يشهد البنك المركزي في ليبيا صراعًا محتدمًا بين القوى السياسية المتناحرة، ما يعيد إلى الأذهان سيناريوهات مشابهة حدثت في دول أخرى مثل فنزويلا، حيث أدى الانقسام السياسي إلى تدهور الاقتصاد وتأجيج الأزمات المالية.
ومع تزايد التوترات، يُثار التساؤل حول ما إذا كانت ليبيا تسير على نفس المسار، وكيف يمكن أن يؤثر هذا الصراع على الاستقرار المالي ومستقبل البلاد الاقتصادي، وسط مخاوف من التداعيات المحتملة حال استمرار هذه الأزمة من دون حلول ملموسة.
انعكست آثار هذا الصراع المتصاعد على إدارة البنك المركزي، بوضوح على اقتصاد البلاد مع إعلان غالبية المصارف الليبية في 26 أغسطس/آب الجاري، توقف كل خدماتها، بالتزامن مع إعلان الحكومة الليبية الموازية والتي يرأسها أسامة حماد إيقاف إنتاج وتصدير النفط حتى إشعار آخر.
مهددات المركزي الليبي
كشف محافظ مصرف ليبيا المركزي، الصديق الكبير، في وقت سابق من هذا الشهر عن تهديدات متزايدة يشهدها المصرف، تهدد أمنه وسلامة موظفيه، وجاء هذا الإعلان خلال لقاء بين المحافظ والمبعوث الأمريكي، ريتشارد نورلاند، بمقر السفارة الأمريكية في تونس، في 13 أغسطس/آب، فيما أعرب نورلاند عن دعم الولايات المتحدة لاستقرار مصرف ليبيا المركزي.
وشدد المبعوث الأمريكي على أهمية حماية هذه المؤسسة السيادية من أي تحركات عنيفة تهدف إلى تغيير قيادتها بالقوة، مشيرًا إلى أن مثل هذه الإجراءات تعيق وصول ليبيا إلى الأسواق المالية الدولية.
وأعرب الجانبان عن قلقهما من التحديات الأمنية المتزايدة التي تواجه البلاد إثر موجة جديدة من الاشتباكات بين الجماعات المسلحة في المنطقة، ما يعمق الأزمة السياسية القائمة.
يقول الخبير الاقتصادي، أحمد ذكر الله، إن الصراع على المصرف المركزي الليبي يتمحور حول توزيع ثروات ليبيا، والتصريحات الأمريكية بشأن الأمر تؤكد أن توزيع الثروات يجب أن يكون من خلال مفاوضات شفافة وشاملة، ويضيف ذكر الله في حديثه لـ”نون بوست” أن محاولة استبدال قيادة المصرف المركزي قد تؤدي إلى فقدان وصول ليبيا للأسواق المالية الدولية، وهذا تهديد مباشر لأي محاولة لتغيير النمط الذي يسيطر على الأموال في ليبيا.
ويعتقد الخبير الاقتصادي أن الإدارة الأمريكية تريد أن يحول محافظ البنك المركزي الليبي، الأموال إلى الجزء الشرقي الخاضع لسيطرة خليفة حفتر ورفاقه، وبذلك يصبح هناك نوع ما من أنواع توازن القوى بين قوى طرابلس العاصمة والقوات في الشرق، وبذلك لا يتغلب طرف على الآخر.
ويعاني البنك المركزي الليبي من خلافات الميزانية، بعد مصادقة مجلس النواب الليبي على ميزانية ضخمة للعام الجاري، والتي رفضها المجلس الأعلى للدولة، ما أدى إلى تصاعد الخلافات السياسية.
وكان رئيس حكومة الوحدة الوطنية، عبد الحميد الدبيبة، انتقد في 15 يونيو/حزيران الماضي نقص السيولة، مؤكدًا أن البنك المركزي بات خارج سلطة الحكومة، وأوضح الدبيبة بالقول: “لا يوجد سبب لجفاف السيولة النقدية من البنوك، هذه البنوك تستغل وضعنا وظروفنا، وهذه البنوك ليست تحت سلطة الحكومة، كثيرون يلومونني والحكومة قائلين إننا قطعنا السيولة النقدية، البنوك ليست تحت سلطتنا على الإطلاق”.
