شعرت المجتمعات الغربية وخصوصًا المجتمع الأمريكي منها بالثقة في المستقبل منذ الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، كان ذلك بعد الحرب العالمية الثانية، الحقبة التي بدأت فيها بعض الدول الغربية باستعادة قاعدتها الإنتاجية لإنتاج المزيد والمزيد، حينها بدأ الناس بالشعور بالرخاء أكثر، وكان لديهم مزيد من الأموال مقارنة بحالتهم في الماضي، إلا أنهم على الرغم من كل تلك الأموال لم يكن لديهم كثير من الخيارات ليفكروا في أفضل طريقة لصرف تلك الأموال.
لقد كانت الخيارات محدودة وكان لكل شيء معايير معينة، بداية من الملابس التي يشترونها من المتاجر إلى خيارات الطعام التي يختارون من بينها في المطاعم، إلا أن تلك المجتمعات آمنت بأن حرية الفرد تتمثل في قدرته على الاختيار، وقدرته على الاختيار تلك تزيد مع زيادة عدد الخيارات، وبالتالي يجب على المجتمع زيادة عدد الخيارات لكي يكون لدى أفراده مزيد من الحرية.
أسمى علماء الاجتماع ذلك المجتمع – وبالأخص المجتمعات الغربية الحديثة – بمجتمعات “القياس المنطقي” أو ما هو معروف في الإنجليزية بـ”syllogism”، وهي المجتمعات التي تقيس الحرية بمدى تنوع الاختيارات الموجودة حولها، وبالتبعية فإن مزيدًا من الحرية يعني مزيدًا من الرضا والسعادة في تلك المجتمعات التي من الصعب عليها الاقتناع بأي شكل معاكس لذلك من الحياة.
يقول الطبيب والعالم النفسي الأمريكي باري شوارتس الذي يدرس العلاقة بين الاختيار والسلوك الإنساني في كتابه “مفارقة الاختيار”، أن الأفراد الآن يمتلكون أكبر قدر من الاختيارات مقارنة بالناس في العقود السابقة، لقد كان للناس خياران لا ثالث لهما إن قررا الدخول إلى متجر للملابس لشراء بنطال من الجينز، كما كان لديهم وجبات معينة يفضلون تناولها في حالة تناول الغداء في مطعم ما، وكان هناك أوقات لم يمتلك الناس سوى شركة اتصال واحدة، ولم يكن لديهم وسيلة للاتصال سوى عن طريق تأجير الهاتف.
في رأي شوارتس لم يكن للناس خيارات متعددة يختارون من بينها، ولهذا كان لسقف توقعاتهم حد متواضع، فعلى الرغم من عدم كفاءة كل ما كانوا يمتلكونه في ذلك الوقت، وعدم وصولهم إلى مستوى الجودة أو مستوى الراحة الذي وصل إليه الناس الآن، فإنهم كانوا راضيين عنهم، الآن يمتلك المرء عشرات الأنواع والعلامات التجارية المختلفة من نوع الحليب الذي يود شرائه يوميًا، أو نوع الملابس الذي يحاول الإنسان تجريبها عليه لساعات طويلة داخل المتاجر إلا أنه يخرج متذمرًا باحثًا عن الأفضل لأنه يعلم أنه موجود طالما كانت كل تلك الخيارات موجودة أمامه.
لماذا لا نسعد باختيارتنا دومًا؟
هناك مشهد قد تراه كثيرًا في البلد الذي تعيش فيه وفي كثير من البلاد حول العالم، لم يعد للأطباء سلطة آمرة على مرضاهم، لم يعد يملي عليك الطبيب ما يجب أن تفعله بل يترك لك الخيار، حينها يملي عليك أن أمامك اختيار (أ) وأمامك اختيار (ب)، وإن جربت أن تسأله ما الخيار الأفضل سيعيد عليك إجابته الأولى بأن أمامك خيارين ولك حرية الاختيار، لا يتكرر هذا المشهد في عيادات الأطباء فحسب، بل موجود في كل المجالات تقريبًا، لا يتحمل أي شخص في أي مجال مسؤولية الاختيار عنك طالما في يدك أنت حرية الاختيار، وحينما لا تكون العواقب على ما يرام هناك شخص واحد يتحمل الذنب، وهو أنت!
لقد تحول قرار الاختيار من شخص لديه علم بالأمور، من الطبيب في حالة المثال السابق، إلى شخص لا يمتلك نفس القدرة من الخبرة والعلم، بالإضافة إلى جعله يختار قراره تحت ظروف قاسية من الضغط العصبي والمشاعر الجياشة، إلا أن شوارتس رأى أن كل ذلك يصيب الإنسان بالشلل، فجد في دراسته لحرية الاختيار والسلوك الإنساني أن الإنسان لا يستطيع الاختيار حينما يكون أمامه كثير من الاختيارات، وهو ما وصفه شوارتس بمرحلة الشلل، حيث يُشل عقل الإنسان لفترة قصيرة من الزمن مما يؤثر ذلك على سلوكه ويجعله في حاجة ماسة لشخص ما ليختار بدلًا منه.
وجد شوارتس أن مسألة تعدد الاختيارات لم تؤثر فقط على السلوك الإنساني حيال المنتجات التي يشتريها، بل أثرت أيضًا على حياته الشخصية والاجتماعية، حيث ضرب مثالًا لذلك بالحياة الزوجية، ووصف أنه حينما كان طفلًا كان من الطبيعي أن يكون تفكير الأشخاص في الزواج بأسرع وقت ممكن، وكان السؤال الوحيد الذي يشغلهم هو من الشخص الذي يجب عليهم الزواج به، الآن ومع تعدد الخيارات لكل فرد وحريته في طريقة الحياة التي يعيشها يفكر الناس في كثير من الأسئلة بشأن مسألة الزواج بالتحديد، هل يتزوجون أصلًا أم لا، أم هل يجب عليهم التفكير أولًا في مستقبلهم المهني، أم هل عليهم الانتظار طويلًا قبل الإقدام على أمر مثل الزواج.
