هبّت الحياة في أوردة القيادة الفلسطينية منطلقة في جولة مكوكية بين الشرق والغرب، بدأها الرئيس الفلسطيني محمود عباس في روسيا حيث اجتمع بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، مرورًا بتركيا حيث اجتمع بالرئيس التركي رجب أردوغان، ومن ثم ألقى خطابًا أمام البرلمان التركي حظي بالكثير من التصفيق.
وبدأ اليوم الثلاثاء زيارته للسعودية، حيث سيلتقي هناك بوليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، منطلقًا بعدها إلى القاهرة للاجتماع بالرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، بما يمكن اعتباره أكبر حراك دبلوماسي للسلطة الفلسطينية منذ أن اندلعت حرب الإبادة على قطاع غزة.
النشاط المفاجئ للسلطة الفلسطينية تضمّن العديد من الخطوات، فقبيل جولة الزيارات أطلق محمود عباس دعوة لعقد مؤتمر دولي للسلام يمكن من خلاله حل جميع قضايا الحل النهائي للقضية الفلسطينية، فيما حملت كل زيارة من زياراته معنى وهدفًا مختلفًا، فوفقًا لكل من إيهود ايعاري وإيلي نيسان فإن الرئيس الفلسطيني طلب من روسيا تنظيم مؤتمر للمصالحة بين التيارات المختلفة داخل حركة فتح، يتضمن إنهاءً لحالة القطيعة مع دحلان.
بينما أعلن خلال خطابه أمام البرلمان التركي أنه سيتوجّه إلى قطاع غزة مع “جميع أعضاء القيادة الفلسطينية”، داعيًا قادة الدول العربية والإسلامية والصديقة والأمين العام للأمم المتحدة إلى المشاركة في الزيارة، ومتوجهًا لدعوة مجلس الأمن الدولي لتأمين وصوله إلى غزة، على أن تكون وجهته المقبلة هي القدس.
أما فيما يتعلق بزيارته للسعودية ومصر، فقد أكدت مصادر فلسطينية أنها تأتي في سياق مناقشة وتنسيق الجهود لوقف الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، مستبقًا زيارته لهما بمرسوم رئاسي أصدره لترتيب زيارته إلى قطاع غزة، وضمان موافقة الولايات المتحدة و”إسرائيل” لتأمين الموكب، وإطلاق حملة إعلامية وحراك مجتمعي لحشد الطاقات والإمكانيات الشعبية لإسناد ودعم الحراك الوطني.
حركة الشطرنج الأخيرة
اللافت في الحراك الفلسطيني الرسمي توقيته، فبعد 11 شهرًا من الحرب على غزة يأتي الحراك متزامنًا مع إعلان المستوى العسكري الإسرائيلي انتهاء العمليات العسكرية المكثفة في قطاع غزة، والانتقال لمرحلة الاستخبارات والعمليات الأمنية المركزة والضربات الموضعية، ما يعني فشل تغيير الوضع القائم من سيطرة حماس واحتفاظها بالأسرى الإسرائيليين من خلال العمل العسكري.
يلقي هذا الأمر الثقل بأكمله على المستوى السياسي، الذي يضع نصب عينيه ترتيبات اليوم التالي في أي نقاش داخلي أو مقترح على طاولة المفاوضات، وبالتالي إن استمرار الغياب الرسمي للسلطة هو تأكيد لتهميشها في خضمّ هذه الترتيبات.
كما أن حراك السلطة ونشاطها المفاجئ يأتي سدًّا لحاجة القاهرة إلى وجود فلسطيني بشكل ما، لحلّ معضلة محور فيلادلفيا ومعبر رفح واستمرار الوجود العسكري الإسرائيلي فيهما، في الوقت الذي ترفض فيه الحكومة الإسرائيلية وجودًا رسميًا فلسطينيًا هناك، ما يعزز فرص تيار دحلان في إدارة المعبر على حساب فرص السلطة وإدارتها.
ومهما يكن هذا الوجود وشكله إلا أنه يرفع عن الجانب المصري حرج القبول باتفاق مجحف مع الاحتلال، يقرّ وجوده العسكري أو سلطته الأمنية على معبر رفح ومحور فيلادلفيا أو جزء منهما، خاصة في حال قبلت القيادة الفلسطينية بهذا الوجود وهذه السلطة، أو تماهت معه من خلال الانصياع للمقترح الأمريكي بإدارة تتكون من 6 فلسطينيين منتقين وفق المعايير الأمنية الإسرائيلية لكنهم لا يتلقون رواتبهم من السلطة الفلسطينية، ما ينزع عنهم صفة “موظفي السلطة أو ممثليها” في المعبر، وهو قبول ليس ببعيد عن نهج السلطة رغم ما يروّج من تمنُّعها وإصرارها على وجود رسمي فاقع.
