كان الاحتفال صاخبًا والحدث كبيرًا، وكانت المناسبة افتتاح جيبوتي ما توصف بأكبر منطقة تجارية حرة في إفريقيا بدعم صيني، وذاك قيَّما يحدث في إفريقيا، وأقل منه في بلد عربي يقع في قرن أفريقي، لكن لا يُنظر إلى دخوله دوائر الاهتمام الدولي إلا من بوابة الآخرين، وتحديدًا من قواعدهم العسكرية.
وعبر التقاء البحار باليابسة تتشكل موانئ تثير الاهتمام والمطامع، وفي الطريق إليها دولة تستهويها لعبة الموانئ في أرضها وأرض سواها، وهي الإمارات التي تملك في دبي ميناءً تجاريًا مهمًا وتسعى لمد نفوذها التجاري، ومن ورائه السياسي في القرن الإفريقي، فأخبارها في الصومال وإريتريا وإثيوبيا متداولة على نطاق واسع، أما شهيتها لموانئ اليمن فليست خافية على أحد.
الإمارات تُحاصَر من حيث أرادت أن تُحاصِر
المشروع الممول صينيًا متشعب المرام والرسائل، فهو الأمل لأهل جيبوتي، كما يقول الرئيس، حيث سيلقى آلاف العاطلين من الشعب الذي يقل عن مليون نسمة وظائف جديدة، وهو جزء من خطة صينية معلنة باسم “الحزام والطريق”، وتهدف لإحياء وتطوير طريق الحرير التاريخي عبر تشييد شبكات من الممرات البرية والبحرية والجوية تربط الموانئ الصينية بقارة إفريقيا.
لكن سياسات الإمارات في المنطقة تدفعها كعادتها للاصطدام بمزيد من الجدران، وهذه المرة على يد التنين الصيني، حيث تلقت أبو ظبي – وفقًا لمراقبين – ضربة اقتصادية جديدة، فغير بعيد عن مكان المنطقة الحرة الجيبوتية الجديدة يقع دوراليه، وهو ميناء مهم يمثل نقطة عبور رئيسية نحو إثيوبيا التي يصلها من جيبوتي نحو 90% من وارداتها عبر البحر.
جيبوتي دشنت الأسبوع الماضي المرحلة الأولى من أكبر منطقة تجارة حرة بإفريقيا تبنيها بكين
كانت ضربة أخرى للذراع البحري الإماراتي الأشهر بما يملكه من نفوذ، وبافتتاح المنطقة الحرة الجديدة في جيبوتي يرى خبراء أن ميناء جبل علي في دبي سيتحول فعليًا إلى ميناء شبه داخلي، فماذا ستفعل أبو ظبي وبدورها المتنقل في القرن الإفريقي الصاعد وبدوله التي تبدو اليوم أكثر تخطيطًا وتقاربًا، والأهم أكثر وعيًا بذاتها السياسية من أي وقت مضى؟
دوراليه هو أحد ستة موانئ متخصصة تلبي احتياجات السفن بأحجامها المختلفة، وتسعى جيبوتي من خلالها للاستفادة الكاملة من موقعها على باب المندب (أحد أكثر ممرات الشحن ازدحامًا في العالم)، يضاف إلى ذلك استقرار جيبوتي الأمني والسياسي، وقد دفع ذلك العملاق الصيني إلى الدخول في شراكة مع الحكومة لإنشاء موانئ ومرافق لوجستية وبُنى تحتية متطورة.
بافتتاح المنطقة الحرة الجديدة في جيبوتي يرى خبراء أن ميناء جبل علي في دبي سيتحول فعليًا إلى ميناء شبه داخلي
لكنه ليس الميناء الوحيد في القرن الإفريقي المنقلب على موانئ دبي العالمية، فميناء بربرة يختصر الحكاية الإماراتية في القرن الأفريقي، فعلى مراسيه تحطمت أحلام التمدد والسيطرة بعد شهر واحد من تحطمها بجيبوتي، فقد خسرت مجموعة موانئ دبي العالمية عقد تشغيل هذا الميناء الصومالي، بعد أن كان 51% من عائدات التشغيل تؤول إلى الشركة الإماراتية وتتقاسم البقية جمهورية أرض الصومال المعلنة من جانب واحد مع إثيوبيا.
