لطالما كانت الرغبة بالتعرف على التاريخ جزءًا أصيلًا من الثقافة الإنسانية، ولكنّ رؤيته لم تصبحَ متاحةً إلا منذ اختراع السينما والأفلام في مطلع القرن العشرين، ما يمكننا القول أنّ قوة الصور المرئية والحركية أثبتت تفوّقها بكثير مقارنةً بالسجلات المكتوبة والروايات المحكية والمروية، فتمثيل التاريخ من خلال الصور يجعله أكثر طبيعية وحيوية، ما يجعل جمهور المشاهدين على دراية بالوضع كما لو كانوا وسط الحدث بدلاً من الاضطرار إلى تخيله بأنفسهم في حال قرأوه قراءةً أو سمعوه من أحدهم.
تعمل الأفلام على إحياء ذكرى الناس والأحداث التي يشهدونها أو تلك التي شهدتها الأجيال السابقة لهم من خلال قدرةٍ عالية على استغلال التفاصيل غير الشفهية في الرواية، مثل لغة الجسد وأبعاد المشهد وردود الأفعال العميقة على أحداث معينة والموسيقى التصويرية التي تعبث بالعواطف وتؤثر بها. وهُنا، يُصبح السؤال عن دور الأفلام في التأثير على ذاكرة التاريخ واجبًا وضروريًا، فمما لا شكّ فيه أنْ تقوم السينما على خلق ذكرياتٍ خاطئة أو كاذبة لأهدافٍ ومساعيَ معينة يقودها صانعو الأفلام والجهات الداعمة لهم من حكوماتٍ ومؤسسات وجهاتٍ معينة.
فبطبيعة الحال، لطالما كان الأفراد والجماعات يخترعون أو يستسلمون لذكريات لا أساس لها من الصحة أو الواقع، بشكلٍ يتعارض كليًّا مع المعنى الحرفيّ لفعل الذاكرة أو التذكّر، ولعلّ “الذكريات الكاذبة” أو “False Memories” التي نكوّنها في مراحل طفولتنا الأولى وتبقى معنا حتى مراحل متقدمة هي أوضح دليلٍ على ذلك. لكن ماذا يعني أنْ تمتلك مجموعة كاملة ذاكرةً اخترعتها بنفسها واستسلمتْ لها مع الأيام وجعلتها جزءًا من تاريخها ورواياتها السردية وحكاياتها الروائية؟
“الذاكرة الجمعية” هي الطريقة التي تتذكر بها الجماعات تاريخها
هنا يأتي دور “الذاكرة الجمعية”، وهي ذلك الجزء من الذاكرة الذي لا يحدث في إطار فرديّ بحت، وإنما يحتاج لجماعة أو مجتمع يعمل على إنشاء تلك تفاصيل الأحداث ويخزّنها في ذاكرة الأفراد بشكلٍ يتقاطع مع التاريخ والروايات السردية. وباختصار، يمكن تعريف “الذاكرة الجمعية” بأنها الطريقة التي تتذكر بها الجماعات تاريخها. أي أنّنا نتعامل مع الذاكرة هنا لا بكونها فعلًا فرديًّا خاصًّا ومستقلًا بنفسه، ولكن بكونها ظاهرة مجتمعية ذات بُعد جمعيّ تتأثر بالبيئات المجتمعية والعوامل السياسية المحيطة، والطرق التي يتم رسمها لسرد التاريخ ونقله وتغييره من جهة، والتلاعب بالحاضر ورسم المستقبل من جهةٍ أخرى.
الأفلام والذاكرة: إعادة سرد التاريخ وشخصنة الأحداث
يمكن اعتبار السينما والأفلام التاريخية إحدى المصادر المهمة التي تلعب دورًا هامًا في تشكيل ذاكرتنا وهويتنا الجماعية، بطريقة تعكس حقيقة أنّ الحدث التاريخي يمكن أن يصبح حدثًا معاصرًا من خلال إعادة تمثيله وتصويره في الأفلام. إذ توفّر السينما انعكاسًا ذا صلةٍ لديناميات الذاكرة والهوية للجماعات والشعوب، سواء من خلال الدعاية لشعبٍ ما أو لدولته من خلال سرد التاريخ الرسميّ له، أو من خلال توفير منصة قوية للخطابات والبروباغاندا السياسية والاجتماعية الساعية للسيطرة والتحكّم.
مشاهدة الأحداث المختلفة في الأفلام تشبه إلى حد كبير عملية تذكّرها، نظرًا لأنها تعود للماضي وتصبح بعد مشاهدتها جزءًا من ذاكرتنا بحيث يمكن استحضار تفاصيلها ومحتوياتها والعواطف المنوّعة المرتبطة
ومن خلال هذين الأسلوبين، غالبًا ما يسعى صانعو الأفلام إلى التعبير عن العديد من أشكال اللاوعي الجمعيّ والمشترك للمجتمعات في قالبٍ سينمائيّ وسرديّ ذي قدرةٍ للوصول إلى شريحةٍ واسعة من الجماهير مختلفي العمر والجنس والدين والمكانة الاجتماعية والانتماء، وبذلك يمكن للسينما دومًا أنْ تكون أحد أهم العوامل القوية في التأثير والتغيير الاجتماعي-السياسيّ بطرقٍ شتى.