في زاوية التوقيت أيضًا هناك حماس، التي انتقل ثقلها السياسي إلى قطاع غزة باغتيال رئيس مكتبها السياسي إسماعيل هنية والتوافق على يحيى السنوار خلفًا له، واختيار نائبه خليل الحية رئيسًا لوفد المفاوضات.
ورغم كمّ التحدي الذي مثّله اختيار السنوار إلا أنه نأى بالحركة لأبعد نقطة عن الدول العربية، وقلّص مرونتها على المستوى السياسي، وهو ما ظهر جليًا في جولات المفاوضات الأخيرة، ومثّل مجازفة خطيرة قد تصيب المكتب السياسي بزلزال آخر في حال اغتيال السنوار الذي تضعه “إسرائيل” على رأس قائمة اغتيالاتها.
اختيار السنوار خلفًا لهنية دفع بالسلطة الفلسطينية للنأي بنفسها عن أي علاقة أو اتصال معه، وهي التي لا تفتقد المبرر لإنهاء علاقتها بحماس، ناهيك عن موقفها من اغتيال الأخير الذي تجاوزته كفرصة لتجسير العلاقة مع حماس ما أفرغ المصالحة الفلسطينية من جدواها، باستمرار الجهد الأمني للسلطة في ملاحقة المقاومين، وإحباط هجماتهم للاحتلال وتقويض وجود حماس العسكري في الضفة.
دحلان واللجنة الوطنية “الإماراتية”
أما ثالثة الأثافي في الدوافع والتوقيت فهو الحراك الإماراتي المتسارع، والذي كان آخره مقترح يتجاوز السلطة الفلسطينية تمامًا، بل يؤسس لكيان فلسطيني غير رسمي متناغم مع التوجه الإسرائيلي لإسناد إدارة غزة بفلسطينيين خارج الإطار السياسي الرسمي، وذلك بإنشاء هيئة جديدة لحكم غزة بعد الحرب تحت مسمّى “اللجنة الوطنية”، التي ستتكون من رجال أعمال وقادة فلسطينيين متوافق عليهم من قبل الإمارات و”إسرائيل” والولايات المتحدة.
ما بين مساعي الإمارات وتشكيل اللجنة الوطنية، وجدت السلطة نفسها مدفوعة إلى حضن المصالحة مع دحلان، لا حُبًّا فيه لكن كرهًا لسيناريوهات أخرى تستثنيها
تكمن خطورة هذا الحراك بالنسبة إلى السلطة الفلسطينية، خاصة رئيسها محمود عباس، في أنها تؤسس لواقع سياسي فلسطيني وإقليمي ودولي تغيب عنه السلطة كجزء من منظومة الحل، أو الربط فيما يتعلق بالأراضي الفلسطينية، واقع يبدأ من قطاع غزة تأسيسًا لتوسيعه لاحقًا نحو الضفة الغربية.
قد يتم ذلك من منطلقين؛ الأول هو أن اللجنة الوطنية ستؤسّس لدخول قوات عربية ودولية إلى القطاع “لا تشكل السلطة جزءًا منها”، وثانيًا أن اللجنة اجتازت مقدمًا المرحلة الأولى من التنفيذ بحصولها على الموافقة الأمريكية والإسرائيلية، بل بدأت سلسلة مقابلات مع مرشحين محتملين “مقربين من دحلان” ممّن يحظون بعلاقات قوية مع “السفارات الأمريكية” والمنظمات الدولية.
وما بين مساعي الإمارات وتشكيل اللجنة الوطنية، وجدت السلطة نفسها مدفوعة إلى حضن المصالحة مع دحلان، لا حُبًّا فيه لكن كرهًا لسيناريوهات أخرى تستثنيها، والحقيقة إن هذا المنعطف في حراك السلطة هو المفصل الأبرز والأكثر قدرة على تغيير أوراق المنطقة ولاعبيها، مع ما تمثله المصالحة من تغيير في المعسكرات ومن تجاوز للخلافات والخصومة التي بدأت شخصية، ثم تطورت لتمسّ العلاقات الرسمية بين السلطة الفلسطينية والإمارات العربية، التي يقيم بها دحلان ويشغل منصب مستشار حاكمها محمد بن زايد.
