قبل أربع سنوات، حاول الرئيس الألماني المتقاعد يواخيم جاوك، ترميم التاريخ العنصري لبلاده وتوضيح قيم الإنسانية عند البافاري أمام العالم، وقف الرجل يعبر عن شعوره بالأسف والخزي ندمًا على الجرائم الكبرى التي ارتكبتها قوات النازية في اليونان خلال الحرب العالمية الثانية، ولكن الاعتذار عن قتل أكثر من 90 شخصًا بينهم 34 طفلاً وإضرام النار في منازل القرية بأكملها، لم ينف حقيقة تفشي النزعة النازية من جديد في بلاده، وخصوصًا “شرق ألمانيا”.
“أود أن أقول ما لم يرغب الجناة والقوى السياسية قوله، أو ما لم يستطيعوا قوله في السنوات التي تلت الحرب، إن ما حدث هنا كان ظلمًا وحشيًا، وبدافع من الشعور بالألم والخزي أقدم الاعتذار لأسر القتلى”.
من كلمة جاوك خلال زيارته لقرية جيادس شمال غرب اليونان التي سحقت فيها قوات من الجيش الألماني القرية وأبناءها عام 1943.
شرق ألمانيا.. العنصرية في أسوأ صورها
من شرق ألمانيا، تنطلق دائمًا الدعوات العنصرية ضد الأجانب وخاصة المسلمين منهم، واكب ذلك صعود اليمين المتطرف في أوروبا كلها؛ هولندا من جانب ومارين لوبان ابنة اليميني جون ماري لوبان المعروف بتوجهاته المتطرفة تجاه العرب والمسلمين وبريطانيا من جانب مختلف، التي رفض فيها تيار المحافظين فتح حدود البلاد للعرب والمسلمين، خصوصًا منذ اندلاع الأزمة القاتلة في سوريا.
والشرق الألماني تحديدًا معروف باحتضانه للنازية والجيوب السياسية المتعاطفة معها، ومنه دائمًا تخرج الدعوات والمسيرات الرامية إلى طرد الأجانب وخاصة المسلمين، وهو ما أثار قلق الحكومة الألمانية التي عبرت أكثر من مرة عن تخوفها من ازدياد نبرة التطرف في مدن الشرق التي تتوق بين الحين والآخر إلى العودة لأطلال النازية، وهي التوجهات التي يدعمها عدد من قادة الأحزاب بل والمسؤولين أنفسهم.
وفي القلب رئيس وزراء مقاطعة بافاريا الذي دافع عن المحتجين، معتبرًا أن الهجوم على الإسلام والمسلمين والأجانب بشكل عام، يدخل في سياقات التعبير عن الرأي وهو حق تحميه ألمانيا، ولم ينس في سياق تصريحاته التعبير عن شيء ما يحدث داخل الكواليس، معتبرًا أن القلق من المسلمين والمهاجرين حقيقة يجب التعامل معها بجدية.
في سجل تنامي جرائم العنصرية، تحتفظ ولاية شمال الراين وستفاليا (أكبر مدن ألمانيا في الكثافة السكانية) بالمركز الأول في سطوة تيار اليمين المتطرف وتفرده في جرائم العنصرية، تليها برلين، وفيهما يتمركز أغلب النازيين الجدد الذين يعلنون العداء بشكل علني للمهاجرين
تعامل مسؤولي الشرق الألماني، دفع الصحف الألمانية لشن حملة كبرى على جرائم العنصرية التي تفشت في البلاد، وتتبعت التقارير جينات العنف وأثبتت أن نحو نصف الجرائم العنصرية في البلاد بأكملها، تفوح رائحتها من شرق ألمانيا ـ ألمانيا الشرقية سابقا ـ وكانت أهم الصحف التي أوضحت ذلك دون مواربة، صحيفة “ميتل دوتيشه تسايتونغ” التي نشرت تقريرًا سريًا للشرطة الألمانية يؤكد أن 47% من جرائم العنصرية وقعت في الولايات الشرقية من البلاد وعلى رأسهم برلين.
