ربما قد تتعدد أسرار تسمية الشوارع بأسمائها وتتعدد الحكايا وراء ذلك، إلا أنه من الممكن أن يجهل كثير من المصريين سر تسمية حي “الزمالك” في القاهرة بذلك الاسم الذي استمر لأكثر من قرن ونصف وحمل الاسم بعده أقدم نادي كرة قدم في مصر، يعود اسم الزمالك إلى حي في مدينة “كورجة” إحدى مدن ألبانيا الذي شهد ميلاد الشخص الذي استمر حكم سلالته لمصر لأكثر من 150 عامًا.
أراد محمد علي المعروف بـ”محمد علي باشا” أن يطلق اسم الحي الذي وُلد فيه على أحد أحياء القاهرة التي انتقل إليها جنديًا قبل أن يصبح قائدًا الجيش وبعدها صار في رتبة باشا، كان ذلك في الحقبة التي أحكم العثمانيون سيطرتهم فيها على دول البلقان، لتكون ألبانيا من أكثر الدول التي اتخذ منها العثمانيون أذرعًا أمينة لهم يوزعونها ليحكموا ولاياتهم كما هو الحال في مصر وفلسطين على سبيل المثال، وقع الاختيار على محمد علي باشا ليكون حاكم مصر وتبدأ معه علاقة مصر بألبانيا التي استمرت لأكثر من قرن ونصف القرن وتلتها بعد ذلك عدة هجرات.
أسس محمد علي باشا السلالة الألبانية في مصر منذ القرن الـ18 واستمرت حتى عام 1950، وما زال هناك عشرات الآلاف موجودين في مصر حتى يومنا هذا، حيث بدأ الألبان هجرتهم الأولى إلى مصر في أثناء حقبة محمد علي باشا لأسباب اقتصادية، حيث شهدت مصر حينها رخاءً اقتصاديًا ومشاريع استثمارية جديدة من الفرنسيين والإنجليز، ليتكون أول مجتمع ألباني في مصر عام 1875 ويبدأ في إسهامه لإحياء “النهضة القومية الألبانية” أو ما أسماها المجتمع الألباني في مصر بـ”الأخوة الأولى” التي بدأها “تيهي ميكتو” أحد القوميين الألبان.
اتخذ كثير من الألبان القوميين مصر قاعدة لهم بشكل مؤقت أو بشكل دائم، وكانت منبعًا لكل كتابات الألبان القوميين، حيث كان للمجتمع الألباني في مصر جرائد خاصة به تُطبع باللغة الألبانية، ولم لا؟ فلم يتحدث محمد علي باشا نفسه اللغة العربية، حيث كانت لغة الشعب واللغة الرسمية للسلاطين والولاة والحكام منفصلة عن بعضها البعض، فتحدث محمد علي باشا التركية ولغته الأم الألبانية، وربما تعلم العربية إلا أنه لم يكن يتوجب عليه ذلك، وكذلك الحال مع الألبان، لقد شعروا بالأمان لوجود محمد علي باشا على رأس العرش، ولهذا كان لهم مجتمعهم الكامل وجرائدهم ومطبوعاتهم وأشغالهم الخاصة بهم.
مصر بلد المهاجرين الألبان
صورة للاجئين الألبان في الحرب العالمية الثانية على الشواطئ الإيطالية التي هربوا منها إلى مصر وشمال إفريقيا
بدأت الموجة الثانية من النزوح الألباني إلى مصر بعد استقلالها عن الدولة العثمانية، حيث دفعت المذابح وعمليات التطهير العرقي الواقعة في ألبانيا في بداية القرن الـ20 مئات الآلاف من الألبان للهجرة إلى مصر التي كان للألبان فيها بالفعل مرتبة عالية بحكم محمد علي باشا وسلاسته مرورًا بالخديوي إسماعيل وأولاده الذين حافظوا على مكانة المجتمع الألباني في مصر، إلى وقت الحرب العالمية الثانية التي شكلت موجة النزوح الثالثة للألبان إلى مصر التي استقبلتهم كلاجئين لتحسين أوضاعهم الاقتصادية والسياسية بجانب جاليتهم التي لها تاريخ طويل على أرض مصر ومكانة عالية.
لجأ الألبان إلى مصر وقت انتشار الشيوعية، حيث وجدوا في المجتمع الألباني والجالية في مصر أمانًا لهم من جرائم الشيوعية
كان من بين اللاجئين الألبان إلى مصر رئيس وملك ألبانيا “أحمد زوغو”، حيث لجأ إلى مصر هو وأسرته وحاشيته، وذلك بطلب من الملك فاروق قبل أن يُطاح بعرشه في الخمسينيات من القرن الماضي، ليقرر الأول الرحيل إلى فرنسا حتى توفي فيها وما زلت توجد مقبرته هناك، إلا أن الكثير من حاشيته فضلوا البقاء في مصر بشكل دائم والزواج من مصريين ومصريات.
