يمكن لك تعريف هوية المكان من طريقة تصميمه، وبناءً عليه يمكنك استنتاج القيم المهيمنة على المكان من مجرد النظر إلى عمارته وتصميمه الخارجي والداخلي، فمثلًا حينما يتحرك المسافر بين ردهات المطار، يكون في حالة ملتزمة تمامًا بالتعليمات، يتحرك في شكل منضبط من خلال ممرات محددة له من قبل، بحيث لا يكون له حرية الحركة كما يحلو له، تظهر علامات التحكم والمراقبة بشكل واضح جدًا في ردهات المطار التي تكون مصممة على شكل ردهات متصلة بممرات متعددة تجعل المسافر في تركيز تام على الوصول إلى المركز أو الهدف الذي تؤدي إليه تلك الممرات في النهاية.
لا يمكن النظر إلى العمارة في تاريخ الدول على أنها مجرد جماليات للمدن والشوارع فحسب، ولكنها تكشف أيضًا تاريخ النضال على السلطة والقيم المهيمنة على المجتمع، حيث استخدمتها الأنظمة كأداة لإبراز قوتها، فحينما نلقي نظرة على العمارة في الاتحاد السوفيتي مثلًا، لم يكن هناك بناء أو معمار عشوائي، بل كان ممنهجًا لإبراز القيم الأساسية في التاريخ الشيوعي، فلم تعط العمارة الشيوعية أي اهتمام للجماليات الإنسانية وركزت على جعل المباني متطابقة إلى حد كبير كما لو أنها منسوخة من بعضهم البعض من التصميم الخارجي والداخلي، بالإضافة إلى استخدام مواد البناء في حالتها الخام دون إضافة أي من الجماليات إليها فيما يُعرفه المعماريون بـ”الوحشية”.
لقد كان للاتحاد السوفيتي مساحات شاسعة خاضعة للحكم الشيوعي، إلا أن السلطة قررت في كثير من الأحيان أن تختار مساحات صغيرة للبناء لتبني عليها مباني شديدة الضخامة، على الرغم من قدرتها على البناء في مساحات متنوعة وكثيرة، فإن أحد أهداف بناء المباني الضخمة إبراز قدرة الدولة وقوتها.
أحد أشكال المعمار السوفيتي الذي لم يتمتع بأي مظاهر جمالية وتمتع بالتطابق بين كل البنايات في التصميم الخارجي والداخلي
لم يكن للمصعد غرض تسهيل الصعود للطوابق العالية فقط، بل سهل أيضًا جعل السلطة في قمة ناطحات السحاب بعد أن كانت موجودة في الطوابق التحتية
شكل المعمار جزءًا مهمًا من الرأسمالية، أو يمكننا القول في سياق آخر إن الرأسمالية استغلت المعمار والتصميم الخارجي والداخلي بشكل واضح لنشر مبادئ وقيم معينة، كان من أهم الأمثلة التي نراها إلى الآن ناطحات السحاب التي ساعد على وجودها وسهل من الوجود فيها مبدأ المصعد الذي حوّل الهيمنة والسلطة من الشكل الأفقي إلى الشكل الرأسي، وصار للمديرين والرؤساء مكانًا في القمة، بينما توزع أماكن الموظفين في الطوابق التحتية، بالإضافة إلى التصميم الداخلي للمكاتب الذي يجعل لكل موظف القليل جدًا من الحرية والكثير من المراقبة من زملائه ومن أصحاب العمل من خلال المكاتب المفصولة بلوح زجاج أو ألواح شفافة.
هل يمكن للمعمار أن يستخدم لإخضاع المواطنين؟
صورة لمعمار سنان أشهر معماري الدولة العثمانية
يعلن المعمار بطريقته الخاصة عن القوة والهيكلة السياسية والسلطة دون عنف وبشكل سلمي تمامًا، حيث تعكس الهندسة المعمارية القوة السياسية المؤثرة على النظام الاجتماعي للمواطنين، كما تعكس أيضًا الصورة التي يود الحاكم زرعها في المواطنين وتصديرها عن نفسه للخارج، حيث كانت الهندسة المعمارية وسيلة من وسائل إخضاع الحاكم بشكل غير مباشر أشهرها “العمارة الإشعاعية”.