وعندما نتحدث عن “الذاكرة الجمعية في السينما”، فيمكننا أن نشير بشكل أساسي إلى دور الأفلام في تمثيل عمليات الذاكرة الفردية، أو تخصيص بعض أحداث الذاكرة أو القصص كمصادر للتاريخ يرجع إليها الأفراد لاحقًا. فمشاهدة الأحداث المختلفة في الأفلام تشبه إلى حد كبير عملية تذكّرها، نظرًا لأنها تعود للماضي وتصبح بعد مشاهدتها جزءًا من ذاكرتنا بحيث يمكن استحضار تفاصيلها ومحتوياتها والعواطف المنوّعة المرتبطة بها في الوقت الحاضر والرجوع إليها في المستقبل. وسواء كان الفيلم فيلمًا تاريخيًا أو فيلمًا واقعيًا أو خياليًا أو كوميديًا، فهو بالنهاية يحمل رسالةً لجمهوره عن الأحداث بداخله، بطريقةٍ قد تتداخل وتتناقض في بعض الأحيان مع روايات الكتب الدراسية وأعمال المؤرخين والأكاديميّين التاريخيّين.
سعت الحكومات من خلال صناعة الأفلام إلى التحكّم بالفهمَ الأسطوري للماضي وأحداثه لتعبئة الذاكرة كأداة يمكن استغلالها سياسيًا للتحكم بالشعوب وحاضرهم ومستقبلهم
تؤثر الأفلام بشكلٍ كبيرٍ وأساسيّ على روايات الذاكرة من خلال إعادة سرد التاريخ، وعادةً ما تدور أحداث هذه الأفلام حول حوادث تاريخية مشهورة أو معروفة تحمل إحساسًا عامًا بالماضي، وغالبًا ما تقع في فئة أفلام الحرب والدراما. وربما هذا يفسّر الإلحاح الشديد في عالم السينما الغربية والأمريكية على إنتاج الأفلام المتعلقة بالحربين العالميّتين أو حرب فيتنام أو الهولوكوست بوصفها أحد أهم الأحداث التاريخية السوداوية التي حدثت في القرن الماضي، وما يزال أثرها ممتدًا حتى يومنا هذا، أو حتى الأفلام التي تتطرّق لأحداث الحادي عشر من سيبتمر وحرب العراق وأفغانستان.
فلقد سعت الحكومات من خلال صناعة الأفلام إلى التحكّم بالفهمَ الأسطوري للماضي وأحداثه لتعبئة الذاكرة كأداة يمكن استغلالها سياسيًا للتحكم بالشعوب وحاضرهم ومستقبلهم. ولذلك؛ هدفت أفلام الحرب في السينما الحديثة على مدار العقدين أو الثلاثة عقود الماضية إلى إيلاء المزيد من الاهتمام للبعد الوجودي والإنساني للحروب. فأصبحت صورة الهولوكوست، متعددة الجوانب والألحان، لا سيّما مع تركيزها على القصص الفردية والشخصية التي تلعب على وتر العاطفة بعيدًا عن الأحداث السياسية البحتة، خذ فيلمThe Pianist على سبيل المثال، لتستوعب كيف يمكن استغلال الأفلام للعب بالعواطف في سبيل بناء ذاكرةٍ جمعية وعامة عن حدثٍ معين.
مشهد من فيلم The Pianist – إخراج رومان بولانسكي
وفي حديثنا عن الهولوكوست أيضًا، تجدر الإشارة أنّ الرواية السينمائية الصهيونية الرسمية للمحرقة قد ركزت في السابق بوضوح على “الانتصار” الذي تلاه، أي بناء الدولة المزعومة، فتاريخ وقصة الهولوكوست قد أعيد كتابتها في الأفلام لتعكس خلاص “اليهود” والبروباغندا المتعلقة بذلك، مع استثنائها تفاصيل هجرتهم المستمرة إلى فلسطين وبناء أمتهم اليهودية وغرق جذورهم الأصلية إلى جانب قصص المعاناة الفردية والشخصية بما حملته معها من صدمات نفسية واضطرابات عقلية متعددة.
ومع بدء “شخصنة” الروايات والسرد، أي تركيزها على شخصٍ محدد وقصته، أصبح وكأنّ الأفلام تتواصل باستمرار وبشكلٍ مباشر مع الجمهور، ما يساعد المشاهدين على التعاطف بشكلٍ أقوى بمراحل مما لو كان يشاهد قصة عامة، وبالتالي يصبح الأثر على الذاكرة أشدّ عمقًا وأكثر تأثيرًا نظرًا لأن القصص الفردية تغربل الذاكرة بتفاصيل معينة أكثر قربًا للنفس.
وبالمحصلة، يمكننا القول أنّ الميل إلى إضفاء طابع شخصي وفردي على روايات الأفلام التاريخية وأفلام الحروب يفضي إلى مزيدٍ من التأمل وفهم أفضل للتاريخ، ما يجعل للسينما القدرة العالية على تفسير أحداث الماضي المثيرة للجدل بالإضافة إلى خلق رواية بديلة لها وتحليل دوافع المشاركين فيها وتقديم مجموعة من وجهات النظر والمواقف المختلفة.