لا سيما أن محاولة السلطة الفلسطينية الأخيرة في تسويق نفسها وخططها لليوم التالي بعد الحرب لم تلقَ قبولًا أو صدى، بدءًا من حكومتها الأخيرة المهمّشة دوليًا وإسرائيليًا وعربيًا، وانتهاءً بالمقترح السرّي الذي قدمته للإدارة الأمريكية تعرض فيه خطتها للسيطرة على قطاع غزة بعد انتهاء الحرب على مدى 100 صفحة.
أعلنت فيه “جهوزيتها لليوم الأخير” بقدرتها على تفعيل 12 ألف موظف يتبعونها ويحصلون على رواتبهم من خلالها، بإمكانهم تشغيل الوزارات الفلسطينية وإعادة شبكات الكهرباء والاتصالات. ورغم كمّ الجهوزية التي عكسها المقترح، إلا أن افتقاره لأي حلول أمنية ترتبط بإنهاء حكم حماس أو تعزيز أمن “إسرائيل” أدى إلى رفضه.
تجدد السلطة عبر حركة فتح “جلدها” بإلغاء 13 عامًا من قرارات الفصل التعسفية من الحركة، والتراجع عن قطع رواتب آلاف الموظفين المحسوبين على دحلان، والتعهُّد بتشكيل حكومة بصلاحيات واسعة لإعادة السلطة الفلسطينية إلى غزة، محاولة استحضار دحلان وفق حدودها، على أن للرجل أمانيه التي لا حدود له، حيث وضع شروطًا من ضمنها أن يترشح للرئاسة وأن تحظى بطانته (مروان البرغوثي وناصر القدوة) بموقع في النظام السياسي الفلسطيني.
ويعصر الرئيس الفلسطيني على نفسه ليمونًا بالموافقة على طيّ منحدرات عميقة من الخصام والخلاف في علاقتهما، أملًا أن تكون المصالحة وحراكه الأخير حصان طروادة الذي سيضعه في قلب ترتيبات اليوم التالي للحرب أو على رأسها، محققًا إزاحة لمخاوف تجاوزه بعد انتهاء الحرب وسكون نارها، ومستندًا لدعم حاضنة دحلان الشعبية في غزة والدولية الممتدة من الإمارات والبحرين والمغرب والسودان، حتى الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وصولًا إلى “إسرائيل”.
في كل الأحوال ستكون المصالحة مع دحلان -إن استطاعت تجاوز الاتهامات المتبادلة- خيارًا مربحًا في مقاييس السلطة وحركة فتح، مقارنة بالمصالحة مع غريمتها حماس “المرفوضة” عربيًا ودوليًا “على مستوى الحكومات”، وأشبه بمخرج إسرائيلي بعتبة فلسطينية ليس فقط لليوم التالي في غزة، لكن أيضًا لليوم التالي للقضية الفلسطينية برمّتها.
لا سيما مع ما يحمله دحلان من توجهات داعمة للتطبيع والتسوية، ومن هندسة انقلاب إماراتية مجربة في ساحات عدة دول عربية، ومع ما يمثله في ذاكرة الفلسطينيين من أيام سوداء توعّد بها حكومة حماس المنتخبة ديمقراطيًا باستلامهم “خمسة بلدي”.
ما يعني أن المصالحة بين السلطة ودحلان ستمثل أخطر تحول استراتيجي قد يقوّض سيطرة حماس عسكريًا وسياسيًا منذ السابع من أكتوبر، لا سيما مع تقلُّص خياراتها في ظل هذه المصالحة، وانطباق كمّاشة دحلان وعباس عليها عربيًا وسياسيًا وإقليميًا ودوليًا، مع سهولة تحلُّل كل منهما من مصالحته أو توافقاته معها في وجود البديل.
يشي بذلك توجه الرئيس الفلسطيني إلى روسيا للتوسط في المصالحة مع دحلان، رغم أن الوساطة الصينية قائمة فعليًا بين السلطة وحماس، ما يؤكد أن السلطة لا تُريد للمصالحة الصينية أن تكون جزءًا أو رصيدًا في حساب المصالحة مع دحلان وذلك بفصل الوسطاء، بل أن تكون مفترقًا عنها وعلى حسابها، وهو ما يستوجب من الحركة إعادة النظر في حراكها السياسي وتحديثه بما يخدم التطورات، تمامًا كما تحدّث استراتيجياتها العسكرية بما يخدم الميدان.