وتصاعد الخلاف بين الدبيبة ومحافظ المصرف الليبي المركزي، بعد إعلان رئيس مجلس النواب الليبي، عقيلة صالح، عن فرض ضريبة تبلغ 27% على مشتريات العملات الأجنبية بطلب من الكبير، في إطار تعديل سعر صرف الدينار أمام الدولار الذي بلغ سعره في السوق الموازية 7 دنانير في حين ناهز 4.85 دينار ليبي في المصرف المركزي.
وقال الدبيبة في كلمة أمام الشعب الليبي في مارس/آذار الماضي، إن بلاده “تواجه قرارًا فرديًا ومؤسفًا يريد أن يسرق 27% من مدخرات ليبيا، ومن جيوب المواطنين الليبيين الكادحين ومرتباتهم، ويجب رفضه من الجميع”.
ويخشى مراقبون ليبيون من انحدار أوضاع البلاد نحو سلسلة من الأزمات الخطيرة، بسبب الصراع الحاصل بين القوى المختلفة بشأن إدارة البنك المركزي.
انقسام المؤسسات السيادية
بعد ساعات من تصريحات رئيس البنك المركزي الليبي بشأن التهديدات التي يتعرض لها، أعلن مجلس النواب الليبي في 13 أغسطس/آب الجاري إنهاء ولاية السلطة التنفيذية برئاسة عبدالحميد الدبيبة، واعتبار رئيس البرلمان عقيلة صالح القائد الأعلى للجيش، وسط ترحيب الجيش الوطني، وتنديد شديد من المجلس الرئاسي والمجلس الأعلى للدولة وحكومة الوحدة الوطنية.
وتعاني ليبيا من تناحر سلطتين: إحداهما حكومة الوحدة الوطنية المعترف بها دوليًا برئاسة الدبيبة ومقرّها العاصمة طرابلس وتدير غرب البلاد، والثانية حكومة أسامة حماد ومقرها بنغازي وتدير كامل شرق البلاد ومدن بالجنوب.
وانعكس انقسام المؤسسات السيادية في ليبيا على الوضع الاقتصادي في البلد الغني بالنفط والذي يعاني من صراعات مسلحة وسياسية منذ الإطاحة بحكم نظام معمر القذافي في عام 2011.
ويعدّ انقسام المصرف المركزي عام 2014 أحد أهم أسباب تضرر الاقتصاد الليبي، حيث تولى شخصان منصب المحافظ، أحدهما مارس مهامه من العاصمة طرابلس، والثاني في شرق البلاد. وبعد نحو 9 سنوات من الانقسام، أعلن المصرف، في 20 أغسطس/آب 2023، عودته كمؤسسة “سيادية واحدة”، مشددًا على حرصه على معالجة آثار انقسامه، وسط ترحيب واسع بين الأوساط المحلية والدولية.
ورغم الآمال الكبيرة في أن يكون توحيد المصارف مثالًا يحتذى به لتوحيد باقي مؤسسات الدولة، يبدو أن هذه التجربة لم يحالفها النجاح.
على خطى تجربة فنزويلا؟
مع تصاعد الصراع السياسي وغياب خطط التنويع الاقتصادي واستمرار اعتماد البلاد على عائدات النفط، يتخوّف مراقبون من انزلاق ليبيا إلى المصير الذي آلت إليه فنزويلا.
ويحذّر خبراء الاقتصاد من دخول ليبيا في “نفق فنزويلا”، التي تشهد أزمة اقتصادية حادة منذ عام 2013 بسبب اعتمادها على النفط فقط، ما أدى إلى انهيار العملة المحلية وارتفاع الدين العام وازدياد البطالة.
ونقل تقرير نشرته صحيفة إندبندنت عربية في مارس/آذار الماضي عن المستشار المصرفي إبراهيم الحداد، قوله: “رغم اختلاف الوضع الليبي العام بعض الشيء عن وضع فنزويلا، هناك تقارب في حيثيات الأزمة واتفاق في الاقتصاد الريعي غير المتنوع والذي يعتمد على مصدر واحد هو النفط”.