ربما ذكر المصريون مصطلح “تكية” في لهجتهم العامة حينما يعبرون عن غضبهم من وجود أفراد لا يحق لهم الوجود في مكان معين، تعود كلمة “تكية” إلى “التكية البكباشية” وهي المقر الخاص بالجالية الألبانية التي كانوا يلتقون فيها ويحتفلون بالمناسبات والأعياد فيها، حتى إنهم أسسوا نوادي فيها.
من أشهر العلامات التي توضح وجود الألبان واندماجهم مع المصريين منذ مئات السنين محلات “عمر أفندي” الشهيرة، يرجح أنه كان لـ”عمر أرناؤوط” وهو من أصول ألبانية، كان يعمل في محلات “أوروزدي – باك”؛ حيث كانت مصر تستقبل أعدادًا كبيرة من الألبان في هذه الحقبة، وكان يُعرف عنهم أمانتهم وصرامتهم في تنفيذ الأعمال، وبالتالي تبوأوا المواقع التنفيذية، وعمل الكثير منهم “نظَّار عزب” الإقطاعيين في مصر.
وسمي “عمر أرناوؤط” وتعني أرناوؤط الألباني في اللغة العثمانية، بـ”الأفندي” لأنه كان يرتدي ملابس الأفندية آنذاك أي البدلة والطربوش
شخصيات ألبانية مصرية
الملك فاروق هو آخر السلالة الألبانية الأصل الحاكمة في مصر
بعد مرور وقت طويل لم يكن يعرف كثير من المصريين عن أصولهم الألبانية، ولم يتم التركيز قط على الجذور الألبانية في التاريخ المصري العثماني أو التاريخ الحديث بعد سقوط الدولة العثمانية، إلا أن هناك شخصيات تاريخية معروفة ربما لا يعرف كثير من المصريين عن أصولهم الألبانية حتى يومنا هذا، من هذه الشخصيات بعض الممثلين المشهورين، من بينهم الممثل المحبوب أحمد مظهر الملقب بفارس السينما المصرية والممثلة ليلى فوزي المولودة في تركيا لأهل لهم أصول ألبانية.
من بين الشخصيات الألبانية المؤثرة في التاريخ المصري الأميرة فوزية والشاعر أحمد رامي
تعتبر الأميرة فوزية فؤاد إحدى الشخصيات المهمة الدالة على العلاقة بين ألبانيا ومصر عبر التاريخ، لُقبت بأجمل بنات الملك فؤاد الذي يعد من آخر ملوك سلالة محمد علي باشا الحاكمة، حيث تزوجت شاه إيران محمد رضا بهلوي لتصبح أميرة لمصر وإمبراطورة لإيران قبل أن يتسبب طلاقها من الشاه في أزمة بين مصر وإيران تسببت في قطع العلاقات حينها.
كما كان للألبان في مصر قبل سقوط الملكية في الخمسينيات شهرة في مجال التجارة والأعمال واشتهارهم بالأمانة، لم يتركوا أيضًا مجال الفن إلا وكانت لهم بصمة فيه، فكان الشاعر الأكثر شهرة وأكثرهم إسهامًا في أغاني كوكب الشرق أم كلثوم له أصول تركية ألبانية كذلك، كما هو الحال على الجانب الألباني كان هناك الكثير من الشعراء والفنانين الذين اشتهروا في ألبانيا بعد عودتهم إلى بلادهم بعد هجرتهم إلى مصر مثل الفنانة الألبانية تاشكو كوتشو.
قد يزعم بعض الألبان أن علاقتهم بمصر تمتد إلى الحضارة الفرعونية كذلك، حيث يزعمون أن لكليوباترا أصولًا من ألبانيا أو مقدونيا، في الواقع لا يهم إن كان ذلك صحيحًا أم لا، المهم أن مفهوم الوطنية من السهل جدًا التلاعب به تاريخيًا، فهناك كثير من المصريين على غير دراية بتاريخ شعبهم المكون من مختلف الأجناس والطبقات، وبناءً عليه يبنون “وطنية مصرية” على أسس تاريخية مشكوك في صحتها، قد يؤمن البعض أنه قد لا يهم من أين أتى الأصل، إلا أن كل من تلاعب بالتاريخ كانت له القدرة على صناعة تاريخ على هواه، وبناء منظومة وطنية قد تتحول فيما بعد لحافز للعنصرية.