كانت الجرائم ذات الطابع العنصري، بلغت نسب مخيفة بداية من عام 2014 الذي وصلت فيه العنصرية إلى 61 حادثًا، خصوصا أنها واصلت في الارتفاع بشكل غير مسبوق بلغ نحو 40%، إذا ما قورنت النسبة بالأحداث التي تحمل نفس الطابع التي ارتكبت طوال عام 2013 وجميعها سجلت ضد المهاجرين الجدد الذين قصدوا ألمانيا هربًا من الموت في بلدانهم.
ورغم الرغبة الواضحة للرئيس الألماني الأسبق في إبعاد الضوء عن تلك الحوادث حتى لا تتضرر سمعة بلاده، فإن العالم كان يتابع عن قرب تزايد عدد جرائم الكراهية ضد المهاجرين وتنامي شهوات العنف من جديد عند أتباع تيار اليمين المتطرف.
اعتداء على مسجد بمدينة سينسهايم عام 2004
في سجل تنامي جرائم العنصرية، تحتفظ ولاية شمال الراين وستفاليا (أكبر مدن ألمانيا في الكثافة السكانية) بالمركز الأول في سطوة تيار اليمين المتطرف وتفرده في جرائم العنصرية، تليها برلين وفيهما يتمركز أغلب النازيين الجدد الذين يعلنون العداء بشكل علني للمهاجرين.
مع تزايد عدد الجرائم وعدم ملاحقة أعضائها، ألمحت بعض المؤسسات الحقوقية ومنظمة المجتمع المدنى بألمانيا إلى مسؤولية الأمن عن تفشي هذه النزعة، والبعض ذهب في تصريحاته بعيدًا إلى حد اتهام الأجهزة الأمنية بتدبير هذه الحوادث لإجبار المهاجرين على العودة أو مغادرة البلاد على أقل تقدير.
لم يبتعد المجلس الأعلى للمسلين بألمانيا عن دائرة هذه الشكوك التي تحوم حول مسؤولية الدولة الألمانية بسبب عدم مواجهة أحداث العنف بصرامة تبين أنياب القانون ضد جرائم بغيضة
الحكم الصادر ضد خلية “إن إس يو” اليمينية المتطرفة غير كاف، ونطالب بإجراءات قانونية إضافية.
تصريح للمجلس الأعلى للمسلمين بألمانيا، الأربعاء 11 من يوليو 2018، تلميحًا إلى تجاوبه مع الاتهامات بالتواطؤ الحكومي مع أحداث العنف ضد المهاجرين.
لم يبتعد المجلس الأعلى للمسلين بألمانيا عن دائرة هذه الشكوك التي تحوم حول مسؤولية الدولة الألمانية بسبب عدم مواجهة أحداث العنف بصرامة تبين أنياب القانون ضد جرائم بغيضة من هذا النوع، المجلس أشار علانية للأدوار التي تلعبها أجهزة الاستخبارات، وطالب أجهزة الدولة بالانتصار لأسر الضحايا والسلم الاجتماعي، كما طالب باستحداث منصب مفوض خاص بالعنصرية، يكون مسؤولاً عن تقديم تقرير سنوي للبرلمان الألماني “البوندستاغ”، بما يساهم في عمل حالة من التوازن وعدم ترك الحبل على الغارب لأجهزة الأمن وحدها.
كانت البيانات الرسمية الصادرة عن الحكومة الألمانية قد أكدت أن المسلمين من أكبر فئات المجتمع الألماني التي تسقط ضحايا لأعمال عنف، ورصد تقرير حكومي وقوع نحو 1075 عملية اعتداء على مسلمين ومنشآت إسلامية بداية من عام 2017، وهي النسبة التي شكك فيها مراقبون وقالوا إنها أقل بكثير من نسبة الاعتداءات التي جرت على أرض الواقع.
مؤسسات حقوقية خاصة ربطت هي الأخرى بين تزايد عمليات العنف ضد المسليمن، والتصريح العدواني لوزير الداخلية الألماني هورست زيهوفر الذي يشرف على صنع قانون الهجرة العنصري حاليًّا، بعدما أكد أن المسلمين الذين يعيشون في ألمانيا و”ليس الإسلام” ينتمون إلى ألمانيا، وهو ما وضع المستشارة أنجيلا ميركل في حرج بالغ، واضطرت لتصحيح التصريح، قائلة إن المسلمين ينتمون إلى ألمانيا وكذلك دينهم الإسلام.
