يبدو أن خلق الفن أو حبه وتقديره هو سلوكٌ إنسانيّ أوليّ، فالحضارات الأولى للإنسان خلّفت لنا العديد من الأدلة التي تثبت أنّ ميل البشر للمنحوتات والرسومات الفنّية هو سلوكٌ قديم قدَم تلك الحضارات الغائرة. لكنّ السؤال الذي يبقى يلحّ على العقل كيف ومتى خُلق حبّنا للفنون، والأهم من ذلك، لماذا وُجد ذلك الحبّ والميل؟ هل هو جزء من نزعاتنا الوراثية أم هو نتاج مدروس تمّ تشكيله من قبل بيئاتنا الاجتماعية والثقافية المختلفة؟ وبكلماتٍ أخرى، هل هو هدية من الطبيعة أم نتاج التنشئة؟
بدايةً، لا بدّ لنا أنْ نركّز على أهمية الثقافة لإنتاج الفنّ وخلقه. فبدون ثقافة لا يمكن أن يكون هناك فن، لأنّ الفنّ هو جزء أصيل متأصّل من أيّ ثقافة. إذ يعدّ الفنّ مرآة للثقافة يعكس صورتها ويتحدّث عنها، كما أنّ الثقافة هي البوابة التي تخلق الفنون وتفتح الأبواب لصعودها وتطوّرها وتشرّبها من قبل الأفراد والمجتمعات.
ولكنْ في حال أردنا معرفة الإجابة عن أصل الفنّ وتاريخه، فلا بدّ علينا إذن أنْ نفصل بين الفنّ وآثاره الثقافية. هنا، يمكننا أنْ نتفق غالبًا أنّ الفنّ هو ما يرتبط بالتعبير عن الجَمال. فقد تكون هناك العديد من الأهداف للأعمال الفنّية، لكن ممّا لا شكّ فيه أنّ إثارة الإعجاب بجَمالها واحدٌ من أهمّ تلك الأهداف وأكثرها حضورًا. فذلك الجَمال هو أول من رسم الاتصال بين الطبيعة والفنّ؛ فأنتَ حين ترى منظرًا جميلًا وتستشعر جَماله ستحبّه وتعبّر عن إعجابك به وتُثار عواطفك المتنوعة حياله، أو قد يُلهمك ويجعلك تشعر بالارتباط بشيءٍ ما، أو يمكن أنْ يضربَ عصبًا عاطفيًا يترك أثرًا عليكَ لا يُنسى قريبًا، وربّما كانت هذه العلاقة بين الفنّ والعاطفة تكشف لنا شيئًا عميقًا عنْ أصل الفنّ.
الفنّ كتطوّر: وسيلة للافتتان ولفت انتباه الجنس الآخر
على الرغم من أن الأمر لا يتعلق بالجنس، إلا أن الكثير من جمال الحيوانات ينصبّ في الواقع على إثارة إعجاب الجنس الآخر أو ما يُسمّى في علوم التطوّر بالشريك أو الزوج المتوقّع. فحتى الآن، لم يجد العلماء أي سبب آخر لأنّ الطاووس الذكر يمتلك ذلك الذيل الجميل الأخّاذ الذي يبلغ طوله أكثر من 60% من طول جسمه، إلا لأنّ أنثى الطاووس تنجذب لذلك الذيل بهدف التزاوج والحفاظ على النوع.
ينظر علم النفس التطوّري إلى حبّ البشر للفنّ على أنه نتيجةَ التكيّف الذي تنصّ عليه النظرية الداروينية
لنفهم الأمر أكثر، ينظر علم النفس التطوّري إلى حبّ البشر للفنّ على أنه نتيجةَ التكيّف الذي تنصّ عليه النظرية الداروينية. إذ يرى أنّ تجربة الجمال الفنّي، بشدتها العاطفية ومتعتها، ترجع إلى سنواتٍ من تاريخ البشرية. وكما هو معروفٌ فالتطّور وفقًا لداروين قد عمل من خلال آليتين اثنتين رئيسيّتين: الانتقاء الطبيعي والانتقاء الجنسيّ.