تحركت حكومة محمد عبد الله فرماجو فأبطلت اتفاقية ثلاثية لم تكن طرفًا فيها، بل رأتها تهديدًا لوحدة أراضيها، فقد رفضت الصومال قبل اتفاق أبرمته أبو ظبي مع ما يعرف بجمهورية أرض الصومال لإنشاء قاعدة عسكرية في مدينة بربرة على ساحل خليج عدن، والآن فإنها تعتبر الاتفاق الثلاثي لاغيًا، فترد أبو ظبي بالتنازل لإثيوبيا عن جزء من حصتها في بربرة.
ويتوقع مراقبون أن يفتح القرار الجيبوتي الباب واسعًا على تحركات إفريقية أخرى مماثلة، بدأت بالفعل بعض بوادرها في ميناء بربرة بأرض الصومال، حيث توقفت أعمال البناء في القاعدة الإماراتية وأي تحركات من شأنها تقرير نفوذ الشركة التي عززت حضورها أخيرًا على شواطئ القارة الإفريقية وإفشال مساعيها لإحكام سيطرته على ممارسة باب المندب.
اعتبرت الإمارات أن مشروع بناء المنطقة التجارية يمثل تعديًا على “حقوق الإدارة الحصرية”
حرب الموانئ تشتعل بين الإمارات والصين
قبل أشهر وتحديدًا في 22 فبراير/شباط الماضي، ألغت جيبوتي امتيازًا ثمينًا لشركة موانئ دبي العالمية التي كانت تملك نحو 33% منه، ولجأت موانئ دبي للتحكيم رافضة إلغاء العقد المبرم بينهما، لكن الرئيس الجيبوتي رد الأمر إلى استعادة السيادة في عقد رأى فيه افتئاتًا على حق الجيبوتيين بثرواتهم الممثلة بموقع بلدهم، واعتبر إلغاء الامتياز قانونيًا يقع في باب الاستقلال الاقتصادي.
وبعد قرار الحكومة الجيبوتية اندلعت أزمة من العيار الثقيل بين جيبوتي والإمارات أو هيئة موانئ دبي العالمية التي تمثل إحدى أهم أذرع التمدد الإماراتي في الشرق الأوسط وربما العالم، فقد طورت الشركة الميناء منذ عام 2006 على أن تديره بعقد امتياز يمتد 50 عامًا، بيد أن السلطات الجيبوتية اكتشفت أن العقد يحتوي بنودًا مجحفة وأخرى سرية.
ومن الشروط المجحفة – بحسب مسؤولين جيبوتيين – منع توسعة مباني الميناء أو إقامة أي مبان جديدة، كما أن حصص التملك المتفق عليها لم تكن هي نفسها في توزيع الأرباح، فضلاً عن جعل الإدارة المالية في يد شركة موانئ جبل علي بمجموعة موانئ دبي العالمية، وهو ما اتضح تأثيره جليًا في نسب العوائد، إذ استحوذت الشركة الإماراتية على ما يفوق حصتها بمراحل.
وأكثر من ذلك، اكتشفت جيبوتي لاحقًا أن نسبة 20% من الأرباح كانت تذهب إلى كل من مدير الموانئ الجيبوتية سابقًا (المسؤول الجيبوتي عن إدارة الصفقة والمقيم في حاليًّا دبي) عبد الرحمن بوري، ورئيس مجلس إدارة موانئ دبي العالمية سلطان أحمد بن سليم، مما اضطر الحكومة الجيبوتية إلى رفع قضية لرد حقها عام 2012، كما لجأت إلى أبو ظبي التي أخبرتها أن هذا الأمر يخص حكومة دبي، ولا شأن لها به.
