي فبراير/شباط 1992 لقي 43 شخصًا مصرعهم إثر اصطدام قطارين قرب المحطة.
اصل معموله عمل ع القضيب#البدرشين pic.twitter.com/vJ1ms59iGQ
— المﻻك الحزين (@Lido8080) July 13, 2018
السؤال هنا: لماذا هذه المنطقة على وجه الخصوص؟ وبعيدًا عن اتهامات وزير النقل المصري بأيادي خفية وراء تلك الحوادث تستهدف إثارة البلبلة في الدولة، أشار خبراء الطرق أن حركة القطارات في البدرشين عُزلت بشكل كامل بعد إلغاء المزلقان وإنشاء كباري لمرور السيارات والمشاة، ما جعل تنظيم حركة القطارات الكثيرة التي تمر عبر المحطة أمرًا معرضًا لاحتمالات خطأ كثيرة، دون وجود فرصة لإصلاح الخطأ واللحاق بالكارثة قبل وقوعها.
علاوة على ذلك فإن محطة البدرشين من المحطات التي تعتبر نقطة تلاقي لخطوط قطارات كثيرة، مما يجعل احتمالات وقوع الحوادث بها كبيرة، هذا بجانب الأسباب المنطقية الأخرى كتآكل البنية التحتية والإهمال والفساد وعدم وجود مراقبة أو متابعة في هذه المنطقة على وجه التحديد.
خلال الـ14 عامًا الأخيرة فقط بلغ عدد إجمالي حوادث قطارات السكك الحديد في مصر نحو 16 ألفًا و174 حادثًا، كان عام 2017 الأعلى معدل إذ بلغت فيه عدد الحوادث1657 حادثًا بينما كان 2012 الذي شهد 447 حادثًا هو الأقل
ما السبب؟
“إن حال السكك الحديد في مصر ميراث إهمال من عدم الصيانة والتطوير، وتلك الهيئة تحتاج إلى الانضباط وإرساء نوع من النظام حتى يستقيم حالها”.. هكذا شخص عضو لجنة النقل والمواصلات بمجلس النواب المصري (البرلمان) اللواء سعيد طعيمة واقع مرفق السكك الحديد في مصر.
طعيمة في حديثه لصحيفة “الأهرام” الحكومية المصرية أشار إلى أن عدد العاملين في هذا القطاع يصل إلى 73 ألف عامل، موضحًا أن هذا رقم هائل، وأنهم في أشد الحاجة إلى النظام، إضافة إلى تحقيق انضباط واهتمام بعنصر الصيانة أيضًا.
عضو لجنة النقل والمواصلات بالبرلمان أوضح أن هذا المرفق بحاجة إلى زيادة عدد غرف العمليات تكون مسؤولة عن تحرك القطارات من خلال خريطة يتحكم بها نظام “جي بي إس”، فيما ذهب أستاذ المرور والطرق والنقل في جامعة عين شمس دكتور أسامة عقيل إلى أن منظومة السكك الحديدية المصرية قديمة جدًا ولم تشهد تحديثًا على مدى سنوات طويلة، ويشرح عقيل الفارق بين ما تقوم به هيئة السكك الحديدية في مصر على مدار سنوات وهو الصيانة، والمفترض أن يتم وهو التحديث.
https://twitter.com/ElfagrNews/status/1017846729062961153
وأضاف أن مصر تخلفت عن أجيال كاملة من الأنظمة التقنية لتشغيل السكك الحديدية في العالم، ويضرب مثلًا بنظام الجر فيقول إنه مر بأجيال مثل الجر بالفحم والجر بالديزل والكهرباء ثم أخيرًا الجر الإلكتروني وهو استخدام القوة المغناطيسية التي تخفف كثيرًا من وزن القطارات، وهي تقنية يعمل بها في العديد من دول العالم بينما مصر لا تزال في عصر الجر بالديزل، ويضيف عقيل أن نفس الأمر ينطبق على نظام الإشارات وتنظيم الحركة إذ إنه في مصر ما زال في العصر اليدوي.
أما محمد أبو حامد عضو مجلس النواب فيختلف ويقول في حديث لبرنامج “نقطة حوار” المذاع على قناة “بي بي سي” إنه ومنذ أحداث الـ30 من يونيو وهناك عزم على إصلاح العديد من القطاعات ومنها قطاع السكك الحديدية، موضحًا أن هذا المرفق يحتاج إلى تمويل ضخم لتطويره قد يصل إلى 100 مليار جنيه ليكون قادرًا على العمل، لكن ظروف مصر صعبة، على حد قوله.