تعتبر مدينة باريس مثالًا واضحًا للعمارة الإشعاعية التي سميت بهذا الاسم نسبة إلى أشعة الشمس التي تخرج من المركز، فبنيت كثير من الميادين في المدينة خارجة منها عدة طرقات على شكل إشعاعات تخرج من المركز وهو في هذه الحالة الميدان، إلا أنه لم يكن له غرض جمالي فقط، بل كان له غرض سياسي يساعد السلطة في الدولة على إحكام قبضتها على المتظاهرين في الميادين من خلال محاصرتها لكل الشوارع الخارجة منها ومنع المتظاهرين من الهروب.
صممت كثير من الميادين على هيئة العمارة الإشعاعية في مدينة القاهرة في مصر كذلك، وتبنت السبب نفسه لإحكام قبضتها على أي شغب أو تظاهر قد يحدث في الميادين، ومثال ذلك ميدان طلعت حرب وسط مدينة القاهرة حيث يظهر هو الآخر على شكل مركز يخرج منه كثير من الشوارع على شكل إشعاعات الشمس.
“العمارة هي السياسة”
ميتشيل كابور، رائد أعمال أمريكي
تتميز العمارة المبنية على الممرات والقنوات الموجودة مثلًا في كثير من بلاد أوروبا الغربية في القرون الوسطى التي لا تزال موجودة في كثير من البلاد مثل إيطاليا وإسبانيا حتى يومنا هذا أنها معمار هندسي يرمز للقيادة نحو المركز أو نحو السلطة بشكل مستمر يؤثر على سلوك المواطنين في حياتهم اليومية من خلال الممرات التي يسلكونها في مشاويرهم اليومية.
العمارة العثمانية.. تخليدًا للسلطان ومناهضة للانقلاب
https://www.youtube.com/watch?v=XEh7uz2nntk
تكبيرات المساجد في تركيا ليلة محاولة الانقلاب الفاشل يوم 15 من يوليو/تموز
احتفل الأتراك بالأمس في الشوارع رافعين أعلام بلادهم من أجل إحياء ذكرى شهداء الـ15 من يوليو/تموز 2016 (شهداء محاولة الانقلاب الفاشلة على تركيا)، إلا أن الاحتفالات لم تقتصر فقط على خروج الشعب للاحتفال في الشوارع بالأعلام والأغاني، وإنما كان للمساجد دور في الاحتفال على طريقتهم الخاصة من خلال التكبيرات التي استمرت ليلًا في كل أحياء مدن تركيا لتذكر الشعب بدور المساجد ليلة الانقلاب، وعلى الرغم من أن الدولة العثمانية انتهت منذ ما يقرب من قرن من الزمان فإن تاريخ الأتراك لم ينس هيمنة المعمار العثماني غير المباشرة على السلطة في البلاد، وكون المساجد ركيزة من ركائز ذلك المعمار.
أما بالنسبة للعمارة العثمانية فتنوعت العمارة العثمانية من خلال عدة مظاهر مهمة، أولها وأكثرها أهمية المساجد ودور العبادة، يليها المدارس التي كان يتم فيها تدريس العلوم بجانب العلوم الدينية، بالإضافة إلى الحمامات العثمانية وأماكن الاجتماع للطعام “التكية”، بالإضافة إلى ما كان يُعرف بـ”kervansaray” أو الخان أي المكان الذي يجتمع فيه التجار والقوافل حيث من الممكن أيضًا أن يُطلق عليه “قصر القوافل”.