المسؤولون الألمان ودعم العنف.. أين الحقيقة؟
ثمة عدة عوامل على رأسها وجود رجل مثل زيهوفر على رأس الجهاز الأمني، يجعل الشكوك تتزايد في احتمالية اشتراك الأمن بهذه العمليات العنصرية، جاء ذلك واضحًا على لسان غوكاي صوفو أوغلو رئيس الجالية التركية في ألمانيا الذي قال نصًا: “لقد تعرضت ثقتنا في المؤسسات الحكومية لهزة شديدة، وتلك الثقة يمكن إعادة بناؤها فقط من خلال المزيد من المحاكمات للنازيين والعملاء، وبشكل خاص خلية إن. إس. يو”.
حديث أوغلو تتبعته العديد من التقارير الحقوقية والصحفية التي رصدت وجود أحد أفراد المخابرات الألمانية في محيط إحدى جرائم قتل الأتراك، دون أن يدونها في تقريره، وهو اللغز الذي أرجعته بعض وسائل الإعلام الألمانية إلى التوتر الدائر على المستوى السياسي منذ سنوات بين تركيا وألمانيا، ولهذا دائمًا ما يكون معظم ضحايا العنصرية والنازية الجديدة من الأتراك.
دليل آخر عزز الشكوك في اعتبار ما يحدث أكبر من مجرد أحداث عنف عنصري؛ فالمحاكمات الخاصة التي عقدت لمحاسبة أعضاء خلية إن إس يو، وهي خلية إرهابية أعضائها من النازيين الجدد، وتعني “الجماعة الوطنية الاشتراكية”، استغرقت نحو خمس سنوات وبعدد جلسات تجاوز أكثر 430 جلسة عقدت لمحاسبة أعضاء الخلية على قتل تسعة أفراد منحدرين من أصول تركية ويونانية، بما وضعها على رأس قائمة القضايا الاطول والأكثر تكلفة في التاريخ القضائي لألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية.
إقدام عدد من أعضاء الخلية على الانتحار فجأة ودون مقدمات، وقبل يوم واحد من موعد الإدلاء بشهاداتهم يفجر العديد من علامات الاستفهام لدى المواطن الألماني نفسه قبل غيره
الخلية التي يعتقد أنها ذراعًا أمنيا، نفذت أيضًا هجومًا تفجيريًا في متجر تابع لأسرة إيرانية بكولونيا، بجانب تفجير قنبلة مسامير شديدة الانفجار في نفس المدينة، وارتكاب عدة جرائم سطو مسلح، واغتيالات عشوائية بهدف بث الخوف والفزع في قلوب المهاجرين، ورغم نفي الأمن بشدة اشتراكه في هذه العملية القذرة وتوعده ملاحقة المروجين لهذا الشائعات قضائيًا، فإن إقدام عدد من أعضاء الخلية على الانتحار فجأة ودون مقدمات، وقبل يوم واحد من موعد الإدلاء بشهاداتهم يفجر العديد من علامات الاستفهام لدى المواطن الألماني نفسه قبل غيره.
وليس الأمن وحده، بل جميع عناصر اللعبة في ألمانيا، لديها تصميم غريب على تأكيد فكرة مسؤولية الدولة عما يحدث، وخصوصًا مسؤولي مقاطعات الشرق ولا سيما بعد رفض جميع المحامين الذين كلفوا بالقضية افتراض عنصرية هذه الجرائم، بجانب تجنبهم السير وراء المعلومات التي توصل إليها أسر الضحايا، وتفيد هذا الاتجاه، بما يؤكد أن النازيين الجدد وأحزاب اليمين المتطرف الذين يطالبون بإفساح المجال أمام تطرفهم وعنصريتهم وكراهيتهم للأجانب، سيكشفون الكثير خلال الأيام القادمة، في ظل خوف عالمي من إعادة إنتاج عقلية هتلر ورجاله، لمواجهة أخطر تحديات إنسانية واقتصادية تشهدها المرحلة.