ويُرجع الحداد أسباب اضطراب الاقتصاد الليبي إلى عدة عوامل في مقدمتها غياب السياسات الاقتصادية والنقدية وضعف الحكومات المتتالية وإهدارها المال العام وانتشار الفساد المالي والإداري في مؤسسات الدولة.
وانتقد الحداد عدم كفاءة إدارة مصرف ليبيا المركزي وانفراده برسم السياسات وإصدار التعليمات واتخاذ القرارات وفق سياسة ممنهجة، الأمر الذي نتج عنه تخبطًا وانحرافًا عن أهداف المصرف المركزي الحقيقية، ما تسبب في خلق عدم استقرار واضطراب في الوضع المالي والاقتصادي والمصرفي.
وشدد المختصون في الشأن الاقتصادي على ضرورة سرعة التوجه نحو تنويع الاقتصاد الليبي، لتفادي تكرار التجربة الفنزويلية.
جهود لمعالجة الأزمة
مع استمرار الأزمة العميقة التي يشهدها البنك المركزي الليبي وتأثيرها السلبي على الاستقرار المالي والاقتصادي في البلاد، بات من الضروري البحث عن حلول فعّالة لتجاوز هذه المرحلة الحرجة.
يرى الباحث الليبي المختص في الشؤون الإفريقية، موسى تيهوساي، أن إغلاق حقول النفط الناتج عن أزمة المركزي، هي مشكلة حقيقية ستعيد البلاد إلى المربع الصفري، والعودة بالأوضاع إلى ما قبل أربع سنوات.
ويحذّر تيهوساي في حديثه لموقع “نون بوست” من أن الصراع حول المركزي وإقالة المحافظ، بعد أن بقي على مدار السنوات الماضية بمنأى عن الاصطفافات والخلافات السياسية، يعد تطورًا في غاية الخطورة، سيؤثر على علاقة المصرف بالخارج والتحويلات المالية ونظام سويفت.
ويخشى تيهوساي من تعرّض المركزي الليبي لعقوبات دولية من القطاعات المصرفية الكبرى، وهي مشكلة حقيقية ستطيح بالدينار الليبي إلى أدنى حد وقد تجعل الوضع الاقتصادي الليبي شبيهًا بما حصل في فنزويلا.
ويؤكد الباحث الليبي أنه ما زالت هناك إمكانية لتدارك ومعالجة الأمر بشكل سليم وإعادة الوضع إلى ما قبل هذه الأزمة، وهناك جهود محلية وأخرى دولية قد تؤدي إلى إيجاد الحلول لهذه الأزمة بأقل الأضرار ومحاولة إبقاء المصرف المركزي والمؤسسة الوطنية للنفط خارج الاصطفاف السياسي، وإن كان ذلك من الأمور الصعبة بالنظر إلى التجارب السابقة.
وينوّه إلى أن إقفال النفط من قبل الحكومة يعد سابقة لم يشهد لها مثيل في العالم، وهذه مشكلة حقيقية تؤكد مدى عمق وتعقيد الأزمة الليبية، ومحاولة البعض بالذهاب إلى أقصى حد على حساب الاستقرار الاقتصادي والسياسي والاجتماعي.
من جانبه، يرجح ذكر الله أن تتجه الأمور نحو نوع من الحلحلة، حيث تجري العديد من المناقشات حول الأمر وآخرها في تونس، لأن الجميع متضرر من توقف البنك المركزي الليبي، وإغلاقه سيؤدي إلى الكثير من المصاعب الاقتصادية والتداعيات المختلفة.
ويلفت إلى أن الاقتصاد الليبي يعاني بالأصل من أزمة سعر صرف والتناقص الحاد في قيمة العملة، وهناك زيادة كبيرة في معدلات التضخم، وتخوفات من امتداد الأزمة إلى القطاعات الخدمية مثل التعليم والصحة وغيرها، وهناك حشود عسكرية وتوجس من حصول مواجهة عسكرية قريبة.
ويشدد ذكر الله على ضرورة إبعاد البنك المركزي عن الصراعات من خلال تكليف شخصية وطنية مستقلة، بهدف تخفيف الأعباء المعيشية على الشعب الليبي خلال الفترة القادمة.