للسلطة عوامل مختلفة من عوامل الهيمنة وإبراز القوة، منها المستخدم عن طريق السلاح والعنف، ومنها ما هو سلمي تستخدمه الدولة وتوظفه بشكل أو بآخر لصالحها وصالح سياستها، استخدم العثمانيون ذلك بشكل واضح في معمارهم الفريد من نوعه، إذ كانوا يوظفون المعماريين بشكل رسمي ليكونوا معماري السلطان وتكون مهمتهم الأساسية تخليد السلطان من خلال المعمار، لقد كان ولاء الناس الأول والأخير للسلطان، وكان تخليده بواسطة المعمار أمرًا شديد الأهمية بالنسبة إليهم.
أثبتت الدولة العثمانية قدرتها على الإبداع من خلال الطراز المعماري الفريد من نوعه الذي تطور بشكل محوري خلال القرون التي حكمت فيها الدولة العثمانية، كلما كان المعمار مبدعًا وضخمًا وظاهرًا للعيان، كان لدى المواطنين ثقة بالسلطان الحاكم وزيادة في الولاء له ولأسرته التي كان لها أيضًا نصيب من التخليد، حيث اشتهر وجود آثار معمارية أكثرها المساجد ودور العبادة على أسماء والدة السلطان أو زوجته أو جدته.
كان هناك قوانين خاصة بالمعمار العثماني أبرزت قيمًا من قيم المجتمع آنذاك، من بينها عدم وجود نوافذ مطلة بشكل مباشر على البيوت المقابلة لاحترام الخصوصية وحرمة البيت
صورة للخان أو “قصر القوافل” الخاص بتجمع التجار في مدينة أيدن في تركيا
أما بالنسبة لـ”الخان” أو مكان اجتماع التجار، أحد أكثر الآثار المعمارية الموجودة حول تركيا إلى يومنا هذا ومن أكثر المناطق التي يزورها السياح في كل مدينة تركية، كان الغرض السياسي من الخان أو ما هو معروف في التركية بـ”kervansaray” جمع التجار من كل حدب وصوب، ولكن يفرض عليهم نوعًا من الضرائب للدولة يجمعها صاحب الخان أو الشخص المسمى عليه اسم الخان، قد تكون زوجة السلطان أو أحد أبنائه، ليستخدم الأخير أموال تلك الضرائب للإنفاق على صالح الدولة العام.
يعتبر المعمار من أهم الأشياء الظاهرية في الدولة لإظهار قوة الدولة المالية من خلال قدرتها البنائية لأجمل الآثار المعمارية المتفردة بتصميمها الذي قد يوجود فيها فقط من بين كل دول العالم، كما أنها من خلاله تعكس صورتها عن المواطنين بأن لها قدرة هائلة تفوقهم وتفوق أي منافس لها إن كان داخلي أو خارجي، وبالتالي فهو شكل من أشكال الهيمنة غير المباشرة على المحكومين وأيضًا بالنسبة للعناصر الخارجية.
كان هناك قوانين خاصة بالمعمار العثماني أبرزت قيمًا من قيم المجتمع آنذاك، يمكن للسائح ملاحظتها بشكل واضح حينما يتجول بين المناطق القديمة التي ما زلت محتفظة بالطراز العثماني في البناء، لقد أقر النظام السياسي تلك القوانين في المنظومة العمرانية تعكس فيها القيم والمبادئ آنذلك، من بينها ألا يكون هناك بناية أطول من الأخرى تحجب بناية خلفها عن الرؤية، وألا تكون هناك نوافذ مطلة على منازل بشكل مباشر كي لا تنتهك خصوصية الساكنين، أقرت القوانين مبادئ التفكير في الغير في الحقبة العثمانية وأن المعمار والبناء لا يجب أن يخدم فقط مصالح شخصية دون التفكير في الآخرين.
من باريس إلى إسطنبول إلى القاهرة استخدمت السلطات في حقب زمنية مختلفة المعمار كوسيلة شديدة الأهمية للإخضاع والهيمنة من أجل انعكاس صورة معينة تخدم في المقام الأول والأخير الصورة التي تحب أن ترى السلطة فيها نفسها والقيم والمبادئ التي تود نشرها وتخليدها في التاريخ من خلال الشوارع والمساجد والقبب والعمدان والميادين.