يبقى حادث الصعيد 2002 هو الأكثر خسائر في الـ25 سنة الأخيرة
أين تذهب المنح؟
تصريحات خبراء النقل والنواب عن أزمة قطاع القطارات في مصر طيلة السنوات الماضية وقلة الموارد ربما تذهب بالبعض إلى التماس قليل من العذر، لكن تتكشف ملامح الفاجعة أكثر حين يسقط النقاب عن حزمة المنح والقروض والمساعدات الخارجية التي قدمت لمرفق السكك الحديدية المصرية التي كانت كفيلة أن تضعه على قائمة الدول الأكثر تطورًا في هذا المجال تماشيًا مع الأسبقية التاريخية لمصر في هذا المجال الحيوي، إلا أن السؤال الأبرز الذي دومًا يفرض نفسه: أين ذهبت تلك الأموال؟
عشرات المنح حصلت عليها القاهرة من العواصم العربية والأجنبية بغية تطوير أحد أبرز المرافق التي تمثل وسيلة النقل الأساسية لعشرات الملايين من المصريين يوميًا، غير أن جميعها ذهبت أدراج الرياح لتبقى البنية التحتية مهلهلة غارقة في مستنقعات الفساد والإهمال.
– 2006: اتفاق التوأمة بين وزارتي النقل في مصر وفرنسا في مجال إصلاح قواعد وإجراءات وممارسات أمن وسلامة السكك الحديدية بقيمة إجمالية تبلغ 13 مليون جنيه.
– 2007: اتفاقية التعاون المالي بين مصر والنمسا بمبلغ 50 مليون يورو من أجل تمويل مشروع توريد أجهزة تستهدف إعادة هيكلة قطاع السكك الحديدية في نطاقه.
– 2009: اتفاقية قرض البنك الدولي لتمويل المشروع القومي لإعادة هيكلة سكك حديد مصر بقيمة 270 مليون دولار.
السيسي: العشرة مليارات بتوع السكة الحديد لو حطيتها في البنك حاخد عليهم الفايدة ملياري جنيه، لما مرفق عايز مئة مليار جنيه لرفع كفاءته حانجيبه منين؟
– 2009: هيئة السكك الحديدية تحصل على 150 مليون دينار كويتي من الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي لصالح مشروع دراسة جدوى كهربة خط السكك الحديدية (شبين القناطر – الزقازيق – المنصورة – دمياط).
– 2011: الجزء الثاني من اتفاقية التمويل المقدمة من البنك الدولي بقيمة 330 مليون دولار لتطوير نظم الإشارات من خط بني سويف إلى أسيوط.
2012: منحة من الصندوق الكويتي للتنمية الاقتصادية بقيمة 60 مليون دينار كويتي بهدف إعداد الدراسات الخاصة بمشروع كهربة إشارة علي خط (طنطا – المنصورة – دمياط) ومشروع ازدواج الخط الحديدي ما بين المنصورة ودمياط .
– 2012: اتفاقية مع وزارة الخارجية الإيطالية بمبلغ 2.3 مليون يورو كمرحلة أولى لمشروع “دعم خطة إعادة هيكلة وتطوير الهيئة القومية لسكك حديد مصر” والمخصص له 8 مليون يورو.
– 2013: اتفاقية قرض بقيمة 44 مليون دينار كويتي من الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي لصالح مشروع كهربة إشارات خط السكك الحديدية (بنها – الزقازيق – الإسماعيلية – بورسعيد).
ماذا بعد؟
مع كل حادثة تخرج العديد من الأصوات التي تتساءل عن رد الفعل الرسمي، ومدى إمكانية تحرك الدولة لانتشال هذا المرفق من براثن الإهمال والفساد، عبر ضخ التمويل الكافي للارتقاء به بما يتناسب مع حق المواطنين في وسيلة نقل آمنة وبها كل وسائل السلامة والراحة.
الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في تصريحات سابقة له تحدث عن المليارات التي يحتاجها قطاع السكك الحديدية من أجل تطويره وتحسين مستوى خدمته، لكنه ألمح إلى أن الدولة لا تملك مصادر التمويل، وإن كان من باب أولى أن توضع تلك المليارات في البنوك لتدر عائدًا في صورة فوائد أكثر أهمية من ضخها في قطاع يتعامل فيه الملايين من المصريين يوميًا.
السيسي وكما جاء على لسانه قال: “اللي خلى مستوانا كده إننا مش بنواجه الحقايق، العشرة مليارات بتوع السكة الحديد لو حطيتها في البنك حاخد عليهم الفايدة ملياري جنيه، لما مرفق عايز مئة مليار جنيه لرفع كفاءته حانجيبه منين؟ حنسد قروض كوريا وغيرها منين؟ لازم الكل يعرف الحاجات دي، ولما تيجي تزود عليه التذكرة جنيه واحد يقولك أنا غلبان مش قادر، وأنا كمان غلبان مش قادر” وهو ما أثار حالة من الجدل داخل الشارع المصري.
العديد من الانتقادات التي وجهت لتلك التصريحات تمركزت حول اعتبارها رفضًا واضحًا لتطوير هذا المرفق الحيوي رغم تسببه في إزهاق أرواح المئات من المصريين بسبب سوء حالته، في مقابل إنفاق المليارات على قطاعات أخرى قد لا يحتاجها المواطن خلال هذه الأيام، مستشهدين بمليارات صفقة الرافال الفرنسية وحفر قناة السويس الجديدة والعاصمة الإدارية وكلفة مؤتمرات الشباب وغير ذلك من المشروعات التي استحوذت على النصيب الأعظم من ميزانية الدولة في السنوات الأخيرة.