اكتشفت جيبوتي لاحقًا أن نسبة 20% من الأرباح كانت تذهب إلى كل من مدير الموانئ الجيبوتية سابقًا عبد الرحمن بوري، ورئيس مجلس إدارة موانئ دبي العالمية سلطان أحمد بن سليم
من جانبها، لجأت مجموعة “موانئ دبي العالمية” الإماراتية إلى التحكيم الدولي، واعتبرت أن مشروع بناء المنطقة التجارية يمثل تعديًا على “حقوق الإدارة الحصرية”، كما هددت بالمطالبة بالتعويض عن الأضرار المترتبة على قيام أطراف أخرى بالتدخل أو خرق حقوق التعاقد، وباتخاذ إجراءات قانونية ضد الصين التي تبني منطقة تجارية في جيبوتي في موقع يضم محطة حاويات متنازع عليها بين دبي وحكومة جيبوتي.
هكذا أشعلت حرب الموانئ التوتر بين دبي والصين، فقد أكدت “موانئ دبي العالمية” في بيان لها أن “استيلاء حكومة جيبوتي غير المشروع على المحطة لا يمنح الحق لأي طرف ثالث بانتهاك شروط اتفاقية الامتياز”، في إشارة إلى الصين التي لا يبعد ميناؤها الجديد سوى 5 كيلومترات عن دوراليه، ما يعزي البعض إلى أن الصين كانت وراء هذه الخطوة الجيبوتية.
كما شرعت الشركة في إجراءات انتقامية تمثلت في بيع 19% من حصتها في ميناء بربرة في جمهورية أرض الصومال غير المعترف بها لإثيوبيا التي تعتمد في وارداتها على موانئ جيبوتي بالكامل، وتلك صفقة اعتبرتها الحكومة الصومالية لاغية كونها تهدد وحدة أراضي البلاد، والمفارقة أنها عقدت في أثناء وجود رئيس الوزراء الصومالي في أبو ظبي بزيارة رسمية.
وقال مسؤولون جيبوتيون إن شركة موانئ دبي ذهبت إلى إثيوبيا وعرضت عليها نسب تملك في ميناء عصب وميناء أرض الصومال، شريطة التخلي عن التعاون مع ميناء جيبوتي بهدف الإضرار به، وذكروا أنه في لقاء بدبي يوم 15 من فبراير/شباط الماضي جمع بين وزراء من جيبوتي ومسؤولين إماراتيين، هددهم رئيس شركة “جبل علي” سلطان بن سليم بأن شركته سوف تعيد ميناء جيبوتي كما كان عام 2005 مجرد مرسى بدائي.
تجد الإمارات نفسها في القرن الإفريقي مكشوفةً تمامًا كما هي ذراعها الاقتصادية التوسعية
الإمارات في القرن الإفريقي حيث لا مكان لأحلام “أسبرطة الصغيرة”
سلطت الحالتان السابقتان الضوء أيضًا على الحالة اليمنية، فما تفعله الإمارات هناك – بحسب مجلة الإيكونومست – جزءًا من إستراتيجية أكبر أهدافها التهام الموانئ على طول أحد أكثر طرق الشحن البحري ازدحامًا في العالم، وهنا تكمن الأهمية الإستراتيجية لجيبوتي كواحدة من دول القرن الإفريقي التي تعاظمت بعد اندلاع الحرب في اليمن، فكان التدخل العسكري السعودي والإماراتي هناك بذريعة التصدي للنفوذ الإيراني.
وليس بعيدًا عن المطامع الاقتصادية، لم تفلح الإمارات في الظفر بعقود لبناء قواعد عسكرية في جيبوتي لتأمين طموحاتها، حيث رفضت جيبوتي طلبًا بإنشاء قاعدة إماراتية على أرضها لمتابعة الأوضاع في مدينة عدن اليمنية، حينها وجهت أبو ظبي أنظارها إلى جارتها إريتريا ووقعت عقدًا لبناء قاعدة جوية لها شمال ميناء عصب.