نحن نشعر بالتعاسة تجاه اختياراتنا بشكل أكثر مما كنا سنشعر به في حالة وجود خيارات محدودة أمامنا
يعتبر مصطلح “الفرصة الضائعة” الموجود في الاقتصاد من أهم المصطلحات التي تجمع بين حرية الاختيار والسلوك الإنساني، الفرصة الضائعة باختصار هي كل ما يتخلى عنه المرء في سبيل الاختيار الذي يختاره، وهي شيء يقوم به الإنسان يوميًا، فأنت تتخلى عن 20 ريالًا مقابل وجبة معينة، لقد اخترت تناول الوجبة على الاحتفاظ بالـ20 ريالًا، هذا يعني أنك تخليت عنها وتلك الـ20 ريالًا هي الفرصة الضائعة، كما هو الحال في حرية الاختيار، يختار المرء الرضا بمنتج ما أو مكان ما أو وظيفة ما مقابل تخليه عن بدائل أخرى، وذلك لأنها في نظره ستحقق المنفعة الأكبر.
يرى شوارتس أن الفرصة الضائعة هي ما تجعل الإنسان الحاليّ أقل رضا من الإنسان الذي عاش حياته في الخمسينيات أو الستينيات من القرن الماضي، وذلك لأن الإنسان الحاليّ يمتلك عشرات بل مئات من الخيارات أمامه بشكل يومي، ولهذا فإنه يتخلى عن الكثير من الخيارات مقابل خيارات أخرى بشكل مستمر، مما يجعله غير متيقن من أهمية أو منفعة الخيار الذي اختاره لنفسه في النهاية، لم يعد الفرد متيقنًا من أنه اختار الوظيفة الأنسب له أو أنه اختار المنتج الأنسب من بين عشرات المنتجات الأخرى، أو أنه اختار الشخص المناسب للزواج بينما كانت لديه فرصة أن يبحث أكثر، ولهذا يجد “شوارتس” أننا أقل رضا بما اخترنا بعد أن أصبح سقف توقعاتنا عالٍ لدرجة أننا لن نستطيع أبدًا الوصول إليه أنفسنا.
هل قليل من حرية الاختيار يمنحنا الرضا والسعادة؟
محاضرة عالم النفس “باري شوارتس” عن حرية الاختيار وعلاقتها بسلوك الإنسان
ربما يختار الإنسان في النهاية الاختيار الأنسب له بالفعل، إلا أنه يشعر بالندم في كل مرة إذا سأل نفسه ماذا لو كنت اخترت الاختيار البديل؟ أو ماذا لو كنت انتظرت قليلًا وفعلت شيئًا مختلفًا؟ أو ماذا لو كنت قبلت بعرض تلك الوظيفة بدلًا من الوظيفة التي أعمل بها الآن؟ كل هذا الندم يؤثر مباشرة على مستوى رضا الإنسان بما يفعله وبما اختاره، ولهذا فإن الإنسان يعلي من قيمة الشيء أو يخفض منها من خلال مقارنته بالأشياء الأخرى، وكلما زادت تلك البدائل كلما قلل الإنسان من قيمة ما يملكه.
يرى بعض العلماء أن “مفارقة الاختيار” هدفها الأساسي جذب مزيد من الزبائن لتحقق أهدافًا اقتصادية
ما قاله شوارتس في أبحاثه بشأن العلاقة بين الاختيار وسلوك الإنسان قد يجعلنا نُصنف الناس إلى فئتين: الفئة الأولى هي الفئة التي تحاول الحصول على النفع الأكبر من خلال المحاولة المستمرة لاختيار الاختيار الأنسب ليقللوا من مقدار الندم وعدم الرضا، وهو ما قد يجعلهم يبحثون للأبد أو لا يرضون بأي شيء، وهناك الفئة التي ترضى لكي توفر على نفسها عناء البحث الطويل، وتوفر على نفسها مشاعر الندم والحيرة، وهي غالبًا ما قد ترضى بما لا يكون الأنسب بالفعل لهم إلا أنهم لا يشعرون بالسوء حياله كثيرًا.
لا يدفعنا علم السلوك الإنساني إلى تفضيل أي فئة من الفئتين السابقتين، ولم يشر أحد إلى أن إحداهما أفضل من الأخرى، توجد لدينا في العالم بلاد قرر حكامها أن تسير على هواهم في كل شيء، في اختيارهم للملابس وألوانها، وفي اختيارهم للوجبات التي يتناولونها، والقنوات التلفزيونية التي يشاهدونها والمواقع المسموح لهم بزيارتها، وحتى الطبقات الاجتماعية المسموح لهم أن يكونوا فيها، لقد رأينا ما فعله نظام شمولي بتدمير قدرة الفرد على الاختيار، ولهذا لا تكون الخيارات المحدودة السبيل لرضا الإنسان، حيث يقول شوارتس إن المشكلة تكمن في سقف توقعاتنا نحن وكيف يمكن للظروف الخارجية التحكم به؛ إما أن تجعله شديد التواضع فلا يقدر المرء على الحلم بالأفضل، أو تجعله عالي جدًا فلا يرضى المرء حتى يبلغه لو استطاع.