السلطة الفلسطينية المتجددة
تندفع السلطة في مصالحتها وتحركاتها، وهي مدركة أنها طرف مرغوب أمريكيًا، لكنها بحاجة إلى القليل من الترويج إقليميًا وعربيًا الذي ستحققه بالمصالحة مع دحلان، فقد صرّح الرئيس الأمريكي بايدن سابقًا: “في نهاية المطاف السلطة الفلسطينية هي التي ستتولى المسؤولية، لكن ذلك يستدعي ترتيبات انتقالية وإجراءات فريدة”.
لهذا تُقدم على خطواتها و”إجراءاتها الفريدة” ما بين الثقة والتوجُّس، فهي تعلم أن وجودها في القطاع من مصلحة “إسرائيل” وحلفائها العرب والغرب، على الأقل سيمثل هذا مخرجًا إسرائيليًا مناسبًا من مستنقع غزة ووحلها على المستوى الدولي والأممي، لا سيما إن ارتبط بوجود إسرائيلي من خلف حجاب على معبر رفح أو محور فيلادلفيا، وبوجود دولي أو عربي “إماراتي مصري سعودي..” بإشراف أمني أمريكي، لا يختلف كثيرًا عن إشراف الجنرال دايتون.
كما سيكون وجودها عبئًا على فصائل المقاومة التي ستقاتل حينها بعين إلى الأمام في مواجهة المحتل، وعين إلى الخلف حذرًا من ملاحقة السلطة وأجهزتها، ما سيخفف الجهد العملياتي على جيش الاحتلال، كما أنها تحظى بوضع قانوني أقوى من دحلان باعتبارها طرفًا رسميًا، وبامتياز طاغ مقارنة بحماس، ناهيك عن أن تنوع علاقاتها العربية يجعلها طرفًا مفضلًا لمختلف الأنظمة العربية -باستثناء الإمارات- التي ستتجاوز التوتر بينهما بالتصالح مع دحلان.
وليس من الواضح حتى الآن إن كان توجه محمود عباس لدخول قطاع غزة مدفوعًا بحراك المصالحة مع دحلان، الذي أشارت مصادر إعلامية إلى بدئه منذ 3 أشهر، أو مدفوعًا لاستباق عودة دحلان نفسه إلى القطاع، لكنه بلا شك لا يسعى لاستفزاز “إسرائيل” أو تهديدها.
فرغم نبرة التحدي والإباء التي صبغ بها الرئيس إصراره على دخول قطاع غزة في كلمته أمام البرلمان التركي، حين قال: “حتى لو كلفنا ذلك حياتنا فليست حياتنا بأغلى من حياة أصغر طفل من قطاع غزة أو من الشعب الفلسطيني، إحنا مش أغلى، ونحن نطبّق أحكام الشريعة، النصر أو الشهادة، النصر أو الشهادة”، إلا أنه بعد عودته قدّم طلبًا لـ”إسرائيل” لتنسّق زيارته إلى قطاع غزة، وسعى لتأمين موكبه أمريكيًا وإسرائيليًا متجاهلًا دورهما في إبادة “أصغر طفل من قطاع غزة”.
بل إنه تراجع عن جسارته “الطارئة” بدفع وزير الشؤون المدنية، حسين الشيخ، لمخاطبة رئيس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي، تساحي هنغبي، لطلب الزيارة، وفيما كان من “المتخيَّل” لزيارته أن تكون فتحًا فلسطينيًا يمنح معبر رفح، الواصل بين الشقيقة مصر والمكلومة غزة، فرصة لفكّ الحصار، فضّل الدخول إلى “أرضه الفلسطينية التي يحق له أن يتواجد في كل شبر منها” عبر الأراضي الإسرائيلية، تاركًا للاحتلال فرصة الهيمنة على الفلسطينيين قيادة وشعبًا حتى الثمالة، ومؤكدًا سقفه الذي وإن ناطحه في خطابه لن يعلو عليه في الواقع.
في المحصلة، ليس بالإمكان التنبؤ بنتائج الحراك الرسمي الفلسطيني ومآلات التصالح مع دحلان، لكن الواضح أن السلطة تلعب في أوراقها الأخيرة، مندفعة بحرارة “الروح” أمام مخططات دفنها، وحاجتها إلى موطئ قدم في غزة.
في المقابل، من المؤكد أن هموم المواطن الفلسطيني في قطاع غزة ومصلحته ونجدته آخر ما يسترعي اهتمام أحد في هذه المعادلة، وأن أي حراك أو مصالحة إنما هي مدفوعة بتقاسم الحصص أو “التركة”، والتماهي مع الرضا الأمريكي الإسرائيلي العربي بانتهاء الحرب الحالية دون الكثير من الخسائر الاستراتيجية.