وفي حين أنّ الانتقاء الطبيعي كان يهدف إلى نقل الصفات التي تعطي للكائن الحي قدرة و فرصة أكبر للبقاء و نشر جيناته إلى الأجيال اللاحقة، فإنّ الانتقاء الجنسيّ هدف إلى تطوير ونقل الصفات التي تساعد الكائنات الحية على التزاوج والاستمرار من خلال النجاح الإنجابيّ. فما علاقة ذلك بالفنّ إذن؟
يرى علماء التطور أنّ الكثير من الصفات الجمالية عند الكائنات تطوّرت بهدف البقاء واستمرار النوع
فذيل الطاووس الجميل لم يتطوّر للبقاء، وإنّما كوسيلة لاستمرارية التزاوج ولفت انتباه الأنثى، وبالتالي يمكننا أنْ نقول أن حبّنا للفن وميلنا نحوه كان إحدى الطرق التي يؤدي بها التطور إلى إثارة الاهتمام أو الإفتتان. الطاووس مثالٌ بسيط وشهير، لكنْ فكّر بالأمر من جميع النواحي، بدءًا من الإنسان حتى المناظر الطبيعية والكونية. أليس طريقنا للتطوّر ووصولنا إلى ما نحن عليه الآن كان في النهاية بهدف الافتتان وإثارة انتباه الجنس الآخر؟ ما يعني أنّنا منذ آلاف السنوات أحببنا الفنون بأنواعها المختلفة وانجذبنا نحوها وعرفنا أهميتها لبقائنا واستمرارنا بالمقام الأول.
يتحوّل الجَمال الخارجي إلى رغبة كامنة في دماغ الكائن الحيّ، رغبة بالتزاوج أو الإنجاب أو البقاء
يثير الفن فينا استجابةً عاطفية ويحفّز تواصلنا
وبناءً على تلك النظرية والحالة المتعلقة بها، يتحوّل الجَمال الخارجي إلى رغبة كامنة في دماغ الكائن الحيّ، رغبة بالتزاوج أو الإنجاب أو البقاء. وهذه الرغبة هي حالة ذهنية أو عقلية تؤثر على سلوكياته وتقود تصرّفاته. وهذا هو بالضبط ما تدور حوله الفنون الجميلة عند البشر؛ يستخدمون المحفزات البصرية أو السمعية الفنيّة للتأثير على حالاتهم العقلية أو العاطفية.
وعلى نحوٍ لا يمكن إنكاره، فإنّ تأثير الفنّ في البشر لا يقتصر فقط على الافتتان الجنسيّ كما تنصّ نظرية التطور. فعندما أصبحت العقول البشرية أكثر تطورًا خلال المليون سنة الماضية، أصبحنا قادرين على تخزين تفاصيل واسعة مثل الذكريات والحالات العاطفية المرتبطة بأشياء معينة، وبالتالي كانت اللوحات المنحوتة في الكهوف هي أقدم الآثار التي يتفق عليها علماء الأنثروبولوجيا ومؤرخو الفن على أنها أقدم الفنون التي عرفها البشر، وهي نتاج قدرتنا على التمثيل البصريّ لما حولنا إضافة لتطوّر ذكرياتنا لحفظ ذلك التمثيل.
رسومات الإنسان القديم على جدران الكهوف
ومن المؤكد أيضًا أنّ تلك الرسومات والمنحوتات وغيرها من التمثيلات البصرية عملت على تسهيل التواصل والتعليم بين البشر القُدامى، عوضًا عن أنهم ربما لجؤوا إليها لمختلف القدرات العقلية مثل الحساب وحلّ المشكلات والتفكير، ومع استمرار تطوّر العقل والمعرفة، تطوّر الوعي البشريّ والاستبطان اللذين نعرفهما، ما سهّل القدرة أكثر على التواصل والتعبير عن الذات وعن الأفكار المعقّدة التي بدأت بالظهور شيئًا فشيئًا، ويبدو أنّ تقدير وفهم الفنّ قد تطوّر جنبًا إلى جنب مع تطور الوظائف الإدراكية للدماغ.
اللجوء للتعبير بعيدًا عن الكلمات محاكاةً لفنون الكهف
ومن هذا المنطلق، يلجأ بعض الأطباء أو المعالِجين النفسيين إلى العلاج بالفن كأحد أشكال العلاج التعبيري الذي يستخدم العملية الإبداعية والفنّية لتحسين الصحة البدنية والعقلية والعاطفية للفرد، لما لها من قدرات هائلة في تحفيز الاستجابات العاطفية الإيجابية والذاكرة، إضافةً لتحفيز القدرة على التواصل والتعبير مع المعالِج والآخرين، فضلاً عن تطوير القدرة على حل المشكلات وإدارة السلوكياتهم والمشاعر والحد من التوتر وتحسين احترام الذات والوعي.
يتم اللجوء للفنّ كعلاج تمامًا كما لجأ إليه البشر الأوائل للتعبير عن أنفسهم والتواصل فيما بينهم.
تكمن أهمية العلاج عن طريق الفن في أنّ معظم أشكال الاتصال الأخرى تحتاج إلى استخدام الكلمات أو اللغة كوسيلة للتواصل. وفي كثير من الأحيان، يكون البشر غير قادرين على التعبير عن أنفسهم ضمن هذا النطاق المحدود، لذلك يتم اللجوء للفنّ كعلاج تمامًا كما لجأ إليه البشر الأوائل للتعبير عن أنفسهم والتواصل فيما بينهم.