الإمارات التي تطمح إلى السيطرة على مضيق باب المندب ولم تظفر بقواعد عسكرية بعد، نشرت قوات عسكرية على أرخبيل سقطرى اليمني يفوق عددها خمسة آلاف جندي، وأبرمت اتفاقية غير قانونية مع جمهورية أرض الصومال غير المعترف بها دوليًا لإقامة قاعدة في ميناء بربرة، ثم قدمت الإمارات عرضًا سخيًا للإثيوبيين الذين كانوا يستخدمون موانئ جيبوتي لتركها.
في مقابل ذلك، افتتحت الصين رسميًا أول قاعدة عسكرية خارج حدودها في جيبوتي العام الماضي، وتزامن حفل الافتتاح الرسمي مع الذكرى التسعين لتأسيس الجيش الصيني (جيش التحرير الشعبي)، وذلك بعد عام من التخطيط لبناء قاعدة عسكرية بإفريقيا لاستخدامها في إمداد سفن القوات البحرية التي تشارك في مهام حفظ السلام والإغاثة قبالة سواحل اليمن والصومال.
يبدو أن محمد بن زايد – وفقًا لمنتقديه – لا يحسب حسابًا لمفهوم السيادة والكرامة الوطنية للدول
هكذا يتصدع التحالف الذي أنشئ على عجل لتنفيذ الأجندة الإماراتية في المنطقة، فقد كانت تريد من ورائه عزل الدوحة عن إفريقيا، فضغطت وبذلت المال بسخاء، لكن ليس بالمال وحسب تنشأ التحالفات وتبقى، فالأمر لم يكن استثمارًا، بل ربما يكون سعيًا للهيمنة والسيطرة على المفاتيح البحرية في إفريقيا برمتها، وذاك في رأي البعض يمس سيادة بعض الدول ويحولها إلى مراكز نفوذ للإماراتيين ليس أكثر.
ويبدو أن محمد بن زايد – وفقًا لمنتقديه – لا يحسب حسابًا لمفهوم السيادة والكرامة الوطنية للدول، فكان حصار قطر، وما يسميه البعض احتلالاً لليمن، وأخيرًا سعيه للإطاحة بكل من يقول لا لخططه هذا، وبحسب البعض فإن أوهام التوسع الإمبراطوري لدى المتنفذ في أبو ظبي دفعته للاختباء خلف كبرى دول الخليج لتنفيذ خططه للاستيلاء على موانئ المنطقة كلها من اليمن إلى جيبوتي فالصومال.
ستظل الأزمة مفتوحة قضائيًا، فجيبوتي وبحكم موقعها الإستراتيجي استقطبت الكثير من القواعد العسكرية والمستثمرين الراغبين في تأسيس موانئ، بمعنى أنها في حِلٍ من القبول بالشروط والهيمنة الإماراتية، أما الإمارات فواقعة تحت تأثير رغبات جامحة في الانتشار البحري، وخير دليل على ذلك سيطرتها على أكثر من ميناء في اليمن في الضفة الغربية للبحر الأحمر، أما في الضفة الإفريقية فحدث ولا حرج.
وبعد سنوات من السعى لإنشاء إمبراطورية “أسبرطة الصغيرة” لدولة تأكل تلعب دورًا أكبر من حجمها، تجد الإمارات نفسها في القرن الإفريقي مكشوفةً تمامًا كما هي ذراعها الاقتصادية التوسعية، فهل ينبغي توقع تحركات مماثلة لما فعلت الصومال وجيبوتي بعد أن اتضح لهما كم هي مجحفة عقود الإماراتيين؟ وكيف أن هؤلاء يتعمدون تعطيل الموانئ التي يحتكرونها خشية انعكاس ازدهارها سلبًا على الموانئ الإماراتية؟